Skip to main content

Full text of "كتب فاضل الربيعي"

See other formats


مركز دراسات الوحدة العربية 





ما يعد الاستشراق 
الغزو الأمريكي للعراق 
وصوده الكولوبياليات الس 








هذا الكتاب 





«إذا كان (الاست ستشراق) الكلاسيكي يرتبط بصورة ما من الصورء ببزوغ 
عصر الاستعمار القديم ف فى الشرق؛ فإن (ما بعد الاستشرا ق) يرتبط » بصور 
متنوعة ا خصر لہا زی عقي استعماري نید تسب سلسلة من 
الزلازل والمتغيّرات» تكاد رجّاتها الأولى تسمع في كل أرجاء الوطن 
العربي والعالم الإسلامي . 

لقد كشف غزو العراق» . . . المدى الذي بلغته «شرْقئّة» الشرق - أي 
الطريقة التي تمّ فيها تخيّل الشرق وإنشاء صور خيالية عنه ‏ تماماًء كما 
كشف عن القدر المفرط من القسوة والعنف حيال أي بلد يفكر مجرد 
تفكيرء بالدفاع عن استقلاله ومصالحه الوطنية . وفي الغالب الأعم» 
سوق تبج العف متلازما مع نشر صور وحشية «١للآخرا.‏ . . بحيث 
يؤدي ذلك تلقائيا إلى معاملته كمتمرد» أو «مارق على إرادة المجتمع 
الدولي». وهذا هو الوضع الذي وجد العراق نفسه فيه طوال أكثر من 
عقدين من الزمن. ومع الغزو الأمريكي للعراق يكون الغرب بأسره ‏ لا 
الولايات المتحدة وحدها وحسب قد تعرّف إلى الشرق القديم نفسه من 
جديدء ولكن هذه المرة بواسطة أدوات جديدة من العنف تخطت كل 
نتائج الكولونياليّات القديمة وتقاليدها. 
فاضل الربيعيب 

© كاتب وباحث عراقي مقيم في هولندا. 


© عضو اتحاد الأدباء العراقيين» واتحاد الكتاب ولغ 
" له مؤلّفات عديدة منها: 


-الشيظان والعرش (1195) 
- إرم ذات العماد (1199) 
- كبش المحرقة ors)‏ 
- شقيقات قريش (۲۰۰۱) 
- أبطال بلا تاريخ )۳( 
- الجماهيريات العنيفة ونهاية الدولة الكاريزمية (۲۰۰۵) 


مركز دراسات الوحدة العربية 


بناية «سادات تاور»» شارع ليون» ص. ب: ١١7 ٦٠١١‏ 
الجمراءه یروت ١۹د (٥۳‏ - لفان 
تلفون : £ A‘ 10AV . A*\oOAY - A34۱‏ )411+( 
برقياً : (مرعربي )2‏ بيروت 
فاكس : 695115885 
e-mail: info @caus.org.1b‏ 
Web site: http://www.caus.org.1b‏ 


ISBN 978-9953-82-115-3 


9775000 5 





ما بعد الاستشراق 
الفزو الأمريكي للمراق 
وعودة الكولونياليات البيضاء 





ف 


مركز دراساث الوحدة العربية 


ما بعد الاستشراق 


الغزو الأمريكي للعراق 
وعودة الكولونياليات البيضاء 


فاضل الربيعي 


الفهرسة أثناء النشر-إعداد مركز دراسات الوحدة‌العربية 

ما بعد الاستشراق: الغزو الأمريكي للعراق وعودة الكولونياليات البيضاء / 
فاضل الربيعي . 

٤‏ ص. 

ببليوغرافية: ص ۲۹۲-۲۸۵ . 

يشتمل على فهرس. 

ISBN 978-9953-82-115-3 

.)7١١7( الاستشراق. ۲. الحرب الأمريكية - البريطانية على العراق‎ .١ 
الليبرالية. أ. العنوان.‎ .۳ 
2 3 


«الآراء الواردة في هذا الكتاب لا تعبّر بالضرورة 
عن اتجاهات يتبناها مركز دراسات الوحدة العربيةة 


مركز دراسات الوحدة العربية 


بناية «سادات تاوره شارع ليون ص.ب: ١17 - 5001١‏ 
الحمراء ‏ بيروت ۲۰۹۰ ١١١”‏ - لبتان 
تلفون: 859155 - 10۸۲*°^۸ _ 8١37641‏ )4111+( 
برقياً: «مرعربي» - بيروت 
فاكس: 856658 )+9451١(‏ 


e-mail: info @caus.org.lb 
Web Site: http://www.caus.org.lb 





حقوق الطبع والنشر والتوزيع محفوظة للمركز 
الطبعة الأولى 
بیروت» شباط/ فبراير ۲۰۰۷ 


ثانياً 
الفصل الثالث 
أولاً 
ثانياً 
الفصل الرابع 
أولاً 
ثانياً 


: من رحلات الاستشراق الأولى إلى ما بعد الاستشرا 


: اوروبیون وفرس وهنود 11 011011 


: مشكلة مفاهيم 000 011111111 
: خطاب الحرية في حملة الجنرال مود SSeS‏ 
: حول التاريخ الاستشراقي aS‏ 
: فساد مالي وأصابع أجنبية 000701 
: برتغاليون تحت شرفات الأضرحة 0# 
: أوهام النخبة : إخفاق الليبراليات الجديدة 1 
: فشل الليبرالية الأولى EE‏ 
: فشل الليبرالية الثانية ES‏ 
١‏ - تنامي وصعود «الأصولية الإسلامية» a‏ 
۲ مسألة السلام مع إسرائيل E E‏ 
أ- تعريف إسرائيل لنفسها 110100( 


6 


05-00-0000 


وقوةقة ةم ةمدقم 


ean 


¥ 


۳0 
۷ 
oY 
y۲ 


الفصل الخامس : من الهند القديمة إلى أفغانستان الجديدة: 


عودة الكولونيالئات البيضاء AR ES‏ 55# 
أولاً : استشراق جديد» شرق أوسط جديد» عراق جديد ا 
ثانياً : ليبراليون وغزاة A‏ 
١‏ - من تحالف الشمال الأفغاني إلى اللويجركا العراقية ES‏ 
۲ - البحث عن عامل خارجي A‏ 


الفصل السادس : أساطير ما بعد الاستشراق Rola E a‏ 


أولاً : الانتصار الوهمي للأسطورة E O OS‏ 
ثانياً ‏ : مأساة «الأفغان الجدد» إسلام جديد ضد إسلام عتيق 200 
١‏ استنتاجات عامة ASAS‏ 
أ- من محو العراق إلى إعادة دجه E A‏ 
ب الال والتضليل الإعلامي 1 01111 
ج التلاعب بالمفاهيم التقليدية e‏ 
د من تغيير المفاهيم إلى تغيير الثقافة SA‏ 
۲ - رمزیات الانتهاك OE‏ 
أ الأسطورة الأولى : نساء طالبان العراقيات A‏ 
ب - الأسطورة الثانية : حمانة الهندية وماتيلدا الأمريكية 000 


ج - الأسطورة الثالثة: ماكينة تقطيع البشر في «أبو غريب» : 
تار بخان لسجن واحد فق REEDS es‏ 


خلا 2 ووه يذب 2 


ا بتحراق) الكلاسيكي ور يضورة ماامن الو ببزوغ عصر 
حصر لهاء LYS‏ ا ل 
تكاد رجّاتها الأولى تسمع في كل أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي . 


لقد كشف غزو العراق» كما لم يكشف أي عمل عسكري عنيف آخرء المدى 
الذي بلغته «شزقتة» الشرق ‏ أي الطريقة التي تمّ فيها تخيّل الشرق وإنشاء صور 
خيالية عنه ‏ تماماً. كما كشف عن القدر المفرط من القسوة والعنف حيال أي بلد 
يفكر جرد تفكير» بالدفاع عن استقلاله ومصالحه الوطنية . وفي الغالب الأعمء 
سوف يصبح العنف متلازماً مع نشر صور وحشية اللآخر؛ وتاريخه وثقافته وحتى 
لمعتقداته الروحية؛ بحيث يؤدي ذلك تلقائياً إلى معاملته كمتمرد» أو «مارق على 
إرادة المجتمع الدولي». وهذا هو الوضع الذي وجد العراق نفسه فيه طوال أكثر من 
عقدين من الزمن. ومع الغزو الأمريكي للعراق يكون الغرب بأسره ‏ لا الولايات 
المتحدة وحدها وحسب - قد تعرّف إلى الشرق القديم نفسه من جديد» ولكن هذه 
المرة بواسطة أدوات جديدة من العنف تخطت كل نتائج الكولنياليات القديمة 
وتقاليدها. 


إن الغزو الأمريكي من منظور عمل ما يعد الاستشراق ونشاطه ونتائج دراساته 
يبدو بالفعل نوعاً من «الاستقصاء الوحشي؟ لصحة المقولات التي توصل إليها 
الاستشراقيون الجدد بصدد الوطن العربي والعالم الإسلامي . بكلام آخر؛ إنه نوع من 
التعرّف الميداني إلى الآخرء يقوم فيه» كتفأ إلى كتف» عسكريون وأنثروبولوجيون 
وعلماء اجتماع ورجال إعلام. وبطبيعة الحال» فقد نبض بالجزء الأعظم من هذا 
العبءء علم زائف يتعيّش على نتائج الاستشراق القديم. وبذلك أصبح العام العربي 


۷ 


من جديد» وداخل حقل الدراسات الشرقية» موضوعاً استعمارياًء ونموذجاً دراسياً 
في الآن ذاته. وكما كان عليه الحال في مطالع القرن الماضي من الناحية الميدانية 
والفعلية - وليس في نطاق الدراسات والتقارير والبحوث والمواد والمعلومات 
وحسب - تعرض العراق» كما لم يتعرض أي بلد آخر في العالم» لنمطٍ غریب وشاذٍ 

من التخيّل تمّ من خلاله إنشاء صورة خيالية نموذجية لبلد شبيه بأفغانستان» ولكنه 
يخبئ أسلحة تدمير شامل في مكان ماء وهو يعجٌ فوق ذلك «بإرهابيين أصوليين؟ 
وجماعات من «الانتحاريين المهووسين» الذين يبددون الحضارة الإنسانية بالفناء. إن 
التهويل بخطر العراق طوال سنوات من الحصار الجائر الذي أودى بحياة ما يزيد 
على نصف مليون طفل» وتضخيم صورة التهديد الذي مئّله النظام السابق» يمكن 
لهما أن يتجلياء وعلى أكمل وجه»ء نموذجاً ساطعاً على نمط التخيّل الجديد. 


إن تجربة الاحتلال الأمريكي للعراق في 4 نيسان/ أبريل 2٠٠١7‏ تبن بوضوح 
أن هذا البلد كان ضحية تخيّل مدروس» هو في النهاية نتاج سيل لا يكاد يتوقف من 
الدراسات والبحوث والمواد الإعلامية والسياسية التي نمض بعبئها جيل جديد من 
المستشرقين العاملين في مختلف حقول الدراسات الإنسانية والسياسية في المعاهد 
الأمريكية والأوروبية على حد سواء. ولعل تحوّل العراق» فجأة» وفي غضون وقت 
قصير فقط من احتلاله؛ إلى موضوع دراسي مفضل لاختبار مقولات ما بعد 
الاستشراق» يمكن له أن يكشف أيضاً عن المغزى الحقيقى لهذا النمط من الإنشاء 
ووظائفه البعيدة المدى . إن ما بعد الاستشراق ‏ وبتعريف مكف هو مجموع 
الكتابات والدراسات والتقارير والبحوث والمواد الفكرية والسياسية الصادرة عن 
الجامعات» أو عن مراكز الدراسات والبحوث في الولايات المتحدة الأمريكية 
وأوروبا. وهو كذلك جميع المواد الإعلامية والتعليقات التي درست وحللت» أو 
علّقت على أحداث ووقائع تخص مجتمعات الشرق العربي المسلم» ووجدت طريقها 
إلى مراكز صنع القرار كمقترحات تنفيذية . وهذه ينتجهاء عادة» عاملون في جالات 
البحث التاريخي والاجتماعي والسياسي والثقافي والإعلامي» ويساهم فيها إلى 
جانب الدارسين المتخصصين» جامعو معلومات ومنتجو برامج وأفلام» وحتى كتّاب 
أعمدة في كبريات الصحف الغربية» فضلاً عن جيش من الموظفين الذين يكرسون 
كل أوقاءهم لدراسة المعلومات والموادء والتحقق من مصادرها. 

لقد كشف غزو العراق» كما لم يفعل أي غزو سابق في تاريخ هذا البلد» عن 
الدور المتنامي في عالم اليوم لمراكز البحث والجامعات» ولوسائل الإعلام الغربية 
والأمريكية بشكل أخص» في صياغة وعي الجمهور العام وآرائه ومواقفه في كل 
مكان من العالم. ولكنه في المقابل» كشف عن الدور المذهل الذي لعبه الاستشر 


۸ 


الجديد في تكريس صور نمطية لا سابق لها . وهذه من دون مراء» عناصر أساسية 
ساهمت كلها وفعلياً في «شيطئة» مجتمعات بأكملها ومن بينها العراق . وبطبيعة 
الحال؛ فقد كان العراق» قبل غزوه وطوال سنوات من الحصار الجائرء موضوعاً أثيراً 
عند جيل جديد من المستشرقين» من ذوي النزعات الاستعمارية . إن إعادة تعريف 
الكم الهائل من الكتب والمقالات والدراسات التي اهتمت بعالم العرب السياسي 
والثقافي» ورؤية طبيعة صلتها بما أنتجه الاستشراق القديم (الكلاسيكي) من مواد 
شبيهة وممائلة» سواء أكان عن العراق أم عن الوطن العربي والعالم الإسلامي» يغدو 
اليوم مهمة ملخة لا تقبل التأجيل . وحري بنا نحن العرب الذين أصبحنا مع 
الاس ستشراق الجديد موضوعاً دراسياً» أن نقدّم تعريفاً دقيقاً لهذه ا مواد وأن نقوم 
بتفكيك صورها النمطية المتكررّة» أو المعاد إنتاجهاء لأجل رؤية نوع وطبيعة وظيفتها 
أو روابطها مع الاستشراق الكلاسيكي القديم . 

المثير للاهتمام أن معظم ما ينشر ويبث ويذاع من مواد فكرية وثقافية وسياسية 
عن العرب» وعالمهم الروحي والسياسي› ومشكلاتهم ومعتقداتهم الدينية وطقوسهم 
وشعائرهم الدينية» وحتى «ملابسهم الغريبة « بات يرتكز على تصورات ومزاعم 
وأفكار عنصرية عن «صدام حقيقي محتمل بين ا حضارات «. وفي هذا الإطار يمكن 
تحديد المحاور الرئيسة لنشاط ما بعد الاستشراة 


داعال المرب الاجتماعي والروحي الذي كاذ مرف رعا انيرا من مو شبوعات 
الاستشراق الكلاسيكي» مع بزوغ عصر الاستعمار الأوروبي في مطالع القرن 
الماضي ؟؛ أضحى من جديد» ومع بزو م عصر الاستعمار الحديد (الجماعي) بقيادة 
الولايات المتحدة الأمريكية؛ E‏ ادي بقار 
تصح تسميته ب (ما بعد الاستشر شراق) . بالطبع ومن دون أن تتغيّر» د 
للغاية» الأهداف والدوافع التي قبعت خلفه . إن ما بعد الاستشراق من هذا المنظور 
هو تطوير» بأدوات جديدة» للاستشراق الكلاسيكي نفسه» وأن الميدان الحيوي 
لنشاطه يقع داخل حقل السياسة» لا خارجهاء وداخل حقل الثقافة؛ لا خارجها 
أيضا . 1 

لقد انتهت الوظائف التاريخية للاستشراق القديم مع نهاية الاستعمار وبزوغ فجر 
الاستقلالات الوطنية في العالم الثالث. ولنقل بكلام أنسبء إن هذه الوظائف 
استنفدت أغراضها الأصلية بعد أن تراخت أهداف الاستشراق مع زوال العصر الذي 
ولد فيه . ثم إن حلوله وأفكاره فقدت أية قيمة علمية لهاء وربما تكون أهميتها قد 
تلاشت كلياً مع تلاشي الأسس التي قام عليها عالم الاستعمار القديم في الشرق. 
ومع ذلك؛ فمن المؤكد أن الحلول والتصورات الزائفة والمرائية التي ابتكرها 


84 


الاستشراق في الماضياللشرق العظيم؛ قد تبددت هي الأخرى. ولكن» ومع عودة 
الاستعمار القديمء أو ما بات يعرف اليوم بالاستعمار الجديدء بدأ علم زائف وجديد 
يطل برأسه على الوطن العربي» وبخاصة بعد غزو العراق» ليقدم نفسه للعرب 
ولسواهم من الشعوب» على أنه علم يعيد» بموضوعية وحسن نيات أكثر» دراسة ما 
درسه الاستشراق القديم . بيد أن معظم ما ينشر ويكتب عن العراق» بشكل أخص» 
وعن العرب والوطن العربي بشكل أقل وضوحاًء يكاد يكون نوعاً من إعادة إنتاج 
المواد القديمة نفسهاء تلك التي سبق للاستشراق الكلاسيكي أن استخدمها في رسم 
صوره الشيّقة عن العرب . لقد حلت أهداف ما بعد الاستشراق ووسائله ووظائفه 
محل أهداف ووظائف الاستشراق القديم . ولذلك فهو يبدو علما زائفاً شديد المكر 
والخداع والقسوة. 

ولأن ما بعد الاستشراق هذاء لم يخضع للنقد والتصنيف والتحليل من جانب 
النخب الفكرية العربية» وفي غالب الأحيان» جرى تجاهل متعمد للنتائج » والتعامل 
مع منظريه بشيء من الانبهار والإعجاب والتصديق؛ فقد باتت الحاجة ملّحة أكثر 
فأكثر لدراسة موضوعية تعيد ربط (ما بعد الاستشراق؟ برمته» باستراتيجية الغرب 
الهادفة إلى تأمين عودة الاستعمار من جديد إلى المنطقة. إن ما نشر عن العراق من 
كتب ودراسات ومواد إعلامية ذات طابع تحريضي هستيري» وفي الغالب حول 
برنامجه النووي وصلته بالقاعدة وبن لادن - وهو أمر سيؤدي تالياً إلى مأساة مروعة مع 
تعرض هذا البلد التعيس لعملية قرصنة دولية شاملة ‏ يكشف لناء» وبصورة لا تقبل 
التأويل» مغزى القصص والأساطير التي نشرها الغرب عن العراق . 

إن عام العرب الروحي والثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي» هو 
الحقل النموذجي الذي يدرسه. ما بعد الاستشراق» اليوم وبأدق التفاصيل . وهذا 
الحقل يخصٌ» في الصميم» الأهداف المباشرة للسياسة الاستعمارية الجديدة. إن 
الشطر الذي صدرنا فيه أحد فصول البحثء والمأخوذ من قصيدة طويلة كتبها رجل 
دين وشاعر ثائر في عام ١974‏ يصور فيها محاولات البريطانيين «مبنيد العراق؟ أي 
تحويله إلى امتداد استعماري للهندء يلخص على وجه الدقة طبيعة التخيّل الاستشراقي 
الذي قام فيه البريطانيون للعراق آنذاك . كما يلخص درجة ونوع رد الفعل الذي أثاره 
عند العراقيين. 

لقد :بض الاستشراق الكلاسيكي السياسيء المتلازم مع الكولونيالية البريطانية 
الكلاسيكية في العراق» بالمهمة التي أنيطت بهء تماماء وأدى في حقب وفترات 
ختلفة كل أغراضه ووظائفه دفعة واحدة» أو على مراحل متقطعة ؛ولكنها كانت مع 
هذا متواصلة ومحمومة. وتمكن الغرب» بفضل الاستشراق» من بناء خزان هائل من 


١ 


الصور المتخيلة عن العرب» وبشكل أخص» عن العراق الذي كان الغرب يستعد 
لغزوه بعد الحرب العالمية الأولى . وإذا كان العراق» في عالم الاستشراق الكلاسيكي» 
قد ظهر في صورة امتداد جغرافي للهندء وجرى تخيّله من جانب المستعمرين 
البريطانيين كمستعمرة هندية؛ وإذا كانت أرياف جنوب العراق شهدت بالفعل 
محاولات حقيقية لتهنيدها (من الهند) واقتلاع كتل سكانية منهاء وإحلال مستوطنين 
أوروبيين مكانهم» ومن خلال ربط البصرة بمدينة بومباي؛ فإن ما بعد الاستشراق 
وعشية الغزو الأمريكى, هو الذي تصّور العراق بوصفه امتداداً لأفغانستان» وبحيث 
جرى ربط بغداد باستمرار ومن دون توقف» بكابول وماثلتهما. 


بكلام آخر؛ فإن أفغئة بغداد بتخيّلها على أنها «كابول» أخرى» يتوجب اقتحامها 
بحثاً عن رجال القاعدة والأصوليين والملا عمر وبن لادن» لم تكن جرد صور 
تلفزيونية عابرة» أو حض صور إعلامية مثيرة؛ بل كانت في صلب المحاولات 
القديمة «لتهنيد العراق؟ وفصل العراق» أو خلعه تماما عن بيئته وتحيطه العربيين . 
ولكن» وكما انہارت الحلول والتصورات المبسطة والمقترحات التلفيقية» وحتى 
الأفكار المتعجرفة التى عرضها الضباط والرّحالون والأدباء بسرعة غير متوقعة؛ فإن 
الاج يعيد من خلال هذا البحة» الايد أن الحلؤل والهسور» ما بعد 
الاستشراقية» عن العراق» سوف تنهار وتتلاشى أيضاًء وربما بسرعة أقل ما تطلبت 
في الماضي . 

ويمكن القول» في هذا السياق إن الاستشراق السياسي القديم فقد أدواته 
التار ية الكبرى» مع الإخفاق المدوي للسياسات الاستعمارية في الشرق . بيد أنه مع 
ذلك لا يزال يمتلك قابلية فذة على إعادة إنتاج نفسه وأدواته ووظائفه في صورة «ما 
بعد استشراق» شرس وعدواني ومضللء لا يكاد يتوقف عن نشر الصور الزائفة عن 
العرب والمسلمين. إن تدفق الصور النمطية الجديدة عن العراق وأفغانستان بوصفهما 
بلدين متماثلين «أصوليين» من خلال ماثلة وجود الزرقاوي في العراق» بوجود ابن 
لادن في أفغانستان ومن خلال وجود ميزانية واحدة يقرّها الكونغرس الأمريكي 
سنوياً لتغطية نفقات الحرب؛ ليؤكد من جديد أن الدور الذي لعبته الصور 
الا ستشراقية في التمهيد لغزو العراق وتدميره في التاسع من نيسان/ أبريل ٠۲٠٠١‏ 
إنما يتماثل مع الدور القديم الذي لعبه الاس ستشراق الكلاسيكي ورجاله ومنظروه في 
مطالع القرن الماضي . 

ولذلك» ثمة حاجة ملّحة باستمرار» لعمل نقدي شامل يركز على رؤية ما بعد 
الاستشراق هذاء بوصفهء امتداداً بأدوات ووسائل أخرى»ء للاستشراق القديم. 
وبالتالي تطوير نظرتنا إليه من خلال إعادة تفكيك صوره الزائفة التي جرى تكريسهاء 


1١١ 


سواء في حقل السياسة» أم في حقل الثقافة. وبالنسبة إلى الباحث؛ فإن أفضل ميدان 
لرؤية نشاط ما بعد الاستشراق إنما هو ميدان السياسة» أي حيث جرى التركيز على 
الموضوعات الرئيسة التي تخص دور العرب» أو تتعلق بمحاولتهم الحفاظ على 
استقلالهم وهويتهم الخاصة كأمة. اليوم› ينهض بعبء ما بعد الاستشراق جيل 
جديد من الكتاب العنصريين المهووسين» بدلا من الرحالة العجائز والمستكشفين 
المسحورين بالشرق» أو علماء الآثار المبهورين «بعظمة التراب» الذي ينطق بالتاريخ› 
أو ضباط الجيش الاستعماريين المتلهفين لأن تطأ أقدامهم في أسرع وقت أرض 
«الشرق الحزين». إنه جيل كامل يتناسل ويتوالد في مراكز البحوث الأمريكية» قوامه 
عدد غير محدود من الكئَّاب والدارسين والمنظرين الحداثيين من ذوي النزعات 
الاستعمارية الذين تجاوز نفوذهم الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. إن موجات 
جديدة متتابعة من الصور الزائفة عن العرب» مشحونة بالازدراء والاحتقار للشعوب 
والجماعات خارج العام الأمريكي؛ تتلاطم قادمة نحونا من وراء الأطلسي لتفيض 
عند شواطئنا وقد تبلغ آسيا. 

إذا كان البريطانيون واجهوا ضروباً متفاوتة من المقاومة لمشروعهم الاستعماري 
في العراق من جانب تحالف طبقي فضفاض ؛ وإذا كانوا واجهوا مشاكل سياسية 
واجتماعية وثقافية من خلال طرح حلول مبسطة تتخطى عن قصد أو جهل» الطبيعة 
المعقدة والمتراكبة التي ميّزتهاء أو تتخطى الحاجة الملحة لمعالجتها بشكل صحيح 
وجريء (كما هو الحال مع مشكلة الأرض والملكية الزراعية والتسويات القانونية 
للمنازعات العشائرية» وأشكال التعامل اليومي مع سكان الأرياف» وكذلك فحص 
ومتابعة سلوك الجنود مع الفلاحين والشيوخ إلخ. .). 

إن المشكلة الأهم والأكثر خطورة التي كان البريطانيون في مواجهتها كل يوم 
وكل لحظة؛إنما كانت مشكلة المفاهيم المزدوجة والملتبسة التي أشاعوها في البلاد. 
مثلاء مقابل شعار «التحرير من الاستبداد» كانت هناك على الأرض مفاهيم 
ومصطلحات سياسية تؤدي إلى الاحتلال المباشرء وإلى الانتداب بموافقة وغطاء 
أوروبيين (مؤتمر إيطاليا) . ؤمقابل دعاوى الإصلاح التي أطلقها الليبراليون العراقيون 
بحماسة مشبعة بالأوهام» كانت هناك مفاهيم تسد سياسة ترقيع مشكلات الاقتصاد 
والصحة والتعليم والمنازعات حول الأراضي في الريف. ومقابل الحاجة المجتمعية 
الملحة إلى المدنية والتحديث» كانت هناك مفاهيم أخرى تفضي بمجملها إلى سياسة 
تسويغ وتكريس التخلف في مجتمع مقهور . 

وباختصار» كانت مفاهيم التحرير والديمقراطية والتحديث» وهي تزمجر في 
سماء مجتمع ظل يصارع نحواً من قرن كامل من أجل اللحاق بالمدنيات الحديثة» 


۱۲ 


ويتطلع بحسرة إلى دول الجوار(ويرى التقدم في إيران وتركيا) تختلط بمفهوم 
الاحتلال نفسه وتغدو شيئاً فشيئاء مع فشله في الدفاع عن مفاهيمه ونظرياته» كما لو 


كانت» في الأصل» مفاهيم منفصلة عن عالم الأرض . 


كانت هذه المفاهيم تبدو في نظر الأغلبية في المجتمع العراقي نوعاً من سراب» 
أو وهم. وهذا ما حدث تماماً في العراق بعد التاسع من نيسان/ أبريل ۲٠٠۳‏ حين 
ابارت مفاهيم الديمقراطية والتحرير دفعة واحدة. . وباستثناء النخب الفكرية 
والسياسية المعزولة والمشبعة بالأوهام عن نفسها ودورهاء وبشكل خاص» جوقة 
الشعراء والكتاب والقصاصين والأدباء الذين كانوا يقفون ‏ كما تقول المس بيل - في 
شكل طوابير طويلة تنتظر دورها للقاء رئيس تحرير إحدى جرائد الاحتلال من أجل 
نشر قصائد وكلمات مديح مجانية ولا معنى لها؛ فإن أحداً في المجتمع العراقي لم يكن 
مستعداً آنذاك» لا للدفاع عن الاحتلال ولا لتبرير تتصل البريطانيين من وعودهم أو 
حتى تصديق وعودهم بالتحرير والتحديث. وحدها النخبة الثقافية والفكرية 
والسياسية العراقية كانت غارقة في الوهمء بالأمس كما اليوم» حين هللت لوعود 
ومصطلحات الحداثة ثة والإصلاح والحرية . إن مفهوم التحرير من الاستبداد الذي عبر 
عنه خطاب الجنرال مود وهو يدخل بغداد فاتحاً في الماضيء وخطاب جورج بوش 
(قبل غزو العراق وخلاله) ليس هو الباعث الحقيقي للغزو؛ بل المصالح الاستراتيجية 
الاستعمارية المياشرة . 


وكما سطع مفهوم «تلقي المساعدة من الخارج» لنشر الحرية في العراق العثماني», 
فقد سطع من جديدء مع عودة الاستعمار» المفهوم نفسه الذي بات يمثل نموذجاً 
صارخاً في قوته التخيلية : شرعية تلقي مساعدة الخارج من أجل مواجهة استبداد 
الداخل . انطلق هذا المفهوم في الماضي من فكرة تقول: إن الدافع الوحيد للاحتلال 
هو بَرَّم البريطانيين وإحساسهم بالضيق من استمرار ظلم الأتراك للعراقيين؛ بينما 
انطلق مفهوم الأمريكيين من الشعار المريع الذي صاغه المستشرقون الجدد» من فكرة 
تحرير العراق» بالقوة المسلحة» من ظلم الديكتاتورية الممتلكة السلاح النووي 
والمرتبطة بابن لادن في أفغانستان. وكما تبارى الشعراء في الماضي للترحيب «بفاتح 
بغداده وفي مقدمهم الفيلسوف الشاعر جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي 
رم الشهير الأب أنستاس الكرملي؛ فقد تبارى شعراء وكتاب وروائيون وكتّاب 

عمدة صحافية من اليسار العراقي» ومن رجال الدين الشيعة وبعض رجال الدين من 
ا في مديح الأمريكيين على «تحريرهم لبلادناة. وبحسب أفكار هذا الجيل 
الجديد من «المستشرقين الاستعماريين؟ وفي طليعتهم بايبس وبيرل ودوغلاس فاث»› 
فقد جاءت الكولونيالية البيضاء بنفسها من أجل حل كل المشكلات الناجمة عن 


1 


الاستبداد في المجتمع الشرقي؛ بينما كشفت الوقائع أنبا عادت للاستيلاء عليه ونهبب 


ثرواته . وهكذا نشأء وفي وقت مبكرء تناقض غير قابل للحل بين استراتيجيات 
الاحتلال وتكتيكات التحرير المخادعة . 


كان التحرير في الحالتين وبكل معنى الكلمة شيئاً خيالياً غير قابل للتصديق؛ 
بينما كان الاحتلال على الأرض شيئاً واقعياً قابلاً لأن يُلمس. 


ولأجل الكشف بعمق عن أدوات ووسائل الاستشراق الجديد؛ فإن مقاربة 
شاملة للفهوم الحرية كما طرحه الاستشراق الكلاسيكي بالتلازم مع شعار التحرر من 
الاستبداد العثماني» ولمفهوم الديمقراطية كما عرضه ما بعد الاستشراق بالتلازم مع 
شعار تحرير العراقيين من الديكتاتورية؛ ستكون أمراً لا غنى عنه لكل دراسة 
موضوعية للتاريخ . اصطدم مفهوم خلق عراق ديمقراطي» يكون امتداداً لهند 
ديمقراطية» ومنذ اللحظة الأولى لسقوط بغداد في قبضة الجنرال مود عام ۱۹۱۷؛ 
بحقيقة أن هذا المفهوم هو مفهوم خيالي وملتبس» إذ كيف يمكن بناء نموذج 
ديمقراطي آسيوي قابل للاستنساخ والتطبيق في بلد آخرء وفي الآن ذاته الحفاظ على 
خصوصيته الثقافية؛ بينما يجري في الآن ذاته التعامل مع مجتمعي البلدين بوصفهما 
مجتمعين محتلين أو مستعمريّن؟ هذا التناقض السافر بين الديمقراطية والاحتلال» 
وبين «مفهوم التحرير؛ واسياسة الاحتفاظ بالغنيمة» هو الذي أثار نقاشاً صاخباً في 
أوساط النخبة في الماضي» حين دفعت بها تطورات الأحداث والظروف إلى التأمل 
في أوهامها. 


لقد ثار نقاش حقيقي حول» الاحتلال أم التحرير؟ في سنوات ۱۹۱۷ - 
25 كما تفجر سجال مماثل حول مدى توافق القوانين الهندية مع الخصوصية 
العراقية؟ وفي موازاة ذلك أثيرت مسألة نقل خصوصيات مجتمع إل مجتمع آخر. فهل 
كان الأمر ينطوي على نوع من خداع استراتيجي؟ كان إنشاء «عراق هندي» على 
مستوى السياسة الزراعية والتجارة والتوطين واعتماد القوانينء يصطدم بمشكلة 
تدمير فظيعة وعديمة الرحمة للخصوصية . وهذا ما فعلهء ما بعد الاستشراق» تماماء 
حين تبنى شعار «خلق عراق ديمقراطى/من قلب الفوضى ليكون امتداداً لأفغانستان 
ديمقراطية . ؛ 

ومثلما كانت للاستشراق أساطيره اللذيذة عن «الخوف من البدوة ذوي الأسنان 
الطويلة» المتوحشين والبدائيين ‏ والتى أنتجها خيال عشرات الشعراء الرّحالة 
والمستكشفين والضباط الكولونياليين من كانوا يتأهبون للحظة الانقضاض على الشرق 
طوال القرنين السابع والثامن عشرء ثم عشية الحرب العالمية الأولى ‏ فقد كانت لما 


٤ 


بعد الاستشراق» فى القرن الحادي والعشرين» أساطيره اللذيذة الخاصة المماثلة 
والممتعة عن البدو أنفسهم. ثمة في الحالتين؛ صناعة للأساطير. وكل الفارق 
الجوهري بين منتجاتها في الماضي والحاضرء هو أن ما بعد الاستشراق ظل يركز 

TS 
للبدو؛ بل على الطابع الاستثنائي للعنف المختزن في أعماق الشرق أوسطيين ذو‎ 
TE a الشعر الأسود واللحى الطويلة‎ 
هدد خطرهم العالم كله . سوف يحدّق» ما بعد‎ E ا‎ 

ستشراق» ويتأمل طويلاً في «اللحى الكثة» والثياب القصيرة لهؤلاء الذين تسللوا 
/ العراق» من أجل مهاجمة المشروع الديمقراطي الأمريكي وتحطيمه . 


لقد حلت رمزية جديدة للبدوي محل زمزية الأستان الطويلة . إنه بدوي جديد 
بعالك اله كله قير جهابة لوي وفارة, ويرتدي ثياباً تقصر عن الركبة بضع 
سنتيمترات أو يحمل حزاماً ناسفاً. إنه بدوي جاهز للانتحار من أجل الجنة» ومن 

دون أي باعث حقيقي على الموت؛ سوى باعث الرغبة الجنونية في الانتحار. 
وبالطبع يمكن للأسنان رمزياًء أن تحيل الناظر أو متلقي الأسطورة إلى نمط من 
#حيونةا للإنسان للحط من آدميته الطبيعية» يتحويله إلى «حيوان» كاسر أو ذئب. 
فيما يمكن لصورة أخرى موازية يظهر فيها البدوي نفسه بلحية طويلة» أن تؤدي 
غرض إعادته إلى البدائية الأول وإرقائهعل الکو عن جالته الآدمية إلى حالة ما 
قبل مجتمعية. إنه شخص بدائي يند ينتمي إلى طور ما قبل المجتمع البشري . على هذا 
النحو راح جيل جديد من منتجي الأساطير من يعملون في حقل؛ ما بعد 
الاستشراق» وفي سياق تطوير واستكمال مهمة الاستشراق القديم» يقبلون بنهم 
على كل خبر ويتلقفون كل بلاغ عن جماعات إرهابية «من ذوي اللحى» تستعد لعمل 


شرير ضد مدنية الغرب. 


هل لمماعات الضوزة كما لوآ كل غماها مو ار أو لوت ور دون 
آي هدف ي يستحق التضحية ؛ ليست سوى حماعات من المسلحين والمتمردين الذين 
قرروا إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء في العراق» بحسب قول الرئيس الأمريكي بعد 
التاسع من أيار/ مايو ۲٠٠۳‏ حين ظهرت أولى الإشارات عن مقاومة عنيفة في بغداد . 
هذه الأساطير لم تنتجها شعوب وجماعات بدائية لانيئة» تعيش داخل عقل أسطوري» 
بحسب تعبير كليود ليفى شتراوس ؛ بل جماعات متمدنة ومتحضرة وديمقراطية › 
تستخدم لهذا الغرض شبكة معقدة من الكتاب والفنانين والمفكرين الذين يتعاونون 
مع البنتاغون (وزارة الدفاع) والمؤسسات الأمنية الفيدرالية» ومعهم عدد لا يحصى 
من معدي البرامج التلفزيونية وكتاب الأعمدة في كبريات الصحف الأمريكية (مثل 


10 


توماس فريدمان) وحتى انثروبولوجيون جدد من العرب الأمريكيين (مثل اللبناني 
فؤاد عجمي الذي يكتب عن العرب بالطريقة العنصرية ذاتها التي كتب فيها 
المستشرقون عن الشرق القديم). وجد هؤلاء في الأساطير اللذيذة التي يقومون 
بإنتاجهاء مادة عضوية من المواد اللازمة لبقاء الاحتلال وتبريره. وكما كتبت 
كر يستيان ساينس موذيتر (14071/0 Scie e‏ #ه1/ىة1©) الأمر يكية وذي صن (5:1 116) 
البريطانية طوال سنتين من الاحتلال؛ فإن تأثير وسحر بن لادن في أوساط الشباب 
المسلم والمتعصب في العراق بات لا يقاوم وتصعب السيطرة عليه؛ فالجماعات 
المسلحة هناك ترتبط فيه وهي باتت من القوة والنفوذ» بحيث أنها تستطيع التحرك 
بسهولة وسط السكان كما لو أنها شبح . 

٠‏ كان تصّور الإرهاب على هذا النحو ملازماً لكل منتجات ما بعد الاستشراق. 
ثم برهنت الأحداث تالياً أن «سحر الإرهاب» في الشرق الأوسط مختلق ولا أساس 
له» وأن المقاومين هناك ليسوا على صلة بابن لادن . وهكذاء وبفضلء ما بعد 
الاستشراق» راحت صورة العدو الجديد في العراق تتشكل في المخيال السياسي 
تلمواطن العادي. في أمريكا وأوروبا على حد سواء» بوصفه مرتع الإرهاب. فهل 
حقاً نجم ظهور القاعدة تلقائياً عن الغزو الأمريكي للعراق»ء أم أنبا كانت موجودة 
هناك قبل سقوط بغداد؟ في نطاق كشف العيوب البنيوية الأساسية» في أساليب 
وطرائق عمل الجيل الجديد من المستشرقين» يلاحظ أن أسطورة القاعدة التي سامت 
النخبة الثقافية العربية» تحت التأثير المباشر وغير المباشرء لما بعد الاستشراق؛ 
بتظهيرهاء باتت تنتسب إلى المخيال السياسي والثقافي الاستشراقي القديم» بأكثر ما 
تنتسب إلى خيال سياسي وثقافي لما بعد استشراقي» وذلك بسبب كونها نوعاً من 
إعادة إنتاج للصور المألوفة عن العرب والمسلمين «المتوحشين؟» كما رسمها بعض 
الرحآلة والكتاب في رحلاتهم إلى الشرق. وهذا مصدر آخر من مصادر الالتباس 
والمفارقة فى خطاب النخب العربية التى انساقت وراء الأسطورةء وراحت تعيد 
إنتاجها محلياً عبر آلاف المقالات والدراسات والتقارير في الصحف العربية . 

لقد أعادت أسطورة القاعدة فى العراق إلى الأذهان الطريقة التي تخيّل فيها 
الاستشراق الشرق منذ مطالع القرن الماضي . وباستخدام تعبير ادوارد سعيد؛ فإن 
الطريقة التي تمت فيها عملية شَرْقنة الشرق لم تكن من نتاج النخبة من الكتاب الغربيين 
وحدهم» وإنما كذلك من. إنتاج النخبة الثقافية العربية الليبرالية . 

يكشف السرد الجحديد لما بعد الاسء ستشراق» أساطير الخوف القديم من البدو 
ذوي الأسنان الطويلة «التى حلت محلها أساطير عن عرب شرق أوسطيين ومسلمين 
ذوي لحى طويلة اليوم» عن مغزى هذا الاستطراد. لقد اكتسبت بعض الأساطير عن 


1 


العرب شعبيتها في الغرب» وفي عدد كبير من البلدان العربية بفضل ترويج 
الليبراليين العرب الجدد لها (مثل أساطير الاغتصاب الجنسي في سجن «أبو غريب» 
في عهد الرئيس صدام حسين» وتمامأء كما فعل الرّحالة والمستشرقون الأوائل منذ 
عام .)۱۸٠١‏ وبفضل قدرة السرد الاستشراقي الكلاسيكي على إضفاء أجواء خيالية 
وسحرية وغامضة » ذات طبيعة شعرية في الغالب» أمكن تخيّل سجن «أبو غريب» 
كمكان نموذجي يفضل قادة النظام العراقي اغتصاب ضحاياهم فيه . . ثم برهنت 
الأحداث أن هذا التاريخ الزائف الذي أنشأه» ما بعد الاستشراق» لسجن «أبو 
غريب؛ قبل الاحتلال» كان تمهيداً عنيفاً لما سيكون عليه السجن نفسه بعد الاحتلال 
على أيدي الجنود الأمريكيين . 


وهكذا؛ فقد ظهر في وسائل الإعلام الأمريكية ‏ بفضل» ما بعد الاستشراق» - 
طراز غريب من الصور عن البدو (أي عن العرب) المتوحشين الجاهزين والمستعدين 
للقتل والاغتصاب . هذا التحفيز الخيالي للقتل وارتكاب الجريمة والانتهاك ومن دون 
أي بواعث حقيقية ؛ هي التي شكلت الأساس المتين لفوبياء ما بعد الاستشراق» التي 
تكاد تطغى اليوم في وسائل الإعلام الأمريكية. ولئن تحولت أسطورة «البدو ذوي 
اللحى الطويلة؛ إلى ما يشبه أسطورة جديدة عن العدو نفسه القديم والأزلي؛ فإن 
التحول الأهم سوف يتجلى في شكل السرد» وأسلوب بناء القصص الجديدة عن 
الشرق. ولأنه سرد جديد ينتسب إلى تقاليد حديثة» وإلى تقنيات قادرة على الإيجاء؛ 
فسوف نرى» من خلال تفكيك ومقاربة المعطيات والصورء أنها ليست سوى 
استكمال وتطوير» بأدوات جديدة» للصور والسرديات القديمة ذاتهاء» وأن من 
ينهض بعبئها اليوم ليس هو بالضبط» ما بعد استشراق حقيقي كامل الأدوات؛ بل 
استشراق كلاسيكي مُتعيش على إرث متآكل من قصص وصور الرّحالة الأوائل. وهي 
من حيث مضمونها الحقيقي والمباشر» تبدو وكأنها تسير بمحاذاة الصور القديمة 
المتخيّلة . 


إن صناعة الخوف واحدة من أكثر وظائف أساطير»› عبد اانه 
افتضاحاًء وهي صناعة رائجة في الإعلام الأمريكي المعاصر وفي مؤلفات جيل من 
الكتاب والمستشرقين الحدد . ولعل مقالات توماس فريدمان مثلاء عن العراق 
وسوريا وفلسطين مثلاء وأعمدته الأسبوعية (التي يعاد نشرها أسبوعياً في بعض 
الصحف العربية التي تفضل استكتابه عندها بدلا من الاكتفاء بترجة هذه المقاللات) 
تعطي انطباعاً فورياً للمتلقي بأها مصممة من أجل غرض واحد: 5 تصنيع الخوف 
ودره إل العرت ووواشيطة أذواتك عريية لس 
الليبراليين العرب في أوساط النخب الثقافية العربية» هو الذي أخذ على عاتقه مهمة 


1۷ 


نشر الخوف من «الإرهابيين» المسلمين في العراق . لقد تلقفت النخب الفكرية 
والثقافية الليبرالية العربية تفاهات فريدمان» تماماً كما تلقفت الأساطير المماثلة التي 
سردها صحافيو وسياسيو غرب. ما بعد الاستشراق» وتولت بنفسها مهمة الدفاع 
عن صدقيتها بوجه المشككين والمصدومين. ويبدو أنها تلقفتها لا بوصفها أسطورتها 
الخاصة والمفضلة وحسب»ء وإنما أيضاً بوصفها روايتها هي عن العالم والتاريخ 
والأحداث الراهنة . وأكثر من ذلك» راحت هذه النخب تتعامل معها على أا ليست 
رواية الغرب الذي «وقعت في غرامه» واستسلمت لهء وإنما روايتها عن مجتمعها 
هي . 


ولذاء راح جيل جديد من الكتاب العرب ما بعد الاستشراقيين ينسج على 
منوال هذه القصص والأساطير» قصصاً وأساطير ممائلة ومثيرة عن ابن لادن 
والزرقاوي وشبكاتهما المخيفة في العالم العربي. إن صورة الصحراء العربية كمصدر 
للخوف الغربي من الشرق لا تكاد تفارق هذا التخيل الجديد . ولذلك جرى بانتظام 
وطوال قرونء من العداء الْمبطن والخفي والمتواصل بأشكال مختلفة في الراسب 
الثقافي إنتاج صور نمطية ممائلة عن الموضوع ذاته . 


إن التحول المثير فى تصورات ونشاط المستشرقين الجدد فى الولايات المتحدة 
الأمريكية وأوروباء يكمن في حقيقة أنها أصبحت أكثر قابلية على إنشاء صور نمطية 
مرّوعة» ولها نفوذ أخلاقي واسع النطاق على مستوى العالم. وهي حولت الحرب على 
الإرهاب ‏ على امتداد السنوات الثلاث الماضية ‏ إلى ما يشبه عقيدة كبرى» أو إلى ما 
يشبه أيديولوجيا أو دين جديد يدين فيه كل الأخلاقيين. ومع هذا؛ فإن السرد 
الصاخب لأسطورة الحرب على الإرهاب في وسائل الإعلام المرئية والصحف 
وشبكات الإنترنت» يحفز باستمرار على رؤيتها كرواية مصئعة ولا تخلو من التلفيق 
والدزوديه فهي تلازمت بشكل وثيق مع أساطير جديدة عن العرب والمسلمين 
حصراً. 


ثمة قصة واحدة كبرى اليوم تجتاح العالم كله عن الإرهاب الإسلامي . في هذا 
النطاق وفي ضوء تجربة الاستشراق الكلاسيكي (ونموذجه عراق ٠۸۳١‏ - ۱۹۱۷ أي 
مع الاحتلال البريطاني) فإن الخوف القديم من العربي والمسلم» أصبح مصدراً لخوف 
جديد مولد توف آخر . بذلك تكون الصحراء العربية قد عادت لتسترد في الخيال 
الغربي صورتها الأثيرة مرة أخرى» لا بوصفها فضاء رومانسياً يلهب المشاعر 
والأحاسيس الدينية» فيمكن رؤية عالم التوراة شاخصاً هناك؛ بل كمكان خيف تنبثق 
منه صور القتلة والمجرمين الطائشين أيضاً. 


148 


الانطباع الراهن والأكثر طغياناً في وسائل الإعلام وفي السياسات المتبعة حيال 
الإرهاب» هو أن الحرب على الإرهاب في العراق تتقدم إلى أمامء وأن الانتصار فيها 
حدمي . . في الواقع وضعت الإدارة الأمريكية كل أو معظم الجماعات المسلمة في 
لائحة الدول والمنظمات الإرهابية» بينما خلت القائمة في المقابل من اسم أي منظمة 
هودية متطرفة» مثل كاهانا حي أو أمناء جبل الهيكل . وترافق ظهور القائمة مع 
تصعيد صور نشاط القاعدة ذ في العراق بكل ما يلزمه من تخييل يبلغ في أحيان كثيرة 


حدا مثيراً في غرائبيته . 


في هذا الإطار ومن أجل دراسة وضع النخب العراقية وردود أفعالها إزاء هذه 
الصورء يتوصل البحث إلى استنتاج أولي يفيد أن درجة تقبل النخب العراقية مقارنة 
بالمواطنين العاديين لهذا النوع من الأساطيرء وبشكل أخص» لفكرة وجود شبكات 
القاعدة فى العراق» وبعد أكثر من ثلاث سنوات من الاحتلال» ثم حدود مسؤولية 
بن لادن والزرقاوي والجماعات الإسلامية المتشددةء عن الهجمات المنسقة ضد 
قوات الاحتلال الأمريكى؛ هي درجة محدودة ومتدنية من حيث مستوى قبولها 
وتصديقها بالنسبة إلى العراقيين العاديين» لأنها تسرد الحقائق بطريقة يكاد يكون من 
المستحيل تصديقهاء بينما يحدث العكس في أوساط النخبة الثقافية والفكرية؛ إذ 
راحت تتقبل رواية الغرب لأسطورة الإرهاب العالمي من دون تدقيق في المفاهيم. 
NII AS LR RG‏ 
ما بعد الاستشراق» (عن طريق الإنترنت والصحف والفضائيات ومراكز البحث 
الخ. . ) أضحت طرفاً في إعادة إنتاج هذه الأساطير . والمثير للاهتمام أن هذا 
التقبل المطرد من جانب النخب العراقية السياسية والثقافية على وجه التحديد» ينتج 
نوعاً من الافتراق بينها وبين الجمهور العام في العراق والعالم العربي» وهو افتراق 
حكر نش GE SLE‏ اومتها 
والتزامها الأخلاقي . 


وبينما تميل النخب إلى تصديق أسطورة وجود عدو متسلل إرهابي إسلامي» 
تميل الغالبية من الجمهور العام إلى التحفظ عن درجة المبالغة في هذه الصورء وتری 
فيها نوعاً من صناعة خوف» لا قصد لها سوى إثارة الذعر في العام من العرب 
والمسلمين. وهذه بلا مراء تصبٌ في صالح الصور النمطية التي رسمتها إسرائيل منذ 
الأربعينات من القرن الماضي» وظهر فيها العربي في صورة شخص بدين فاسد 
الأخلاق . إن مستوى تعاطف وتفاعل المواطنين العاديين مع فكرة المقاومة في العراق 
مثلاء وعلى الضد من كل ما يضخ من صور زائفة عن «الإرهابيين العراقيين؟ أو 


14 


كما إن أعداد الذين كانوا ينفعلون بأنبائها اليوم» تفوق أعدادهم ما كان عليه 
الوضع قبل ستة أشهر من الآن. وبخلاف تصورات النخب» يمكن للمواطن العادي 
أن ينسب هذه الهجمات» ومن دون تردد» أو من دون أن تكون لديه المعلومات 
الكافية والتفصيلية» إلى النظام السابق وأنصاره ومؤيديه وإلى حزب البعث العربي 
لاشتراكي وقيادة الجيش . 

تفيد هذه الحقيقة ما يلي : إن ما بعد الاستشراق لم يبلغ أهدافه أو يحقق أي 
اختراق حقيقي » إلا في جزء من المجتمع تؤلفه النخبة الفكرية والثقافية والسياسية . 
وكما لاحظ ادوارد سعيد بحق في الثقافة والإمبريالية؛ فإن الاستعمار» منظوراً إليه 
من زاوية ثقافية صرف» هو انتصار ثقافة قوية على ثقافة أضعف منها . فى هذا الإطار 
انتشر تعبير لويجركا الأفغاني بكثافة في وسائل الإعلام» وجرى توصيف العراق كما 
لو أنه شبيه بأفغانستان. لا يعني تعبير لويجركا باللغة الأفغانية سوى مجلس رؤساء 
القبائل. ومن غير شك؛ فإن الإصرار على دور محوري لرجال القبائل والعشائر في 
العراق في السياسة» كان يمثل ومن منظور تاريخي» عصارة وخلاصة استلهام 
التجربة البريطانية في عراق 1908-1911 . ويبدو أن الأمريكيين أنفسهم وتحت 
تأثير سلطةء ما بعد الاستشراق» قاموا بدراسة العراق على أساس أنه بلد يصلح 
للممائلة مع أفغانستان من هذه الزاوية» وبحيث يجري استبدال النخب الحدائية 
برجال قبائل ومجموعات عرقية ومذهبية» لتلعب دورها في حقل السياسة. وهذا 
عينه ما حدث أثناء الاحتلال البريطاني للعراق . ١‏ 


إن روايات الخارجية البريطانية عن تجارب اليش الهندي - البريطاني 
ومدوناتها في الهند والعراق وجدت نوعاً من أساس يصلح لرواية جديدة» تنقل 
الاستشراق الكلاسيكي إلى ما بعد الاستشراق. ولذلك لا تبدو أسطورة القاعدة 
«الأفغانية» في العراق انقطاعاً عن النموذج الهندي. . . كانت تجربة التجربة 
الكولونيالية البريطانية تعتمد إلى حد كبير على استراتيجية الزج بالقبائل العراقية في 
الحياة السياسية» من أجل تهميش وإضعاف النخب الحديثة السياسية والفكرية 
وتقليص أدوارها؛ بينما عمل الأمريكيون على تصعيد أدوار رجال الدين والقبائل 
بدعاوى توسيع نطاق المساهمة في بناء الديمقراطية الوليدة» تماماء” كما هو الحال 
في أفغانستان. 

هذه الأفغنة التعمدة والمقصودة للعراق» وتصويره كبلد شبيه بأفغانستان؛ بل 
وكامتداد طبيعي وديني وعسكري وثقافي لبلد آخرء ومستعمرة أخرى» هي خلاصة 
نصائح ما بعد الاستشراق» وعصارة حلوله الخيالية لمشكلات المجتمع في الشرق 
العربي المسلم . كان تخيل العراق بعد احتلاله كبلد من دون مدارس أو مستشفيات» 


0 


أو كهرباء» أو جسورء وفيه فوق ذلك نساء مُضطهدات» استطراداً رمزياً في تخيل 
أفغانستان قبل احتلالها. إنهما بلدان ينتسبان إلى صورة نمطية واحدة يمكن لهما فوق 
ذلك» أن يندمجا في صورة. واحدة أيضاًء هي صورة بلد شديد التخلف تتعرض فيه 


لنساء للتمييز والاضطهاد يسيب العقيدة الإسلامية. 


لاسي 52070 
ما بعد الاستشراق» عن الخطر النووي العراقي؟ لقد تبن أن من بين أكثر المصاعب 
بروزاً في تقبّل هذا النوع من التخييّل» وجود فكرة مركزية تقول إن البلد الذي كان 
مُذنباً في نظر الإدارة الأمريكية» وتم تجريمه كبلد منتج للسلاح النووي ولديه زهاء 
خمسة عشر ألف عالمء > هو بلد متخلف لا مستشفيات ولا كهرباء ولا مدارس فيه؟ 
حتى إن الرئيس بوش هلل ا ا ا ميت ا 
لذهاب الأطفال إلى المدارس» وقال: أصبح بوسع العراقيين اليوم» أن يرسلوا- من 
دون خوف - أبناءهم إلى المدارس؟ كانت هذه الفكرة طاغية في الكتابات ال 
تلازمت مع الخزوء وهي أذت فعلياً إلى نسف كل الصور الأخرى؛ إذ أصبح العراق 
طبقاً لهذه الصورة بلدا وهمياً لا وجود له» أو هو تبخر من التاريخ» أو حل محله 
عراق آخر من صنع المحررين. وفجأة ظهر جيل من المحللين (غالباً ما تقدمهم 
' الفضائيات العربية على آم استراتيجيون متخصصون بأساليب بن لادن في العراق» 
ومعظم هؤلاء من الكتاب المصريين واللبنانيين) راحوا يتفننون في تحليل أساليب 
القتال في الرمادي وهيت وعانة وكركوك وبغداد ضد الإرهابيين ؛ هؤلاء الذين 
يعيقون «تقدم الديمقراطية». 


بذلك تمت أكبر عملية سيطرة على سرد التاريخ وتمكن السارد الكولونيالي الجديد 
من فرض روايته الأسطورية للأحداث. لقد أصبح هو السارد الوحيد الذي سوف 
يصغي إليه كل المتشوّقين لسماع القصص . 

من بين أكثر أساطير ما بعد الاستشراق التي رسمت صورة وحشية للعراق 
(شيوعاً وانتشاراً وكانت ذات تأثير هائل في الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص) 
كانت هناك ثلاث أساطير تدور في نطاق الجنس . لقد لعبت الأساطير الشائعة 
والمنتشرة في كبريات الصحف والتي عمل المخياليون الأوروبيون والأمريكيون على 
نشرها قبل الغزو بسنوات طويلة » دورها كاملاً في رسم صورة نمطية لهذا البلد . إن 
مقاربة مفهومية «لصناعة الأساطيرة هذه» بين عصر الكولونيالية الكلاسيكية وعصر 
«عودة الاستعمار إلى الشرق؟ سوف تبين» وإلى حد كبير» طبيعة الوظائف التي 
نهض» ما بعد الاستشراق» بعبئهاء والطرق والأساليب التي اتبعها على مستوى 
صياغة مزضوعات الخطاب الكولونيالي الجديد» وهي من دون شك طرق ووسائل 


۲١ 


اتسمت بديناميكية عالية»ء جرى خلالها استلهام منتظم للموضوعات الاستشراقية 
القديمة» ولغرض إنشاء واستنباط رمزيات جديدة من داخل الرمزيات القديمة. 
كانت قصص شهريار العراقي (الذي سوف تتم اثلته في ما بعد يصورة الرئيس 
صدام حسين) تنتشر فى الغرب» ويتم من خلالها تصعيد من نوع مرضي لصورة 
الرجل الشرقي الذي يضرب أعناق النساء بسيفه . كانت قصص شهريار الحنسية 
حاضرة بقوة في الصور الاستشراقية الأولى» ولكنها مع عصر الفتوحات:الاستعمارية 
الجديدة للشرق» كانت تحضر بقوة أكبر. كان طغيان هذه الصور من النوع الذي لا 
يقاوم؛ إذ انتقلت رمزية الحجاب و«العقال البدوي؛ من حيز الثقافة إلى حقل السياسة 
دفعة واحدة. . لم تعد موضوعاً ثقافياً رومانسياً؛ بل أصبحت جزءاً من عالم سياسي 
يزداد غموضاً وتعقيداً . 


وبذلك انتقلت عاولة فهم العربي» من كوا حلقة دراسية غرضها التعرف على 
الثقافة والحياة الاجتماعية؛ إلى عمل لا يعوزه التصميم ولا الرغبة المهينة #للآخر 
المتوحش والبدائي؟. وبطبيعة الحال» الرغبة الفظة في تخيله كبربري. على هذا النحو 
جرى تعديل رمزيات الشرق أو إعادة تكييفها سياسياً» لتتلاءم مع قيم الغرب الكبرى 
والحديثة . في هذا النطاق ساهم الاستشراق الكلاسيكي بحيوية» في الربط بين كل 
محاولة «لفهم العربي على حقيقته» وبين التعرف على مغزى وفعالية هذه الرمزيات في 
حياته؛ وجرى على أيدي أجيال من الكتاب والرحالة استلهام واستنباط منظومة قيم 
فتراضية؛ زعم أنه تقد العري وتتغذى من إسلام راكد تنكم تعاليمه في تصرفات 
الشرقيين وأفعالهم . 


ولذلك ارتبطت «أساطير الاستشراق» الأولى والمبكرة» بوجود فعالية استثنائية 
لكل فكرة وخاطرة» وخيال وتصور يدور حول «عالم النساء المهددات على الدوام 
بقطم اتقون حى من دون أن يكن کد بيب فی راد لفكرة ونا ا 
سيوف الجلادين؟ الرجال . كل ما قام فيه ما بعد الاستشراق» في نطاق هذه الصور 
المطردة المشحونة بالخنوف الغريزي؛ إنما هو قلب التصور الشائع رأساً على عقب: 
فالنساء الشرقيّات لسن ذ في الواقع أقل تعرضاً من الرجال لطر الانتهاك الجنسي أو 
لخطر «الجلادين حاملي السيوف»؛ بل هن الشريحة الاجتماعية الأكثر عرضة منذ 
العهد التركي وحتى اليوم لخطر العدوان الجنسي من السلطة . وفي سياق عملية 
«أفغنة العراق» هذه عثر الأمريكيون على مادة أسطورية نموذجية قابلة للتطوير في 
هذا الاتجاه» ويمكن من خلالهاء فضلاً عن ذلك كله» التعرف بدقة أكثر على ملامح 
«سيّاف» عراقي جديد شبيه بشهريار» أو هو متنكر في ثيابه . إنه جلاد من هذا العام 
ااي وقد تنص و نحو المرأة ذاتها المهددة بالموت . استخدم الأمريكيون 


۲۲ 


هذه الصورة الخيالية وعلى نطاق واسع؛ كأساس صلب لادة دعائية رخيصة 
وديماغوجية» كان المعارضون العراقيون يروجون لها أصلاًء وقاموا بتسريبها إلى 
كبريات الصحف قبل بضع سنوات سابقة على الغزو. 

STS 
انطلاقاً من الصور الاستشر قية القديمة المعدلة الآنفة» وقبل أن يتبين لاحقاً وبجلاء‎ 
أن لا أساس لها في الواقع تقول الأسطورة كما جرى تداولها: إن صدام حسين‎ 
قام بقطع أعناق اه العراقيات (العاهرات) وتعليقهن في الساحات العامة‎ 
في بغداد والجنوب . لا أحد بالطبع شاهد الجثث وهي تُعَلق» ولا أحد رأى رؤوساً‎ 
القومي› الذي ينسى ابتداء خطبه‎ ٠ مقطوعة بسيف اشهريار العراقي» البعثي‎ 
كما تقول أسطورة من أساطير فريدمان - عندما يكون في أقصى درجات‎  ةلمسبلاب‎ 
. انفعاله وغضبه الهستيري من سلوك «العاهرات؟ المسافرات إلى عمان بعد الحصار‎ 
كمال تقدم الولايات المتحدة» أو أي جهة مستقلة» دليلاً واحداً وموثقاً يدل على‎ 
صحة الرواية . ومع ذلك لم تتردد النخب الثقافية العربية الليبرالية في إعادة إنتاج هذه‎ 
الصورء والمساهمة في نشرها في نطاق الحملة لتبرير الغزو. بهذا المعنى أصبح الجنس‎ 
موضوعاً سياسياً وهدفاً استراتيجياً من أهداف العسكريين في الميدان الحربي. هذه‎ 
المادة الدعائية كانت في صميم عمل الاستشر تشراقيين الحدد.‎ 


املاح را مر E RS‏ أي للمسلمين ككل» كما في 
الاستشراق الكلاسيكي حيث «أعناق النساء أقل تعرضاً لحبال المشائق وسيوف 
الحلادين»؛ إلى وصف أعناق النساء العراقيات المتطايرة بسيف صدام حسين. وفي 
وقت سابق على الغزو طوال السنوات القاسية من العقوبات الدولية» كان هذا النوع 
من المواد ضرورياً للغاية بالنسبة للأمريكيين ويلائم مزاجهم» على الأقل لأجل رسم 
صورة أفغانية متكاملة للعراق ؛ فالنساء هناء أيضاًء أصبحن عُرضة للاضطهاد والقتل 
الشنيع بواسطة السيوف . ومادام صدام حسين في المخيال الأمريكي قد غدا مزا 
شيطانياً من بن لادن والملا عمر؛ وحزب البعث العربي الاشتراكي من الناحية 
العقائدية» بات شبيهاً بحركة طالبان» فمن الضروري العثور على نساء مضطهدات 
تقطع رقابين السيوف . 


كل ما كان ينقص أساطير» ما بعد الاسة ستشراق» إنما هو وجود موضوع جنسي 
مثير. لا بد من نساء طالبان عراقيات يمكن العثور عل صورهن الُعذبة والشقية في 
أزقة بغداد القذرة» وعلى نساء حُرمن في طفولتهن في ظل حكم البعث» من الذهاب 
إلى المدارس وجرى انتهاك فظ لأرواحهن وحرياتهن الشخصية. على هذا النحو بدأت 
تنتشر في الصحف الأمريكية والأوروبية والفضائيات الغربية» وبالتلازم مع قصص 


۳ 


الإرهابيين المسلمين» صور وقصص غرائبية تدور كلها حول الحكاية ذاتها: نساء 
طالبان الجديدات في العراق المحرر اللواتي يكتشف الغرب حجم الفاجعة في حياتهن 
التعيسة في أزقة بغداد. وحين كانت هذه الأساطير تنتشر على نطاق واسع في العالم» 
فقد تجاهلت وسائل الإعلام الأمريكية القصص الواقعية والحقيقية والحية عن النساء 
العراقيات اللواتي كن يظهرن على شاشات التلفزيون باكيات نائحات على منازلهن 
التي هدمها الجيش الأمريكي أثناء قصف الفلوجة» أو «أبو غريب؛ أو الخالدية في 
العراق» أو أثناء تجريف الحقول والمزارع بواسطة بلدوزرات الجيش الأمريكي في 
بعقوبة ورز وضواحي غرب بغداد. وتم على الضد من هذاء الترويج من جديد 
لحكاية عاهرات بغداد مقطوعات الرؤوس. ففى الأول من كانون الأول/ ديسمبر 
۴۳ قررت الحكومة البريطانية» على عجل ومن دون سبب واضح» إرسال بعثة 
مؤلفة من عدة نساء بريطانيات متخصصات بحقوق الإنسان وقضايا المرأة إلى العراق» 
لا من أجل معاينة أوضاع النساء العراقيات التي أصبحت مخيفة تحت الاحتلال؛ بل 
للتفتيش عن أدلة تتعلق بجرائم النظام السابق بحق النساء . 


كان البريطانيون يفتشون عن أدلة تخص جرائم شهريار العراقي في عصر ما بعد 
الاستشراق. ومن بين هذه الجرائم بالطبع» ما زعم أنها عمليات قطع رؤوس لنساء 
عراقيات متهمات بممارسة الدعارة. في هذا الوقت كانت التقارير القادمة من بغداد 
إلى العاصمة البريطانية لندن» تشير إلى استمرار وقوع عمليات قتل واغتصاب وحشية 
ضد النساء البعثيات» تجاوزت أكثر من 40٠‏ حالة موثقة عدا حالات الاغتصاب 
الفظيعة التي يصعب التصريح بوقوعها في مجتمع محافظ مثل المجتمع العراقي - حسب 
شهادات روابط نسائية تشكلت حديثاً في بغداد - . وعلى الضد من هذه الصور كانت 
وسائل الإعلام تواصل الحديث عن «سيدات الجرائيم». وهذا توصيف احتقاري 
للعالمات العراقيات. 


كانت الصور ما بعد الاستشراقية عن العراق تتناقض بشكل صارخء ولكن 
هيمنة الخطاب التحريضي على الغزو» ظلت تلعب لصالح تصعيد الموضوع الجنسي . 
ينسف هذا السلوك ومن الأساس كامل «الصورة الأفغانية» للمرأة العراقية كما أنشأتها 
وسائل الإعلام الأمريكية. إن وحدة التطلعات بالنسبة لنساء من ختلف طبقات 
المجتمع ؛ أي مجتمع ء وبصرف النظر عن الدين والثقافة ودرجة الرقي الاجتماعي» 
هي دليل قاطع على أن بوسع المجتمع» وفي أحلك الأوقات» تحقيق تقدم ملموس 
وحقيقي في قطاع أساسي منهء بقوة الثقافة والتقاليد والتعليم الحديث على حد 
سواءء والنموذج العراقي يؤكد ذلك» فهو نجح في تحقيق حضور ديناميكي للنساء 
في حياته الداخلية والاجتماعية؛ فهن طبيبات ماهرات ومدرسات ومهندسات 


Y٤ 


وعالمات. ومع ذلك ظلت النظرة إلى» ما بعد الاستشراقية» طاغية على الطريقة التي 
رأت فيها الوفود الغربية (الأمريكية والبريطانية) نساء العراق؛ إنهن أميات في الغالب 
(نحو ٠‏ في المئة) . 

وهكذا؛ تلاشى حضور النساء العالمات وتبذد في الفضاءء وحل محله حضور 
مطرّد لنساء عاهرات قطعت رؤوسهن . علماً أن العراق حاز جائزة اليونسكو لمحو 
الأمية عن السكان منذ نہاية سبعينيات القرن الماضي ؛ وأصبح مجتمعه منذ الثمانينيات 
يعج بعدد هائل من العالمات والطبيبات والمهندسات» وهو البلد الشرق أوسطي 
الوحيد الذي تملك فيه نقابة المهندسين أكثر من مئة ألف عضوء بينهم عدد كبير من 
النساء الشابات . 


في هذا النطاق انحصر كل مشروع الحداثة الذي وعد فيه الغزو الأمريكي» من 
منظور ما بعد الاستشراق» في تنشيط وتنمية وتشجيع النساء على الالتحاق بجهاز 
الشرطة؟ وتماماًء كما تصرف الأمريكيون مع النساء في أفغانستان عندما ركزوا أبصار 
العام كله على الصورة الوحيدة للمرأة الأفغانية ما بعد طالبان» حيث تُزع الشادور 
الأفغاني وجرى الزج بهن في جهاز الشرطة» فقد جرى تدريب النساء العراقيات في 
وقت مبكر من احتلال بغداد» ليلتحقن بجهاز البوليس الداخلي. وعلى الضد مما أراد 
الأمريكيون» فإن المليشيات والأحزاب الدينية المتعاونة مع الاحتلال» سارعت ودل 
من نزع الشادور العراقي» إلى إرغام النساء العراقيات (السافرات) على ارتدائه» وإلى 
الدرجة التى انتشر فيها الحجاب حتى بين أطفال المدارس من الإناث . إن أكثر ما 
يميز» ما بعد الاستشراق» عن الاستشراق القديم ويجعل منه علماً زائفاً» ولكن قائماً 
بذاته» هو أنه لم يعد يستعين بدارسين غربيين وحسب؛ وإنما بجيش من الدارسين 
و«المحللين» العرب والمسلمين تكاد تقتصر مهمتهم الكبرى على دعم التصورات 
المنتجة عن الإسلام والعرب . 

لقد امتلك» مابعدالاستشراق» مالم يمتلكه الاستشراق الكلاسيكي» 
بالأدراث الخترقية الا لتعليل الشرق ودرايتة+::والوسائل والظروف التي كن 
الرّحالة والمستكشفين الجدد من إتمام مهمتهم في تقصي حالة الإسلام المعاصرء 
١‏ يت مرائرة ومتيلد: ومدوعة ويم عدا ...ايك من المثقفين العرب . وبدلاً من 
الاستعانة بنخب غربية أوروبية وأمريكية» وأطقم من الباحثين E‏ 
النتخصصين والدارسينء كما كان الحال في الرحلات الأولى للاستشر 
الكلاسيكي» E‏ ا 
الاستعانة بأطقم مذربة جيداً من المثقنين والباحثين العرب والمسلمين» وحتى من 
الفقهاء ورجال الدين. وجرى في هذا النطاق تجديد متواصل لمعارف الغرب عن عالم 


Yo 


الشرقيين» وتحقق نوع من التعرّف يتسم إجمالأء بدقة أكبر وبموضوعية أكثر ما فعل 
الاستشراق القديم؛ وبخاصة على جبهتي الثقافة والسياسة في الشرق المسلم . 

عملياً قكن الغرب بفضل ما بعد الاستشراق من القيام بنشاط أوسع لإعادة 
دراسة أحوال العرب وتعريف «الشرقيين القدماء». ومن ثم تشريح نمط عاداتهم 
الجديدة التي اكتسبوها خلال القرنين الماضيين» وحتى تقصي مخاوفهم وغرائزهم 
ودوافعهم ومتطلباتهم . وبالإجمال التعرف إلى كل ما له صلة بالشرق الذي يتحرّق 
الغرب شوقاً إلى العودة إليه . كانت استعانة الغرب بنخب «شرقية» وأطقم محلية» 
تنهض بعبء ما بعد الاستشراق» تمثل منعطفاً مهما في أسلوب دراسة العرب . 

وهذا هو الفارق الجوهري والحقيقي بين عالمي الاستشراق وما بعد الاستشراق . 


۲٦ 


بعد احتلال بغداد في التاسع من نيسان/ أبريل ٠٠١7‏ بأيام قليلة فقط» وقفت 
مطربة المقام”'' العراقي فريدة؛ لتغني في دار الأوبرا الهولندية بمصاحبة الأوركسترا 
الملكية» أول أغنية مقام باللغة الهولندية. لشُدٌ ما بدا هذا الزواج الغنائي الشاذ 
والغرائبي في تلك الأمسيةء حيث امتزج الصوت الكورالي الشرقي القادم من «بلاد 
ألف ليلة وليلة» الأسطورية بنفخات البوق الجنائزية الصادرة من آلة الفلو الغربية؛ 
وكأنه مصممٌ. لا لإعلان ولادة تجربة ثقافية تصالحية بين الشرق والغرب» وإنما 
بدرجة أكبر من ذلك » لإعلان ولادة نوع غير مسبوق من الصور النمطية التخيلية في 
عصر ما بعد الاستشراق» حيث صورة المرأة الشرقيّة» وهي تصدح بأغنية غربية» 
ولكن من دون أن يبدو الأمر وكأنه يتضمن أي قدر من الرطانة. 

بيد أن المغارقة بدت ساطعة مع ذلك» فالأغنية عن بلدٍ ترنح للتو تحت القصف 
الوحشي» وفي بلدٍ آخر أعتبر أحدث شريك في الغزو؟ فهل ثمة من صلة عضوية 
حقيقية بين الغزو العسكري الأمريكي للعراق وهذه التجربة الموسيقية التي جرت في 
إطاره؟ وهل وضع احتلال أفغانستان والعراق معاًء النهاية المحتومة لعصر 
الاستشراق القديم وولادة عصر ما بعد الاستشراق هذا؟ مثل هذه الأسئلة الملحة 
تبدو مُلحة أكثر فأكثر؛ حين يجري إمعان الفكر ملياً في خطاب التحريرء الذي كان 
صخبه يتعالى مع دوي القنابل في الليالي الباردة السابقة على سقوط العاصمة العراقيةء 


(۱) تبدو هذه التجربة؛ من أجل تقريب المسألة بصورة أفضل إلى أذهان القراء العرب الذين لا يعرفون 
الكثير عن فن الغناء «البغدادي؛ الكلاسيكي» شبيهة تاماً بتجربة غناء «القدود الحلبية» الشهيرة في بلاد الشام؛ 
ولكن بدلا من فرقة الآلات الشرقية» تُغنى بمصاحبة الأوركسترا. بهذا المعنى فقط سيظهر تلقائياً أن الزواج 
«الثقافي» وكأنه تجربة شاذة وغرائبية إلى النهاية. إنه نوع غير مألوف من عمليات فرض «خصوصية ثقافة» بعينها 
على ثقافة أخرى. 


۲¥ 


بينما كانت فريدة تستعد خلف كواليس المسرح لإطلاق أغنيتها عن البدو الغرباء في 
شوارع الغرب النظيفة؟ 


بالنسبة إلى المطربة العراقية المهاجرة التي تعيش لاجئة في هولندا منذ بضع 
سنوات؛ وربما بالنسبة إلى الهولنديين أنفسهم الذين أصغواء تلك الليلةء إلى ذلك 


المزيج الغريب من الأصوات وكأههم كانوا يصغون إلى صوت بعينه يأتي منساباً من 
الماضي البعيد» فيمكنهم من أن يستردوا ثانية ذكرياتهم الجميلة عن الشرق؛ فإن 
التجربة برمتها تبدو بريئة تماماً وخالية فوق ذلك من أية شبهات محتملة . كانت فريدة 
في ذلك المساء الحزين الذي أعقب سقوط بغداد تصدح بصوتها الجهوري أمام حشد 
من الأوروبيين والعرب واللاجئين العراقيين» من دون كثير إدراك للمغزى الحقيقي 
لأبعاد هذه التجربة الموسيقية وظلالها. وكان لافتاً أكثر بكثير» ربما مما يمكن للمرء 
أن يتصوره» أن كلمات الأغنية التي كتبت بشكل غير معتادء بلغة هولندية ركيكة؛ 


تتحدث عن تجربة وصول اللاجئين العراقيين إلى الغرب . 

تقول الأغنية : 

بملابسنا الرئة والتسخة 

وصلنا متأخرين إلى ا مدن النظيفة 

إلى ا مدن الأنيقة 

فه ل أشرقت الشمسٌ حين كنا في الغابة؟ 

وهذه الأيدي البيضاء 

التي تقودنا من معاصمنا 

هل فكرث في العتمة؟ 

هل كنا مرتبكين أمام الثلج 

بأصواتنا الغريبة 

وذكرياتنا الصحراوية؟ 

يا إلهي لقد وصلنا 

ولكننا ما نزال تائهين 

يمكن القول بكل ما يلزم من الموضوعية والحياد؛ إن وظيفة هذا النوع من 
القصائد قد يتجاوز إطار الشعرء إلى ما هو أبعد من العالم الرومانسي للمُغناة الشعرية 


184 


عن عذاب اللاجئين الطالعين من الغاية . إنماء إلى حدٍ ماء وظيفة شبيهة بإعلان 
موسيقيَ مهيب عن موت فكرة» وولادة قكرة أخرى» وموت صور منمقة وزائفة. 
وولادة ألخزى أكثر تتميقاً وتزييقاً. 


هل انتهى عصر الاستشراق إِذاًء وولد عصر ما بعد الاستشراق؟» وبحيث 
تصبح المرأة الشرقيةء السمينة والشبقة كما صورتها كتابات ومؤلفات الرّحالة عن 
مصر والجزائر والمغرب والعراق وفلسطين وسوريا؛ موضوعا ثقافياء وذلك حين 

ي - المرأة الشرقية ذاتها ‏ أغنيتها ذاتها؛ ولكن هذه المرة بلغة الآخر وموسيقاه؟ 
ذل افج عذنا الشي. .نج الخرب الساغيرة بدلا من سحر الشرق العظيم؟ لقد 
بزغ الا ستشراق الكلاسيكي مع نوع ممائل من هذه الكلمات والصور»ء حيث تعج 
الأسواق والشوارع› ؛ في الشرق المسلم» برجال من البدو التائهين الذين يرتدون 
داك اله REE‏ اناك E‏ بات وسرات SS‏ 
النمقةء خالا و کا ر 
الغريبة› ولكن وهم يتجولون مسحورين في شوارع الغرب النظيفة بدلا من طرق 
الشرق. 


لقد جاء البدوي بنفسه - يما هو موضوع الاسد ستشراق القديم - ليتجول في 
شوارع الغرب صاخباًء رثٌ الثياب» غريب الأصوات والذكريات؛ عارضاً نفسه من 
RT‏ لل » لكي يصبح موضوعاً 
أثيراً من موضوعات ما بعد الاستشر 


إن المناسبة التي تنطلق معها هذه التجربة الثقافية المثيرة وبمحاذاتهاء هي التي 
تفرض عل المرء؛ وليس أي باعث آخر» حتى وإِنْ بدا من غير إرادته ورغبته؛ التأمل 
في البعد الحقيقي للتلازم بين عودة الاستعمار إلى الشرق» REE‏ 
صاخب للصور القديمة والنمطية عن عالم العرب والمسلمين؛ وبزوغ عصر استشر 
جديد» يعود فيه الغرب إلى موضوعاته الُحببة التي بدا أنه قطع معهاء 00 
استحياء مقدار الزيف والرياء فيها. وبالنسبة إلى كاتب كلمات الأغنية؛ حتى ولو 
افترض المرء أنه قد يكون شاعراً عراقياً لاجثاً أو شاعراً هولندياً مغموراًء فإن مشاعر 
التعاطف مع اللاجئين العراقيين قد تبدو هي الأخرىء وبرغم كل العنفوان الذي 
يمكن أن يطبع نصاً شعرياً من هذا النوع؛ أقل أهمية وإلحاحاً من مسألة إبراز وتصعيد 
لحظة الانبهار بالغرب» وحضارته ومدنه الجميلة والساحرة؛ بل والاستسلام له 
والانقياد الأعمى لتصوراته ورؤاه عن الآخر والعالم والتاريخ . 


۲۹ 


لقد أصبح الغرب نفسه موضوع ما بعد الاستشراق . 


إنه موضوع السحر. وحضارته ونظمه الديمقراطية وسحر وحمال شوارعه 
ومدنه» ستغدو هي الموضوع المركزي المتماسك والصلب إلى حد بعيد» الذي سيحل 
عل الوضوع الركزي القديمء أي حل أسطورة الشرق العظيم. لقد تلاشى سحر 
الشرق» أو ذاب» أو أخلى مكانه لسحر الغرب الخفي . وهذا ما تنبئ به على أكمل 
وجه أغنية المقام العراقية التي غنتها فريدة على أنغام فرقة الاوركسترا باللغة 
الهولندية» لا العربية . 


إن المعاناة والإحساس بالغربة بفعل الانتقال من مكان إلى آخرء يمكن لها أن 
تتلاشى أيضاً أمام طغيان الشعور بالفوارق الهائلة بين الوطن القديم في (الغابة) وبين 
الوطن الجديد. ومع ذلك» ثمة شيء آخر لامسته وكشفته كلمات الأغنية بقوة 
ساطعة : إنها الروح الاستعمارية القديمة التي كانت حينئلٍ تستيقظ» > على نحو 
مفاجيء في أوساط الطبقة السياسية اليمينية في أوروياء وإلى حدٌ ما في أوساط بعض 


قوى اليسار التقليدي المؤيدة لغزو أفغانستان والعراق؛ مع كل نفخة بوق في دار 
الأوبراء ومع كل ضربة طبل في ساحة الحرب على حد سواء . 

ففي أورويا كما في الولايات المتحدةء وفي اليابان كما في بعض بلدان أوروبا 
الشرقية» وربما في كوريا الجنوبية أيضاً؛ كان هناك من ينفخ في بوق داود داعياً إلى 
المضي قدماً لاقتحام الغابة» من أجل اقتلاع لصوصها وأشرارها وبرابرتها المتوحشين. 
وكانت كل كلمة في الأغنية تبدوء آنئذٍء ومن دون تصميم وإدراك عميقين من 
كاتبهاء وكأنها تنفخ في النار المشتعلة. ليس مصادفة أن الأغنية جاءت في هذه 
اللحظة الاستثدائية: في التاريخ الجديد للإمبرياليات الجماعية : غزو الغابة. كان غزو 
العراق؛ أو الغابة التي يختبئ فيها زعيم شريرء اسمه صدام حسين» كما صوره 
الغرب طوال أكثر من عقدين من الزمن» قد انطلق للتؤٌ بمشاركة فرقة عسكرية 
هولندية صغيرة سارعت إلى التمركز» ويا للمصادفة» فى إحدى محافظات الجنوب 
وهي إقليم جغرافي تضاهي مساحته تماماً مساحة هولندا. . 

كان الهولنديون «بأيديهم البيضاء» التي قادت اللاجئين العراقيين من معاصمهم 
في الشوارع النظيفة من قبل» كما لو كانوا قبيلة من العميان» يتمركزون عند حافة 
الصحراء قرب الفرات». في السماوة (مساحتها الإجمالية ٤٠١‏ ألف كم۲) عندما كانت 
فريدة تصدح بأغنيتها عن الثياب الرثة والذكريات الصحراوية . وهاهم اللاجئون 


العراقيون بعد سقوط بغداد يستعدون للعودة إلى بلادهمء وهاهم» أيضاًء يستمعون 
إلى كلمات الأغنية من محطات التلفزيون الهولندية» كما لو أنها كانت أغنية وداع. 


۳٠ 


ولكنهمء بالرغم من نجاحهم في مغامرة الوصول إلى أوروبا في المرة الأول» 
ومغامرة العودة إلى الغابة في المرة الثانية» كانوا إذ ذاكء لا يزالون ضائعين فى بغداد 
اللحتلةء أيضاً. لقد وجدوا أنفسهم وسط مدن عراقية متسخة تعبّها الفوضى 
ويضرما الخراب» ولكن بملابس نظيفة. وتلك كانت ذروة المفارقة. إن درجة 
استسلام النخب السياسية والثقافية وبعض المنفيين السياسيين العراقيين العاديين» 
لصورتهم الجديدة في الغرب كما عبّرت عنها كلمات الأغنية التي تصفهم كقبيلة 
ضائعة من رجال ونساءء وصلت بعد مغامرة رهيبة إلى المدن النظيفة ولكنها مع هذا 
ظلت تائهة؛ يعبر بدقة بالغة لا عن درجة مذهلة من الخضوع شبه الجماعي لفكرة 
استشرافية قديمة عن الشرقيين وحسب؛ وإنما عن نوع ومقدار الخضوع شبه الجماعي 
الذي يريد منطق ما بعد الاستشراق فرضه. 

عليكم. منذ الآنء أن تغنوا أغانيكم التقليدية بلغتنا. أن تسيروا في شوارعنا 
النظيفة والأنيقة بملابسكم الرئة وأصواتكم الغريبةء ومن الأفضل أن تسيروا وأنتم 
تتحسّرون ‏ كما كان يفعل أسلافكم ‏ على مَدَّنية الغرب وسحره. عليكم» إلى جانب 
هذا كله أن تتأكدوا من أن الغرب لن يتخلى عنكم بوصفكم موضوعه الدائم 
والمستمرء ولكنه سوف يقوم بعملية قلب» أو إيدال وحسب»› لأن ذلك ملائم 
وضروري لتأمين عودته إلى الغابة التي طرد منها. إنه مثلكم تماماًء متحرّق ويرغب 
بقوة في العودة إلى الغابة نفسها. مع انطلاق المشروع العسكري للولايات المتحدة 
الأمريكية لغزو أفغانستان والعراق سارع الغرب كله إلى استرداد هذه الفكرة تلقائياً 
وراح يغني أغنيته العراقية على أنغام الأوركسترا الملكية . سوف يمد أيديه الأوروبية 
البيضاء (الكولونيالية) لتقود اللاجئين من جديد إلى كابول وبغداد والحجاز والقاهرة 
وإلى كل بقعة من العام العربي يمكن أن تمتد إليها وتبلغها؛ بل ولتقوم بتنصيب 
كزعماء وقادة مجالس قبائلية (لويجركا). على الفور سيبحثون عن كرزاي أفغاق" 
وعن آخر عراقي حتى آخر القائمة . ْ 

هكذا جاءوا من الغابة ‏ وهذه هي صورة بلادهم كما تقول كلمات الأغنية - 
وهكذا يعودون إليها. وطوال عامين متواصلين من الاحتلال الأمريكي للعراق؛ 
وحين قادت الأيدي البيض الرجالٌ والنساء في القبيلة العراقية الضائعة من معاصمها 
لتعيدها إلى الغابة؛ كان العراق بأسره يتحولء بالفعل وفي ظل الفوضى والخراب 
والقتل إلى ما يشبه غابة موحشة . وطوال عامين أيضاً كان تلفزيون الشرقية وهي محطة 
فضائية عراقية أسسها الصحافي العراقي سعد البزازء الذي كان هو نفسه لاجثاً في 


(؟) حميد كرزاي رئيس الوزراء الأفغاني المُنصّب من قبل قوات الاحتلال الأمريكي. 


۳١ 


لندن» وعاد إلى بغداد فور سقوطها في قبضة الأمريكيين» يبث بشكل متواصل وكل 
أسبوع تقريباً أغنية فريدة هذه. لا أحد من محبي فن المقام (وهو لون من الغناء 
البغدادي التقليدي شديد الخصوصية) أو من قادة النخبة السياسية والثقافية والفكرية 
العراقية» فک مجرد تفكير» بإمكانية وجود أدنى رابطة بين الاحتلال الأمريكى 
ومشاركة هولندا في الحرب على العراق من جهةء وإطلاق هذه الأغنية من جهة 
أخرى؟ وبالفعل ليس ثمة سوى رابطة واهية. ومع هذا؛ فإن المرء لينتابه إحساس 
غامض بأن ثمة رابطة أخرى أكثر قوة» من حيث مستوى المشاببة؛؟ ولكن أقل 
دراماتيكية ما كان عليه المثال العراقى» ربما لمجرد تصويره على هذا النحو كشخص 
بربري متسخ الثياب لا يملك سوى ذكريات صحراوية وأصوات غريبة. وكيف 
يستسيغ إنسان ماء مهما كانت درجة سخطه على النظام السياسي في بلاده» أن 
يصف نفسه أو أن يتقبل وصف الآخر (الغربي) له على هذا النحوء وأن الأيدي 
البيض وحدهاء أي أيدي الأوروبيين والغربيين عموماً هي التي سوف تقوده من 
معصمه كالأعمى إلى بلاده؟ قد لا يكون هذا الأمر مقبولا لولا أن الحرب «من أجل 
إعادة اللاجئين إلى الغابة» قد أصبحت على الأبواب. كان لا بد عندئظٍ من أغنية 
تصدح بها امرأة عراقية شرقية» ويعزفها رجال بيض على آلات غربية . ولأن الحروب 
كما يخيرنا التاريخ قد تبدأ بأغنية؛ ومن المنطقي التفكير بأنها قد لا تنتهي بأغنية . 
وذلك ما لا يفكر فيه «المنتتصرون» عادة . 


يخفي هذا الدمج الماكر للصور والأصوات» بدرجة أكبر ما نتخيله» نزوعاً 
قديماً للهيمنة» وقد أعيد إنتاجه في عصر ما بعد الاستشراق» وذلك من أجل 
مواصلة دمج جماعات بشرية بعضها في بعض» تماماً كما تُدمجُ الآلات الموسيقية 
الشرقية والغربية» ومن ثم تميّل المزيج الغريب من الأصوات» كمقطوعة موسيقية 
قابلة لأن تُعزف بأنامل غربية بيض؛ بل ومعاملة هذه الجماعات المدمجة كجماعة 
واحدة (شبيهة بالقرص المدمج) تقف بانتظار الخلاص» مبهورة ومستسلمة لسحر 
الغرب الخفى. إنه نمط آخر من الهيمنة على اللغة قد لا يكون مألوفاً بعد. إن 
التزامن المقصود بين غزو أفغانستان والعراق؛ وانطلاق ما دُعي بحملة «نشر 
الديمقراطية؛ فى هذين البلدين الصحراويين» النفطيينْ» وتحرير النساء فيهما من 
التسلط والحجاب والاضطهاد» وبالطبع من سائر النظم والقوانين والتقاليد المحليةء 
وحتى من الثقافة التي تحدٌ مما يدعى «حرية المرأة» في التعليم والعمل؛ هو الذي 
يدعونا إلى رؤية المغزى الحقيقي لذلك المزيج الغريب من الأصوات المتصاعدة عشية 
وبعد الغزو. 


إن عصر› ما بعد الاستشراق» يبزغ مع هذين الحدثين بجلاء نادر. ليس من 


۳۲ 


دون معنى أن فريدة حين صدحت بأغنية المقام العراقي هذه والتي كتبت خصيصاً 
لها باللغة الهولندية وعزفتها لها بدلاً من فرقة الجالغي البغداد دية" فرقة 
أوركسترا ملكية؛ كانت تغني في اللحظة ذاتها التي تمركز فيها الجنود الهولنديون في 
مكان أسموه هولندا الجديدة؟ هولندا الصغيرة» الشرقية» البدوية هذه ليست سوى 
محافظة السماوة . لقد أصبحت هي هولندا الجديدة (أو هولندا الشرقية) بينما أصبح 
البدو العميان بثيابهم الرئة وأصواتهم را وين . فكيف تبدت 
إذأء صورة العراق كله مع بزوغ عصر ما بعد الاستشر شراق هذا؟ 


ما يطمح هذا الكتاب إلى إثارته هو على وجه التحديد» رؤية إمكانيات أكبر 
وأفضل للربط الخلاق» بين عودة الاستعمار القديم إلى مستعمراته وبزوغ عصر 
استشراق عالمي جديد (عصر ما بعد الاستشراق) حيث يتلاشى الملوضوع الكلاسيكي 
عن سحر الشرق ليحل محله موضوع مركزي آخر هو: سحر الغرب الخفي الذي 
يُلهم بلداناً وجماعات وثقافات لا حصر لها في هذا العالم» ويرغمها على محاكاته 
والتمائل معه. وذلك ما سوف يتجلى بشكل شديد الحيوية» والتواتر فى المحاولات 
المحمومة لتسويق استراتيجية الحرب على الإرهاب» وتصويرها وكأنها حرب مقدسة 
مضادة ضد حرب مقدسة أخرى» خفية وشيطانية ومتوحشة يشنها الإسلام الشرقي 
ضد الغرب وحضارته ومدنيته ؛ وضد سحره الذي يطغى على مساحات شاسعة من 
العام . 


وفي إطار هذه الحرب التي بدأت في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر ٠٠١١‏ 
جرى دمج ماكر للعراق بأفغانستان وظهرت صورة جديدة لبلدين وجماعتين بشريتين 
من العالم الثالث» وكأنها صورة بلد واحد وشعب واحد مُصدر للعنف ضد الغرب؛ 
تكاملا ونضجا داخل مرآة التخيل في هيئة كائن إخطبوطي» شرير وشيطاني قادر على 
التمدد فوق المساحة الفاصلة بين بغداد وكابول؛ ويمسك فى ذراعه اليسرى ‏ مثل 
آلهة الأولب المهيبة ‏ بأسلحة التدمير الشامل المرعبة» بينما يمسك في اليد اليمنى 
بسلاح الأصولية الفتاك . 1 


إن بغداد الأفغانية» أي بغداد التي تعرضت لعملية (أفغنة) منظمة ومطردة 
وطوال أكثر من عامين» وحيث صوّرت بوصفها معقل بن لادن الجديد والبديل عن 
جبال تورا بورا؛ بل ومعقل خلفائه من الأصوليين الشباب بقيادة أبي مصعب 
الزرقاوي و#الوهابيين الشرسين المتسللين؟ من وراء الحدودء هي صورة تنتمي ي إلى نوع 


(؟) فرقة موسيقية تعزف بالآلات التقليدية. 


7 


جديد من الاستشراق. إنه ما بعد استشراق سياسي» تقوم بموجبه وبفضله قوة 
استعمارية جديدة» بتخيّل البلد نفسه وبالطريقة نفسها وللأهداف والأغراض نفسها 
أيضاًء ولكن بأدوات أخرى قد لا تمت لأدوات ووسائل التخيّل الكولونيالي السابق 
بشيء . 

هذا ما يرغب المؤلف في تفكيكه ورؤيته من منظور مغاير. ونحو هذا الهدف 
سوف يتجه؛ مصمماً على تقديم قراءة للاحتلال الأمريكي للعراق بالتلازم مع 
احتلال أفغانستان» ورؤيته كحدث افتتاحي لعصر ما بعد الاستشراق. 


فاضل الربيعي 


هولندا ‏ دمشق ۲۰۰۴ ۲۰۰۵ 


۳٤ 


الفصل اللأارن 
من رحلات الاستشراق الأولى 
إلى ما بعدالاستشراق 


ظلنوا العراق الهن دأو مو مثلها كذبت ظنونبم وخاب القصد 


الشاعر ورجل الدين العراقي 


الشيخ محمد باقر الشبيبي 


1884-1 


«.. . ول وأذنت لي با نآقد مأية اقتراحات ؟ فإ أو صي بان غلفه مسلم شيعي م نآسرة 

طيبة من الهند . و لا اقترحتعيين موظف أوروب لان مركزه سيكون معزولا بما لا 

يطاق ؛ بل ويمك نأن يكون خطرا ف يأوقات الاضطرابات الدينية . ريما يوج د كثير من 
وكلاء ا جياة في الهند من يرحبون بإنفاق روانبهم ف يكريلاء والوت فيها 

العقيد نيو مارش ٠۹۰۳‏ 

توصية بشأن ثل القنصل البريطاني في كربلا 


إذا كان الاستشراق القديم هو الذي صمم هذه الصورة الزائفة للعراق؛ بوصفه 
ماثلاً للهندء أو هوء على نحو ماء امتداد لها أو شبيه اء وذلك ما سخر منه بمرارة 
وفي وقت مبكر نسبياً؛ ولكن ليس بعد فوات الأوان» رجل الدين والشاعر محمد 
باقر الشبيبي عام 1۹۲۹ء عندما وقف في مواجهة مستر كراين" ليبلغه أن الصورة 
بأكملها زائفة وتلفيقية؛ لآن العراق لا يمكن أن يكون امتداداً ثقافيً كولونياليا لهند 
البريطانية بفضل قوة خصوصياته الروحية والحضارية؛ وإذا كان الاستشراق على 
امتداد عقود عذّة» هو الذي كرّس صورة بلاد ما بين النهرين بوصفها (ميتوبوزاميا - 


(۱) ج. ج. لوركرء دليل الخليج . ترجمة مكتب الترجمة بديوان حاكم قطر (بيروت: دار العربية» ۷% .> 
°{ ج 4 : القسم التاريخي. 

(1) مستر كراين هو الحاكم العسكري للنجف والذي عرف بشراسة أخلاقه وعنفه ضد المواطنين. 
انظر: قصيدة محمد باقر الشبيي تحية إلى مستر كراين التي خاطب فيها مستر كراين لكنها تتضمن نقداً لاذعاً 
للصور الاستشراقية المبكرة. 


وخر 


ميزوبوتاميا)””" تنهض من تحت الركام من جديد. وأنها بلد يستحق وكيلاً للقنصل 
البريطاني في كربلاء شرط أن يكون هندياً شيعياً» على ما ارتأت وصية العقيد نيو 
مارش؛ فإن ما بعد الاستشراق بكل جلاء» هو الذي يقوم اليوم بتصميم الصورة 
الجديدة الشائعة والمنتشرة بكثافة في وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية الغربية عن 
البلد نفسهء بوصفه بلدا ماثلاً وشبيهاً بأفغانستان أو هو امتدادها السياسي . الفارق 
الوحيد والجوهري بين هذين المثالين الساطعين» أن لا أحد تقريباً من النخبة العراقية 
الحداثوية قام بنقد الصورة الجديدة والكاذبة» بينما فعل المثقفون التقليديون العراقيون 
ذلك من قبل وبشكل متواصل» حين كانوا يرون النشاط المحموم لتخيل العراق 
وكيفية تحويله» فى المؤلفات والدراسات الاستشراقية» إلى بلدِ شبيه وممائل للهند» 
بوصف هذا العمل وفي الصميم؛ عملا استعمارياً بأدوات ثقافية استشراقية 


إن المجال الحيوي والحقيقي الذي نشط فيه الاستشراق القديم؟ يقع داخل حقل 
السياسة الاستعمارية وليس خارجها أو بمحاذاتها. وهذا هو عينه 0 الذي ينشط 
0 ستشراق . ولكننامنذ صدور الكتاب العظيم لإدوارد سعيد 
الاستشراق”* المثير والمهم للغاية» نصارع فكرتنا الجامدة وغير البناءة عن نشاط 
الرحالة 5 والتجار والأطباء 5 الذين جابوا الشرق ودرسوه في ما 
غرف (بالا رای رمف معلا دراسا منظما وزرا عصورا في خقل الثقافة . 
وهذه فكرة تبدو بلا مراء فكرة ناقصة وجديرة بإعادة النظر. ولذلك ثمة حاجة راهنة 
وشديدة الإلحاح اليوم للتبصر وإمعان الفكر في ما بعد الاستشراق بوصفه تطويراً 
لأدوات ووسائل وأشكال التخيل السابقة 


إن الميدان الحيوي لنشاط» ما بعد الاستشراق» يقع داخل حقل السياسة لا 
خارجها؛ وداخل حقل الثقافة لا خارجها أيضاً. ومع ذلك يتوجب القول بوضوح 
كاف وقايل للتدليل عليه» وحتى دعمه بالمعطيات اللازمةء إن الوظائف التاريخية 
للاستشراق القديم قد انتهت» أو هي بكلام أنسب» استنفدت أغراضها الأصلية بعد 
أن تراخت أهدافه» ثم تلاشت مع الحلول والتصورات الزائفة والمرائية التي ابتكرها؛ 
وبالتالي فهى تبدوء وقد برعت عنها مبرجة «الاكتشافات العظيمة» . وأببة «الفتوحات 
العلمية» جرد أهداف ووظائف مُستنفدة ومتآكلة وربما عديمة القيمة» أو لم تعد قائمة 


(۳) ميزوبوتاميا ‏ ميسوبوتاميا ام الاستشراقي الذي أعطي لبلاد ما بين النهرين 
في مطالع القرن الماضي. 

٤ط إدوارد سعيدء الاستشراق: المعرفةء السلطة. الإنشاءء نقله إلى العربية كمال أبو ديب‎ )٤( 
.)۱۹۹٩ (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية:‎ 


784 


إلا فى حدود ضيقة. ولكن لتحل محلها أهداف ووظائف جديدة» وممارسات 
ونشاطات ودراسات وتصورات ما بعد استشراقية» ل يتسن بعد نقدهاء أو تشريحها 
وتحليل طبيعتهاء وحدود رد الفعل حيالها. هذا الحقل النموذجي لا بعد الاسثشراق 
هو وبكل يقين أيضاً. حقل السياسة الاستعمارية الجديدة العائدة إلى الشرق نفسه . 
وفي الحقل نفسه سوف نرى كيف تنعكس السياسة ) وبدرجة موازية تماماً للثقافة» 
بوصفها تطويراً للرؤى والمنظورات القديمة الُصممة لرؤية الشرق العربي المسلم» 
كموضوع للتلاعب والخيال. 


إن الشطر الذي صدرنا به هذا الفصلء والمأخوذ من قصيدة طويلة كتبها رجل 
دين وشاعر ثائر في عام ١979‏ يلخص على وجه الدقة» طبيعة التخيل الاستشر 7 
الذي قام به البريطانيون للعراق. كما يلخص ببراعة حدود ودرجة ونوع رد الفعل 
الذي أثاره عند العراقيين. وهذا أمر مهم للغاية بالنسبة إلى أي عمل نقدي. لقد 
نمض الاستشراق السياسي المتلازم مع الكولونيالية الكلاسيكية في العراق بالمهمة التي 
أنيطت به تماماً . وأدى» في حقب. وفترات ختلفةء غرضه ووظيفته الأساسية في 
إنشاء خزان من الصور المتخيلةء وإلى الدرجة التي بات فيها فعلياً مصدراً من مصادر 
السياسات والتصورات الاجتماعية والثقافية السهلة والمبسطة؛ هذه التى استنفدت 
واستهلكت جهود آلاف من الرحالة والعلماء وضباط الجيش» كما استهلكت 
أغراضه وموضوعاته نفسها. وبالطبع لم يصبح العراق (هنداً أخرى) أو شبيهاً بها. 
كما أن الحلول والتصورات المبسطة والمقترحات التلفيقية والأفكار المتعجرفة التى 
عرضها الضباط والرحالة والأدباء انهارت كلها تقريباً وبسرعة غير متوقعة. 00 


ولذاء يمكن القول إن الاستشراق السياسي القديم فقد أدواته التاريخية الكبرى 
مع الإخفاق المدوي للسياسات الاستعمارية في الشرق؛ ولكن ليعيد إنتاج نفسه 
ووظائفه اليوم في صورة ما بعد الاستشراق» وذلك مع تدفق الصور النمطية الجديدة 
عن العراق وأفغانستان. بهذا المعنى يمكن التركيزء فى سياق عمل نقدي جريء» 
وبدرجة أكبر وأفضل مما فعلنا فى الماضى القريب» على رؤية ما بعد الاستشراق هذا 
بوصفه امتداداً بأدوات ووسائل أخرى للاستشراق القديم؛ وبالتالي تطوير نظرتنا إليه 
من خلال إعادة تفكيك صوره الزائفة التي جرى تكريسها في حقل السياسة كما في 
حقل الثقافة ؛ فهذان هما الميدانان الحقيقيان اللذان تتجسد وتتجلى فيهما الوظائف 
التارحية . هذه الوظائف عينها - ولكن من خلال إعادة إنتاج ماكرة - هي التي ينهض 
ها اليوم› بدلاً من الرحالة العجائز والمستكشفين المسحورين بالشرق وعلماء الآثار 
المبهورين ب «عظمة التراب؟ وضباط الجيش الاستعماريين المتلهفين لأن تطأ أقدامهم» 
في أسرع وقت» أرض «الشرق الحزين؟؛ جيل حديث من الكتاب والدارسين 


۳۹ 


والمنظرين الحداثيين من «ذوي النزعات الاستعمارية الشرسة» لا في الولايات المتحدة 
الأمريكية وحدها وإنما في أوروبا أيضاًء وإلى الدرجة التي راحت فيها موجات 
متتابعة» مشحونة بالازدراء والاحتقار للشعوب والجماعات خارج العالم الأمريكي؛ 
تتلاطم قادمة من وراء الأطلسي لتفيض خارج آسيا حتى تبلغ شواطئ أفريقيا 
التعيسة . لقد اشتكى وزير خارجية رواندا بمرارة من أن (الصور الزائفة التي ترسمها 
الولايات المتحدة لأفريقيا تؤثر سلباً في مكانتها وتطورها)””' : ها هو إذاً» المد المدمّر 
للصور ما بعد الاستشراقية يطال أفريقيا متجاوزاً تخوم العالم العربي الإسلامي. بهذا 
المعنى أيضاً؛ فإن قادة ما بعد الاستشراق» وهم خليط من مثقفين وعسكريين 
استعماريين مشبعين بالنزعات العدوانية (إعلاميون ومعدو برامج وصحافيون 
ومراسلون حربيون يعملون سوية وكتفاً لكتف مع قادة في البنتاغون) هم الذين 
صمموا الصورة الأفغانية النموذجية لعراق محتل. يمكن أو يجب تحويله إلى نموذج 
قابل للتعميم خارج آسيا. 
وكما في الواقع ؛ فإن حقل الأساطير حافل بالخدع والصور الزائفة . 


في حكاية شهيرة من حكايات «ألف ليلة وليلة؛ العراقية التي تدور أحداثها في 
بغداد العبا a‏ يرج الخليفة الأسطوري هارون الرشيدء ذات مساء» في نزهة 
ور امع ا . وحين يتهادى المركب في مياه دجلة جذلاًء وفيما الخليفة يستغرق 
بالمنظر الخلاب لياه النهر وقد تر قرقت صفحاته تحت ضوء القمر» يصادفه مركب قادم 
من بعيد. ولأن للمركب أبية شبيهة بأبهة مراكب الملوك والأباطرة؛ فقد راح الخليفة 
يتساءل في حيرة: ومن يكون هذا القادم؟ إن له هيبة شبيهة ببيبة الملوك؟ وعندما 
اقترب المركب أكثر فأكثر عقدت الدهشة لسان الخليفة : أليس هذا الجالس فى ذاك 
المركب هو أنا؟ ١‏ 

لقد كان هو نفسه هناك في المركب . 

عندما يرى الإنسان نفسهء أو يراه الآخرون في صورة #شخصين متماثلين» 
وفي «مكانين مختلفين؛» ولكن في زمان أرضي واحد؛ فإن حكايته ستبدو حين يقوم 
بروايتهاء قربا سی شروت الخبال يكل تأكيد . وبالفعل» سوف تبدو حكاية الخليفة 
العراقى الأسطوري هارون الرشيد» من هذا المنظور»ء خيالية وغير قابلة للتصديق إلى 
النهاية. إنبا حكاية من حكايات الشرق العجيب» وهذا صحيح؛ إذ لا يمكن 


(5) انظر التصريح الصادر عن وكالات الأنباء في ۲۲/ ٠۲٠٠۰٠۵/۰‏ 


30 


للإنسان أن يرى نفسه في مكانين أو مركبين في الآن ذاته . ومع ذلك» ففي عالم 
الا ستشراق السياسي الكولونيالي (العجيب) يمكن للمرء أن يرى عجائب أخرى : 
دمج وممائلة لا نهائية ومطردة غير قابلة للتفكيك» لصور بلدان وشعوب وجماعات 
وثقافات يستحيل الجمع بينها 

القليلون فقط » من الكتاب والباحثين الطليعيين في العراق» توقفوا بقدر حصيف 
مدعم بما يكفي من المعطيات التاريخية والفكرية» أمام المغزى الحقيقي لهذه الممائلة 
التي تجعل من بلادهم امتداداً لأفغانستان» بعدما كانت امتداداً للهند في الماضي 
القريب» حين كان الاسد ستشراق الكلاسيكي يمن على الثقافات الوطنية في الشرق 
بأسره؛ أو أدركوا معنى الإلحاح الغربي عموماً والأمريكي بشكل خاص على دمج 
صورة بغداد في صورة كابول قبل التاسع من نيسان/ أبريل ۲٠٠۳‏ . والقليلون فقطء 
من هؤلاء ولأسباب مختلفة» كان بوسعهم ‏ أثناء الدمج الاستعماري الذي تولته 
وسائل الإعلام الغربية بدهاء طوال سنتين من الاحتلال - رؤية المنظر الخلفي لعملية 
التماثل المخادعة هذهء أو حتى فهم البعد الحقيقي لربط العراق بأفغانستان من خلال 
ميزانية حربية واحدة وقائمة خسائر - في الأرواح ‏ واحدة؟ حتى صور القتى من جنود 
الاحتلال» والتي كانت تعرض على وسائل الإعلام بعد موافقة قة البنتاغون على نشرها» 
بدت صوراً مدمجة بحيث يصعب قييزها : هل هي لقتلى أفغانستان أم هي لقتلى 
الأمريكيين فى العراق؟ وسائل التعذيب والاغتصاب التى تعرض لها السجناء فى 
غوانتنامو و«أبو غريب» كانت كذلك متمائلة إلى حد كبير. وبالطبع لا يمكن للمرء» 
وهو يتصفح مجلة نيوزويك الأسبوعية أن يميز بين صور التوابيت القادمة من العراق 
وتلك القادمة من أفغانستان. ولا يستطيع التمييز أيضاً بين المصحف الذي تم تدنيسه 
وتمزيقه في (مرحاض) سجن غوانتنامو. وشبيهه المصحف الذي مزق ورسمت عليه 
شارة الصليب في مسجد القدس في الفلوجة. إنه المصحف نفسه في مكانين وزمنين 
مختلفين. وهو الشخص نفسه في المركبين. فجأة تحول بلد واحد حسب تعبير 
الرئيس بوش - إلى خندق أمامي من خنادق الحرب العالمية ضد الإرهاب . 


بلا ريب» ومن دون خدا » أو تضليل للنفس؛ O CT‏ 
البلدين بالتعاقب جاء د تتويجاً لاستراتيجية عسكرية أمريكية غير مسبوقة» وليس لأي 

سبب أو باعث عرضي آخر . وهو إلى ذلك تطبيق على الطبيعة لعقيدة خوض حربين 
فى واا عدار رحد تقوم في ما تقوم» على أساس مهاجمة العدو في عقر 
داره قبل أن يفكر جرد تفكير بإمكانية الحرب؛ وحتى من دون انتظار معرفة ما إذا 
كان هذا البلد يملك. بالفعلء الوسائل والأدوات التي تمكنه من خوضها؟ وفي ما 
خص حالة العراق؛ فإن المرء ليدهش حقاً من مغزى هذا الدمجء الذي يجعل منه 


a 


امتداداً كولونيالياً لمستعمرة أخرىء وذلك عندما يعود إلى التاريخ» ويقوم بمراجعة 
وقائعه المسكوت عنها؛ إذ سوف تشخص أمام ناظريه محاولات مماثلة قام فيها 
البريطانيون من قبل في عام ۱۹١۷‏ ؛ عندما سعوا إلى الربط بين البصرة وبومباي في 
سياق المحاولات المحمومة ذاتها لدمج العراق بالهند. لم يكن دمج بغداد بكابول مجرد 
هفوة تكتيكية في التطبيق العملي للعقيدة العسكرية الجديدة» وليس جرد خطإ في 
الحسابات الميدانية ارتكبه منظرون مهووسون؛ بل كان تعبيراً بليغاً عن لحظة تاريخية 
فاصلة يبزغ فيها ما بعد الاستشراق بكل أيبته» حيث تدمج شعوب وأمم وتوضع في 
مركب واحد» وبحيث يرى فيهاء لا الخليفة وحده» بل كل إنسان في البلدين 
المحتلين» نفسه وقد أصبح في مكانين ختلفين. إنه الدمج الإمبريالي الجديد الذي 
. تخترق فيه سيادات دول» وُيعاد تركيب عقود اجتماعية ويجتمعات وأعراف وتقاليد 
وثقافات بأكملهاء وحيث تُصهر بقوة القصف الصاروخي المروع مكونات وعناصر 
ومواد كانت قائمة على التعايش التقليدي. ذلك كله من أجل شيء واحد رفع إلى 
درجة الهدف المقدس : تعميم سحر الغرب الخفي على العالم . 


سنرسم هنا إطاراً تاريخياً شديد العمومية ولأغراض محددة توضح ما أمكن» 
جوانب من العلاقة بين الاستشراق القديم وما بعد الاستشراق الراهن» من خلال 
نموذج المماثلة التي قام بها الأمريكيون بين العراق وأفغانستان. اللافت في المماثلة 
الراهنةء أن الإدارة الأمريكية قامت عبر الحرب على الإرهاب بالربط الوثيق بين 
البلدين حتى على صعيد الحلول السياسية للمشكلات التي واجهتها في كابول 
وبغداد . إن أسطع دليل على ما بعد الاستشراق هو ذلك التمائل المطرد الذي ميز 
سلوك الاحتلال الأمريكي إزاء السكان المحليين في البلدين» أي إزاء البدو أنفسهم 
بأصواتهم الغريبة وذكرياتهم الصحراوية . لقد جاءوا لتحريرهم من الطغيان» ولكن 
هاهم المحررون يتحولون إلى طغاة وجلادين شرسين» مع الوقت» أكثر بشاعة وقسوة 
من القدامى . 


إن كثرة من الباحثين العراقيين من بينهم الباحث الراحل عبد الله الفياض يحبذون 
استخدام المثال الآتي للتدليل على السلوك المشين لضباط الاحتلال البريطاني: كان حاكم 
النجف في منتصف القرن الماضي الكابتن كرين هاوس «(F. S. Green House)‏ واحدا 

من أكثر الضباط «المستشرقين» الذين قاموا بتخيل العراق «الهندي» هذا؛ وقد قرّعه 
الشبيبى فى قصيدته كما رأينا» على تصوراته وخيالاته السقيمة» رافضاً أي اعتراف 
من جانب النخب الثقافية التقليدية بالصورة الزائفة للعراق . كان هاوس إذا ما مر في 
شاع اورف جعل اا من تر التخوط ليرب فيه كل ن بدت 
وذلك» من أجل أن يُفسح الطريق أمامه ليمشي متبختراً غير مبالٍ بمن هم حوله. ثم 


۲ 


جاء من بعده من هو أكثر شراسة منه الكابتن وينغت (عاةعم¡¥)» الذي صارت 
شراسته مضرب الأمثال في العراق كله . كما ينقل كاتب آخر وصفاً دقيقاً لسلوك 
الضباط الإنكليز عموماً ولسلوك حاكم النجف كرين هاوس خصوصاًء عندما كان 
حرسه يجبرون رواد المقاهي على الوقوف له إجلالاً وتعظيماً حين يمر» بينما يتهادى 
هو في مشيته ناظراً باستخفاف وابتسامة ساخرة . 


ويصف عبد العزيز القصاب باعتباره شاهد عيان» في كتابه من ذکریاتي"“ كيف 
أن الموظفين الإنكليز كانوا يبينون ويحتقرون السكان (بصورة لم يسبق لها مثيل في 
الدور التركي ويضربون كل شخص يخالف نظام السير في الشوارع بصورة قاسية) 
لقد سارت عملية اضطهاد السكان المحليين» بالأمس كما اليوم» جنباً إلى جنب مع 
خطاب الحرية الذي صدح فيه الآباء الأوائل للكولونيالية. تكمن أهمية الإطار 
التاريخي الذي سنرسمه باقتضاب» في قدرته على إعطاء تصور أدق عن التاريخ 
المشترك للاستشراق وما بعد الاستشراق بالتلازم مع عودة الاستعمار إلى المنطقة؛ 
فلقد ارتبطت سائر الحملات العسكرية على العراق فى تاريخه الحديث وقديماًء 
بمحاولات تغيير تركيبته السكانية والتلاعب فيهاء وإعادة تركيب صورته كبلد؛ 
يمكن أو يجب فصله عن محيطه وبيئته التاريخية» تمهيداً لربطه بدوائر جغرافية وسياسية 
أخرى. وحتى بالنسبة إلى محاولات احتلال العراق السابقة على الاحتلال البريطاني» 
واجه هذا البلد التعيس القدر نفسه . ما من قوة سعت إلى الاستيلاء عليه إلا وفكرت 
بتغيير تركيبته السكانية والثقافية والتلاعب مها . ويبدو لي أن التكوين التاريخي الفريد 
لهذا البلدء كان مصدراً من مصادر عدة» لإغراء لم يكن ليقاوم إلا بقدر ضئيل من 
الإحساس بالذعر والخوف على مصيره. 


كانت إيران (سنوات ۱٥۰۰‏ ۱۸۳۰) من ر بين أكثر الدول التي رغبت» وكمالم 
تفعل أي قوة استعمارية سابقة» لا في ضمه إلى العرش الشيعي الصفوي وإلحاقه 
نبائياً بإيران وحسب؛ وإنما راغبة كذلك في إحداث تغيير بنيوي في تركيبته 
السكانية . بيد أن إيران لم تفلح في خاتمة المطاف». إلا لوقت محدود وقصير في نيل 
هذا الهدف جزئياً والوصول إليه بشكل محدود وبصعوبة بالغة . تجلى ذلك بأنصع 
صوره عندما فرض إسماعيل شاه ٠١١١‏ م المذهب الشيعي الصفوي؛ وقام بإحلاله 


(1) علي ناصر حسين» «الإدارة البريطانية في العراق (19114 4/١918‏ في : المفصل في تاريخ العراق 
المعاصر (بغداد: بيت الحكمةء »)۲٠٠۲‏ ص .٥۳٤‏ 


زفف انظر: عبد العزيز القصاب. في: المصدر نفسه. وعبد العزيز قصابء من ذكريات (بيروت: 
منشورات عويدات» 231 ص ۱۹۷. 


A 


تدريجياً حل المذهب الجعفري» الذي تقلصت جغرافيته منذئذٍ وفي مناطق بعينها 
لصالح قراءة إيرانية للإسلام» هي مزيج من علوم فقهية وعقائد وأساطير فارسية 
قديمة» ومن ثم نشرها في أوساط العشائر النجدية القاطنة في بغداد وأطرافها 
الغربية؛ وذلك في محاولة لإحداث أكبر قدر من الخلخلة في البنى الثقافية للسكان. 


في التاريخ المشترك للفرس والعرب على ضفتي الخليج» ظلت الديانات 
والعقائد الفارسية المتعاقبة وعلى التوالي أقل تمثيلية وجاذبية بالنسبة إلى العرب» فلا 
الزرادشتية ولا المجوسية ولا المزدكية من قبل ذلك ولا المانوية أيضاً (أيام البابليين) 
كانت قادرة على اجتذاب العرب البدو إلى أي دين فارسي» لا بالإغراء ولا بقوة 
السيف؛ بينما حدث العكس مع إيران التاريخية» إذ بدا الإسلام «البدوي» الطالع من 
الجزيرة العربية أكثر قابلية لإزاحة هذه العقائد» وأكثر جاذبية وطاقة على استبدالها 
بعقيدة عربية كونية هائلة القوة» وهذا ما وضع فارس أمام متغير تاريخي هائل في 
ثقافتها القديمة . 


بكلام آخر» لم يكن بوسع إمبريالية فارس في أي وقت» إنتاج ديانة كبرى قادرة 
على اجتذاب «مستعمراتها العربية؛ لا في شرق أو غرب أو جنوب غرب الجزيرة 
العربية . وكما لاحظ المؤرخون الكلاسيكيون العرب قبل الإسلام؛ فإن القبائل 
العربية امتنعت عن قبول أي ديانة فارسية حتى بالقوة. ولم تتمكن المجوسية بكل 
زخمها سوئ من اجتذاب أشتات من قبائل العرب» منها قبيلة بني تيم في عصر 
زعيمها زرارة بن عدس التميمي 0 . كما لم تفلح ضغوط ملوك فارس المتعاقبة على 
حمل ملوك مملكة الحيرة ف في العراق على قبول المزدكية أو اعتناقها أو حتى السماح 
بنشرها . إن ما كان يحكم فارس القديمة في هذا الجانب» ويشدها بقوة إلى التأمل في 
صورتهاء والتساؤل عن أدوارها الإقليمية (في إطار المحيط العربي) يكاد يكون مائلة 
تقريباً لما يمكن اعتباره اليوم عقدة أمريكا التاريخية؛ بين كونها أمريكا الدولة الممتلكة 
الحضارة معاصرة عظيمة» وبين كونها أمريكا التي تفتقد إلى «دين عظيم! أي إلى رسالة 
روحية أو أخلاقية كبرى . 


إن إيران المعاصرة من هذا المنظور تعيش المفارقة ذاتها؛ فهي امتلكت حضارة 


(۸) قتله ملك الحيرة عمرو بن هند بن ماء السماء 5864 ٥۷١‏ م المعروف عند سائر المؤرخين باسم 
«مضرط الحجارة» لشدة بأسه وقسوته؛ إذ قام بإحراق زرارة هو وأسرته وعدد من رجال تميم. حول هذا 
الحادث التاريخي. انظر: أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد» الاشتقاق» "٠٥۸‏ ؛ أبو العباس محمد بن يزيد 
المبرد» الكامل في اللغة والأدبء ج ۲ ص ۸۲؛ علي بن الحسين أبو فرج الأصفهاني: كتاب الأغاني. ج ۲۲ء 
ص ۰۱۷١‏ وأحمد بن أي يعقوب اليعقوري» تاريخ اليعقوي »اج ۰۱ ص ۱1۷۱. 


عظيمة وقديمة وكبرى»› ولكنها لم تمتلك قط رسالة دينية عظيمة أو «ديناً عظيماً؛ يوفر 
لها فرصة التمدد خارج الهضبة والاسترخاء على جانبي الخليج بدلا من قدر البقاء 
داخل هذه الهضبة . على العكس من عقدتي أمريكا وفارس» عاش العرب مفارقة 
مقلوية» فهم لم يمتلكوا قبل الإسلام «حضارة عظيمة؛ وخاصة قطء وكانوا جماعات 
بدوية هائمة عل وجوهها تتلاعب بها الأمم ؛ ؛ ولكنهم مع الإسلام امتلكوا ديناً 
عظيماً» مكنهم من بناء «حضارة عظيمة» سرعان ما راحت تشع خارج الجزيرة 

العربيةء ولتدخل أول ما تدخل» إلى قلب فارس الإمبراطورية نفسها التي استسلمت 
يومئذٍ بسهولة لإغراء الدين العربي العظيم. إن الأقدار وحدها هي التي رسمت 
لشعوب هذه المنطقة طريق المفارقة » ومن ثم وضعتها في قلب نزاع متعدد ومتراكب 
الموضوعات» فالدين العظيم يصنع حضارة عظيمة؛ بيئما لا تصنع الحضارة العظيمة 
دينا عظيما بالضرورة . 

ولذلك» بدت تركيا العثمانية التي تماهت مع الإسلام» إلى الحد الذي ندبت فيه 
نفسها لمهمة التواصل مع تاريخه وتحولت ثقافتها الخاصة إلى امتداد ثقافي وروحي له؛ 
وكأنها تقطع الطريق على حلم إيران بلعب هذا الدور. وخلال حقب وفترات التنافس 
المحموم بين الإيرانيين والأتراك دار جزء من الصراع السياسي داخل موضوع هذه 
المفارقة بين القوة والدين داخل الإسلام نفسه. 

لكن تركيا وبخلاف إيران حسمت خيارها واختارت بجلاء الانصهار كلياً في 
دين جيرانها العرب» وقامت بتبني رسالتهم الروحية. لم يفكر الأتراك قطء بتقديم 
قراءة #تركية» للإسلام تكون خاصة بهم؛ بينما واصل الإيرانيون التفتيش عن 
«خصوصية؛ من نوع ما داخل الإسلام الإيراني» يمكن تحويلها وبلورتها إلى ما يشبه 
«رسالة دينية». وهذا ما وجدته في المشروع الديني للصفويين الذين مكنوها من 
الحصول على «مذهب» خاص . ولئن كانت للصفوية صلات واهية بالمذهب الجعفري 
العربي (مذهب الإمام جعفر الصادق الذي صدر في الأصل عن المدينة المنورة قبل أن 
يشع في العراق) فإنها كانت في الواقع تتفارق معه وتختلف عنه إلى حد كبير . 

لقد كانت الصفوية في الجوهر مزيجاً من قومية فارسية وإسلام مُعدل ومُنقح» 
أي أن الصفوية كانت قراءة إيرانية للإسلام أراد أصحابها من خلالها أن يوفروا 
لفارس القديمةء المتعطشة والمتلهفة لامتلاك «رسالة دينية؛ كبرى موازية ومعبرة عن 
حضارتها الكبرى؛ فرصة الخروج من الهضبة والتمدد خارجها بواسطة #دين» - 
بالمعنى المجازي : حتى وإ كان في صورة مذهب . ولذلك لا تبدو الصفوية من هذا 
المنظور أكثر من كونها محاولة إيرانية متأخرة للتنافس مع الإسلام الذي اعتنقته» بأكثر 
مما هي تطوير فقهي في قراءته؟ لقد غدت إيران بفضل المذهب الصفوي ممتلكة 


t0 


«لفكرة تخصها» وقابلة للنشر بين جيرانها العرب من بغداد حتى بيروت» أكثر بكثير 
مما هي تمتلكة الإسلام التاريخي كما وصلها. 


في إطار هذا التنافس #الروحي؛ غ غير المنظور مع العرب كان العراق «العجمي»؛ 
أو ما يعرف تقليدياً بعراق العجم» يتمثل كهدف مركزي في حملات الصفويين 
وأسلافهم البويهيين على صعيد الثقافة» وليس على صعيد الأطماع الحربية وحدها من 
أجل التمدد داخل مساحة الإسلام التقليدية . لقد كان هناك وباستمرار تنافس إيراني 

مع الخصوم العثمانيين الأتراك ومع العراقيين العرب» وبشكل خاص مع العشائر في 
الجنوب والوسطء على حدود ودرجة قبول هذه القراءة الخاصة للوسلام» واعتبارها 
مذهباً قابلاً للاعتناق . إن الخطأ الشائع» الناجم عن اخلط بين الجعفرية العربية 
والصفوية الفارسية» يحجب عن أنظارنا شكل وطبيعة التنافس الذي سوف يستمر مع 
القاجاريين الفرس حتى نهاية القرن قبل الماضى» كما يحجب طبيعة السياسات 
الإيرانية التى ناصبت السلاطين الأتراك العداء حتى بعد سقوط السلطان عبد الحميد. 
إنه التنافس الذي ينبغي رؤيته من منظور وجود تنافس مذهبي أعم داخل إسلام 
ممزق» ومن منظور التزاحم في نطاق تخيل العراق كجزء من إمبراطورية شيعية صفوية 
وبالتالي التلاعب بتركيبته الثقافية . في هذا النطاق بزغ لأول مرة وقبل وصول 
الأوروبيين إلى شواطئ العراق خطاب «تحرير العراقيين من الاستبداد». لقد ولد 
خطاب جديد سوف يطغى على صليل سيوف المتحاربين. 

كل قوة طامعة في العراق ستجد نفسها بحاجة إلى استخدام المادة المتأججة 
للتنافس القديم داخل الإسلام» بين الإيرانيين والأتراك والعرب. وفي كل مرة 
حدث فيها احتلال للعراق سُمع خليط غريب من الأصوات والكلمات؛ وسارع 
الأبطال إلى مناداة الطوائف والطبقات والملل والنحل بالانحياز نحو هذا القطب أو 
ذاكء وأصبح الإسلام أكثر فأكثر جزءاً من الصراع: الإيرانيون يريدون تحرير 
العراقيين من الاستبداد التركي العثماني» والعثمانيون الأتراك يريدون تحرير العراقيين 
من استبداد البويبيين ثم من «النفوذ الثقافي» للقاجاريين الفرس . أما البريطانيون 
فكانوا يريدون تحريرهم من الاستبداد التركي «الإسلامي». وأخيراً؛ هاهم 
الأمريكيون القادمون في عصر ما بعد الاستشراق يرفعون الشعار العتيق والمهلهل 
نفسه: إنهم يريدون» أيضاًء تحرير العراقيين» ولكن هذه المرة من أنفسهم؛ أي من 

(9) العجم :على الأرجح وكما ارتأى د. لويس عوض فإن للكلمة صلة باسم المملكة الفارسية القديمة 
المعاصرة لبابل والتي عرفت بمملكة «أوجام؟. انظر: لويس عوضء مقدمة في فقه اللغة العربية» ط ۲ 


(القاهرة: دار سيناء ,)١991‏ 


a 


الاستبداد الداخلي الذي كان عراقياًء ومن إنتاجهم وحدهم» ومن ثمار «ثقافتهم 
الإسلامية؛ بحسب الصور الاستشراقية السائدة» أي تحريرهم مما يزعم أنه ثقافة 
راسخة تتيح للمتلاعبين من القادة والزعماء استخدام الإسلام التاريخي كمصدر 
لقوةء أو شرعية الجاكم المستبد. 

في هذا السياق يمكن رؤية أطقم متناسقة من التماثلات الثقافية التاريخية 


المتنوعة : 


أولا: أوروبيون وفرس وهنود 

١‏ . . . فأرس لكاننج (ع::0©) السغي رالبريطاني في الآستانة مندوباً م نقبله إل ىكربلاء 
م والليوئنات كولونيل فارانت » وطلب ا لبعوث الروسي في الآستانة ا مستر بوتئييف أن 
يقو م الست ر فارن بتمثي لا جانب الروسي في استقصاء ا حقائق هناك ٠.‏ جام في تقرير فارن 
أن القن ق لا يزيدون ع نأربعة آلاف معظمهم من الفر سلا من العرب . أما كت ق الهنود 
فكانوا ثلاثة » وفقد من البنجاب حوالی ۲۰ - "٠١‏ من البنجابيين وم نأه لكشمير . أما 
ا مبعوث العثماني نقد رالقتى ب ١6٠١‏ قتيل» . 

عبد العزيز سليمان نوار”" ١‏ 


هذه المذابح التي يشير إليها نص تقرير فارن» كما نقله نوار مترجماً من الوثائق 
البريطانية؛ تعكس درجة التوتر داخل الفضاء الكوزموبوليتي للمدن المقدسة في 
العراق . كان الأوروبيون هناك يتزاحمون بالمناكب من أجل «معرفة الحقيقة؛ حيث 
صرع هنود وفرس وعرب وبنجاب في شجار #طائفي» دام» ما كان بالوسع السيطرة 
عليه أو منعه من أن يبلغ هذه الحدود المأساوية . بيد أن مصرع هذا العدد الكبير من 
أبناء الجالية الفارسية» يكشف عن وجه واحد من وجوه الاستيطان؛ الذي بدأت 
ملامحه تتحدد في القرن الثامن عشر كاستيطان كوزموبوليتي مع تغلغل الأوروبيين. 
بدأت أولى عمليات توطين الجاليات الفارسية في العراق» مباشرة بعد سقوط العاصمة 
بغداد في قبضة اسماعيل شاه الصفوي عام ١6١8‏ عندما تدفق نحو الكاظمية وكربلاء 
والنجف آلاف من الإيرانيين المتعطشين والمتلهفين لزيارة العتبات المقدسة» التي عم 


)١(‏ انظر : عبد العزيز سليمان نؤّار» تاريخ العراق الحديث من نباية حكم داود باشا إلى حكم مدحت 
باشاء المكتبة العربية (القاهرة : دار الكاتب العربي للطباعة والنشرء 94578١2).؛‏ الفصل الخاص بحوادث كربلاء 
والنجف في عام ٠۱۸٤۲‏ ص ۹۲. 


¥ 


على نطاق واسع » أن العثمانيين حرموهم منها؛ بينما يشير واقع الحال إلى أن الحرمان 
كانت له صلة وثيقة بالحروب المستمرة بين البلدين طوال قرن أو أكثر. ومع هذا السيل 
البشري الهابط من أعلى الهضبة بدأت أكبر عملية «تفريس» للعراق» أي تحويله إلى 
امتداد ثقافي وجغرافي لبلاد فارس المجاورة . يعزو المؤرخ الإنكليزي الحاذق ستيفن 
هيمسلي لونكريك”''' إفلات العراق من قدر خضوعه الأبذي للإيرانيين إلى 
المصادفات التاريخية وحدهاء فقد جاء توسع العثمانيين شرقاً ليتزامن مع نهوض إيران 
القوية هذه . بكلام آخرء كان صعود تركيا العشمانية القوية والطموحة متلازماً مع 
صعود إيران قوية» وليقف كعامل كبح وإعاقة في وجه محاولاتها المستميتة لابتلاع 
العراق» وفي صدها والحد من درجة إفراطها في الحلم العراقي. 


كان العراق» بالفعل حلماً من أكبر وأجمل أحلام الإيرانيين» الذين لا يزالون 

حتى اليوم يذرفون الدموع من أجل رؤيته في قبضتهم . ولولا ذلك فما (من شك في 
أن العراق كان سيظل إيرانياً منذ ذلك العهد حتى يومنا هذا) بحسب تعبير 
لونكريك. تمثلت الميول الإمبريالية لفارس القديمة وبأسطع تعبيراتهاء في السعي 
المحموم» وبخاصة في فترات التنافس مع الأتراك» من أجل فرض نفوذها السياسي 
والثقافي باستغلال درجة ضعف العراق . وكانت تجربتها مع الإمبرياليات الأوروبية 
في هذا النطاق ذات حساسية مفرطة» ومن دون أن يكون للإسلام أو النضال المشترك 

مع العرب. أي تأثير حقيقي وفعال لحهة كبح هذه الميول» أو التخفيف من درجة 
5 ر هنا لجائب م اا سيكو رر إا عن 
ربطه بشكل وثيق بالوضع الراهن لإيران؛ إذ سيكون مفهوماً المعنى الحقيقي لانتعاش 
الأحلام الإيرانية بعر 5 «ضعيف6» يمكن ابتلاعه» حتى وإِنْ كان ذلك عبر استغلال 
الظروف» أو عبر ما يُشاع عن «تفاهم؛ من نوع ما مع الأمريكيين والبريطانيين» 
تماماًء كما كان الحال أيام القاجاريين ا بیش ا سوم إل ان ا 
ممكن) للسياسة الإيرانية تجاه العراق» بالأمس واليوم؛ يجب أن يلاحظ أن العراق كان 
باستمرار «حلماً؛ إيرانياً» وأن التخلي عن فكرة التمدد خارج الهضبة بالنسبة لهاء 
يعني أن تستسلم لحكم الأقدار. ولكن هذا الحلم بالنسبة لإيران الحديثة» شديد 
الارتباط بنزعة قومية فارسية تتغذى من أفكار الاندماج بالغرب وليس بشعوب 
ومجتمعات المحيط العربي الإسلامي . 


والمثير أن إيران شهدت في مطالع كانون الأول/ ديسمبر ٠٠١‏ استطلاعاً عاماً 
)١١(‏ ستيفن هيمسلي لونكريك: أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث»› ترجمة جعفر الخياط (بغداد: دار 
الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع» ۲۰۰۶)» ص 737 


۸ 


للرأي» أجرته مؤسسة مستقلة» بيّن بجلاء أن غالبية من الشباب الإيرانيين ترى 
(مصلحة إيران هي مع إسرائيل والغرب وليس مع المسلمين أو العرب) الأمر الذي 
أثار هزة عنيفة في أوساط الحكم الإيراني. وقد لاحظ الكاتب الإيراني يوسف 
عزيزي””'' أن الخطاب الإيراني في عصر الشاه رضا بهلوي ثم ابنه محمد رضاء 
وخلال أكثر من خمسة عقود ۱۹۷۹-۱۹۲۰ كان يرتكز على موضوعين أو عنصرين 
رئيسين: اللغة الفارسية والمذهب الشيعي» ولكن مع ترجيح اللغة الفارسية وثقافة ما 
قبل الإسلام» أو ما يوصف بثقافة «العرق الآري». 


لقد ارتأى المفكرون القوميون ارين تووبعيد الخد ثم لي E‏ الخميني 
«ضرورة الاتجاه نحو الشرق الفارسى 1" وهاو ت ان ستشراقي نموذجي آخر قُصد 
منه الإشارة إلى ما يُدعى «الدائ ثرة الحضارية الإيرانية٠»‏ التي تضم أفغانستان 
وطاجيكستان وأجزاء من آسيا الوسطى (السوفياتية 1 . ويبدو أن أفكار 
المفكرين القوميين الفرس هذه اجتاحت إلى حد ماء مواقع وشرائح من الإصلاحيين 
في العهد الحاليء الذين باتوا يطالبون السلطة الإسلامية الحالية E‏ 
العربي والعالم الإسلامي بشيعته وسنته كليأة» والتوجه صوب «الغرب الآري» من 
دون تردد أو خوف . وبلغت هذه المطالبات نقطة محرجة للإسلاميين» وبشكل بالغ 
الوضوح خين أخذ هؤلاء المفكرون أو المنظرون الآريون «الجدد في إيران؟» بأفكارهم 
وتصوراتهم المتشددة ينادون علناً «بالتحالف مع إسرائيل لأسباب تاريخية» منها تحرير 
الك فر فی ایہر اناد نا رف في ال بال الابلي: 


أما في أعقاب الثورة الإسلامية فسوف نلاحظ كيف أن نظرية «العنصرينة 
التاريخية هذه انقلبت رأساً على عقب» وتحول «الشيعة» في الخطاب الإيراني المعاصر 
إلى اعنصر شيعي" وسحسب ؟ وهو خطاب يتمتع بقدر من البلاغة الفقهيةء اة 
على مواجهة القوميين الفرس والحد من مستوى تغلغل أفكارهم في إيران الحديثة» 
ويركزء أكثر بكثير ما كان الحال في الماضي» على أولويته وثانوية «الثقافة الفارسية». 
ولكن؛ ومع اندلاع الحرب العراقية ‏ الإيرانية؛ عام ۱۹۸۰ء كما ارتأى عزيزي» 


(1١)يوسف‏ عزيزي «الخطاب الإيراني والشيعة في العراق»؟ الوفاق (العراق) (كانون الثاني/ يناير 
٠‏ 2 والمقالة نفسها سبق وأن نشرت في جريدة الحياة. 

(17) المصدر نفسه. 

)١14(‏ المصدر نفسه. وحول قصة تحرير اليهود من بابل» انظر : التوراة» سفر يبوديت» الطبعة العربية» 
التي تروي أسطورة زواج الملك الفارسي من فتاة هودية. ويبدو أن هذه القصة ال ثيولوجية التي لا أساس 
تاريخي لها في كل المدونات» لا تزال تلعب حتى اليوم دوراً حورياً في أفكار المصالحة مع إسرائيل عند 
القوميين الفرس. 


۹ 


حدث تطور مهم للغاية: إذ تعرز الشعور القومي «الفارسي» وبدأ يوطد نفسه مع كل 
-- «اللأيدولوجيا الدينية؛ في ظل دوي المدافع على حدود البلدين» وذلك ما 
أرغم الإسلاميين» في خاتمة المطاف على العودة إلى الاهتمام باللغة والثقافة 
الفارسيتين . 

وهكذا بزغ» مع الرجّات الأولى لعصر ما بعد الاستشراق في ثمانينيات القرن 
الماضي» خطاب إيراني جديد» كان من بين أكثر منطلقاته إلحاحاً إعادة تركيب روايته 
عن نفسه وعن إيران. ولذا وضع الأولوية الكلاسيكية وراء ظهره؛ وأصبح يتمثل 
أفكار القوميين الفرس» ولكن بالمقلوب» مغلباً أولوية العنصر الشيعي على ما عداه. 
إن ذلك يدلل» بلا مراء على نمط الطموحات البراغماتية في المجتمع الإيراني الحديث 
الذي يتطلع إلى مصالحة الغرب واللحاق فيهء أو الاندماج في ثقافته» والتفاعل معها 
RR‏ ذا اكور افد 
تكون تَثَّلتَ عصره ما بعد الا ستشراق» على نحو ماء في موضوع تطور إيران 
التاريخي وعلاقاتها بالوطن العربي والعالم الإسلامي» وهي سياسة تتبعها حرفا بحرف 
وخطة بخطة؛ جماعات موالية لها ف الساحة السياسية في العراق المحتل ؛ ولا تبدوء 
بأي حال» مجرد استطراد في استلهام تاريخ قديم وغابر؛ بل تعبيرأء كذلك» عن 
نمط من التلاقي النفعي مع الغرب نفسه الذي تناصبه العداء . وهذا حقيقي» اما 
فإيران ون بدت معادية للغرب؛ إلا أنها كانت تبدو وباستمرار قريبة منه بدرجات 
ومسافات متفاوتة . 


من المهم أن نلاحظء في هذا النطاق من محاولة تفهُم الميول الإيرانية للتمدد 
سياسياً وثقافياً خارج الهضبة الفارسية القديمة» كيف أن الحروب الإيرانية - التركية » 
والتي جرت طوال أربعمئة عام متواصلة من عام ١6٠١‏ حتى العام ١4٠١‏ فوق 
أرض العراق» كانت في بعض أوجهها الصريحة حروباً ضاريةء داخل الإسلام 
نقسه» وعلى أساس ثقافي صرف : صراع ثقافتين سنية عثمانية تقليدية ضد شيعية 
صفوية فارسية . وليس من دون معنى أن الأراضي الإيرانية» وطوال عدة قرون لم 
تشهد» أو تعرف حرباً كبرى» أو حقيقية مع تركيا حول مناطق النفوذ في العراق» ‏ 
باستشناء بعض العارك المتفرقة . لقد أدار الإيرانيون باستمرار حرويهم مع منافسيهم 
فوق المسرح العراقي . 
وهكذا؛ مقابل سياسة التعجيم» أي تحويل العراق إلى عراق عجمي أو حمية 
إيرانية ؛ بزغت سياسة التتريك كرد فعل مباشر وفوري . فكانا تعبيراً عن صراع ضار 
بين قوتين من حول العراق لابتلاعه وتحويله إلى امتداد ثقافي لكيان آخر . وهكذا 
أيضاً عاش هذا البلد بعمق واستغراق مذهلين» المخاوف الغريزية من خطر محوه من 


6: 


الوجود بفعل قوة الضغط الخارجي . كلاهما إذن وبدرجة عالية من التساوي 
والتماثل؛ التفريس (من الفرس أو التعجيم) والتتريك (من الترك) كانا تعبيراً عن 
ميول إمبريالية اشرقية إقليمية خاملة راحت تتصادم داخل إطار التلاعب بالمركبات 
الثقافية لبلد آخرء وكانا تعبيرا عن سياسات تستهدف قذف هذا البلد خارج حاضنته 
العربية التاريخية» وإعادة تشكيله ككيان آخر ممائل وشبيه. أي أن ينظر العراق» في 
النهاية» إلى نفسه وقد أصبحء تمامآء كما هو الحال مع الخليفة الأسطوري هارون 
الرشيلا ني يعكاية الفا ليله وليلة؛ الترافية» اللاك نفسهرولكن في بمركبين يتهاديات 

فى النهر نفسه . كان الدمج مصمماً لأجل أن يجد العراق؛ وقد ردد بأسى إذا ما نظر 
إلى نفسه في ظل الإيرانيين: من أنا؟ هل أنا الجالس عند سفوح الهضبة الإيرانية؟ أما 
إلا تر إلى م وقد اعتمر اربوش التركي 0 ر ا ر : وهل أناء 
أيضاً ذلك الجالس عند جبال طوروس؟ . 


بيد أن عمليات «التتريك» سارت وعلى طول الخط كسياسة مصممة لمواجهة 
النفوذ الصفوي الإيراني في العراق» وم تكن قطء موجهة إلى تذويب العنصر 
العربي . بدليل أن نظام التعليم العثماني طبق في العراق باختلاف شديد عن النظام 
المطبق في مصر . كانت المناهج الدراسية تطبق في العراق بنظام تدريس اللغة التركية 
لا العربية؛ بينما كان النظام نفسه وفي الوقت نفسه يطبق في مصر باللغة 
العربية؟ ولكنء وبينما كان البلدان المتحاربان ينشغلان بكيفية إدارة الصراع 
والنفوذ بينهماء كان البريطانيون يتسللون عبر شركة الهند الشرقية إلى بغداد. كانت 
إيران القاجارية ١417‏ تسرع الخطى وتتسابق مع الأتراك الذين باتوا أقرب إلى 
الهزيمة؛ من أجل التغلغل فى العراق الغاطس في الوحل» وتحقيق هدفها هذا وإنْ 
بالتواطؤ المكشوف مع البريطانيين الذين أصبحوا على أبواب البصرةء أو باستغلال 
حاجتهم إلى مساعدة إيرانية ضرورية لتهدئة خواطر الشيعة العراقيين في الجنوب. 

وبينما كانت تركيا العثمانية تكابد وتعمل المستحيل» أو تنتظر بقليل من الأمل 
حدوث المعجزة لتفلت من خطر التفكك والانميار؛ كان الأوروبيون قد أصبحواء 
آنعل» على أعتاب البلدين المتصارعين . وإلى حد قليل للغاية» شهدت سائر حاولات 
الإخضاع الثقافي للعراق؛ رد كيان إقليمي آخر٬‏ وبحيث يصبح امتداداً 
إيرانياً أو تركياً؛ انقطاعاً ليس له أي قيمة في هذا السياق طوال العصور المملوكية ثم 
التركية الاقم ف عير باللا معان وا رر كامتداد جغرافي أو 
ثقافي لبلد آخر. إن قابليته الثقافية العالية ليصبح عراقا أ إيرانياً (عجمياً) أو عراقاً 


(10) نوّارء تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا إلى حكم مدحت ياشاء ص .٤٥١‏ 


01١ 


تركياء هي واحدة من أسرار هذا البلد التاريخية والسوسيولوجية» الذي ما انفكت 
حاولات ديجه وتذويبه في بلد آخر تتواتر مع اختلاف سحنات وثقافات الحالمين 
بضمه . في هذا الوقت كان البريطانيون والألمان والروس والفرنسيون والهولنديون 
المتنافسون والمتزاحمون بالمناكب عند شواطيء الخليج العربي» يكتبون نباية ة إيران 
القاجارية وتركيا العثمانية معأ ويأخذون العراق من معصميه ليقودوه في دروب 
الغرب؛ ولتبدأ حقبة طويلة سوف يرى فيها نفسه وقد أضحى هدفاً لتخيل من نوع 
جديد . لن يصبح بعد اليومء لا صفوياً قاجارياً ولا عثمانياً - تركياً . . سوف يصبح مع 
البريطانيين عراقاً هنديا ثم مع الأمريكيين عراقاً أفغانياً. 


ثانياً : البريد الهندي 
«وكان قد بدا ظهو رأول مستوطنة هندية في العراق . على الرغم م نأن الهنود لم يكونوا 
حتى ذلك ا حين معروفين في النطقة على الستوى الذي أصبحوا عليه فيما بعد . وفي 
أوائل عام ۱۸۲۱ كانت طائفة منه متدعى انواب» تسكن في بغداد وهي التي سلب منها 
داود باشا مبلغ خس ةآلاف روبية» ثم جاءت من بعدها طائفة «نواب أوض» وسكنت 
مناك عام 4146٠‏ . 


TT 


...١‏ بدا ل أن رجالا م ن الس رالبغدادية المريقة الذين يدينون بالإسلام وأناسا من 
العرب والسيحيين كانوا يعتقدون أن أيام حك م السلطان معدودة» وأن استقلاله م يعد له 
وجود . ولقد سئلتٌ غير مرة م ن قبل مسلمين من ذوي النيات ا حسنة : ناذا تات 
إنكلترا وتتسلم مقاليد الأمور ف يالوطن» ليظل بعيدا عن الروس؟ ولقد وجدت أن 
حضارة بومباي وبباءها قد شغلا فرافاًكبي رفي خيال الناس في بغدادء وأن التجارة 
والرخاء وا لباني ا جميلة في ذلك اليناء الهندي» كان مرجعهاء بحسب ما ظنواء آنا 
نحت ا حك م البريطاني. . .» 


الرّحالة البريطاني جيري 1۸۷۸“ 


عندما عزم الرحالة الإنكليزي و. س. بلانش ترافقه السيدة آن بلانت على 
تنظيم رحلة إلى العراق في عام 1۸۷۷ء من أجل تجربة العيش وسط القبائل العربية 


(15) لورمرء دليل الخليج. 
Grattan Geary, Through Asiatic Turkey: Narrative of a Journey from Bombay fo the Bosphorus, (AY)‏ 
vols, (London: S. Low, Marston, Searle and Rivington, 1878), vol. 1, pp. 273-274.‏ 2 


o 


البدوية في الشمال» قامت الحكومة البريطانية» ومن دون توقع ۰ بإحباط مخطط 
الرحلة بوضع كل العراقيل . لم يكن بلانش ولا السيدة بلانت ليعلما سبب العراقيل» 
لولا أجما أدركا تالياً وبسرعة» أن بريطانيا كانت تسيطر فعلياً على «نشاطات 
الاستشراق» وتقوم بتوجيهه؛ وأنها مصممة على عدم تركه لرقابة وتدخل رّحالة 
هواة» يريدون التعرف على الحقيقة الفطرية المجردة والمهذبة في #الشرق الساحر؟ . 
وكانت تفرض قيوداً صارمة» بقدر مزعج» على حب الفضول هذا. وقد لاحظت 
السيدة بلانت فى كتاها(*'' ذلك» حين كتبت تقول (ومما لاشك فيه أن السلطات 
كانت تعتقد أنه من المؤسف أن يتدخل في مثل تلك الأحوال التي ترضيها جرد أناس 
فضوليين من أوروبا. ومن المعروف أن بريطانيا كانت لها أطماع في الفرات) . 


بعد عام واحد فقط من اضطرار بلانش وبلانت لتمضية الوقت في تركيا 
الآسيوية لمعرفة أحوال البدو في الفرات» قام رحالة آخر هو المستر جيري برحلة إلى 
العراق عام ١81/8‏ بعد أن تلقى مساعدة من موظفين إنكليز سهلوا له القيام برحلة 
«استشراقية» منظمة جيداً من أجل لقاء «مسلمين من ذوي النيات الحسنة٠‏ ولكن 
ليكتب ما يلي : «قالوا لي أي المسلمين من ذوي النيات الحسنة : إن البلاد سوف. 
تزدهر لو حكمتها إنكلتراء فسرعان ما ستزداد التجارة وتختفي السخرة. لا يعتبر 
السكان العرب استبدال حكم السلطان بالحكم البريطاني في هذه المنطقة نكبة» بل 
العكس هو الصحيح . ومن رأي الرجال الذين توافرت لديهم فرص كافية لتكوين 
رأي صحيح أنه لا يوجد أحدء باستثناء الموظفين والجنودء يمكن أن يقاوم أدنى 
مقاومة» ليمنع مثل هذه المهمة». هذه هي مهمة الصور الاستشراقية الأولى للعراق» 
بلادهم إلى ابومباي؟ ثانية . 


كان سحر بومباي الخفي» يُضاهى» في الاستشراق الكلاسيكي» بسحر 
الغرب» أو يساويه ويماثله» وقد نتج منه› بصورة شبه تلقائية فرشا نوع طاغ 
من عدم الإحساس بأي فارق مهما كان طفيفاًء بين «استعمار تركي» يوشك على 
الاحتضار وآخر بريطاني يوشك على الولادة. حو الفارق بين الاستعمارين» موظف 
لغرض وحيد» هو تعظيم الاستعمار الأوروبي من خلال الزج بمشاعر مصنعة 
وتخيلية» لجماعات تريد استبدال الأتراك بالغربيين. ولم يكن هذا الانطباع صحيحاً 


Ann Blunt, Bedouin Tribes of the Euphrates, edited with a Preface and Some Account of the (1A) 
Arabs and their Horses by W. S. Blunt, Islam and the Muslim World; no. 7, 2 vols. (London: Cass, 
1968), vol. 1, pp. 110-111. 


or 


العرب من غير «ذوي النيات الحسنة» الذين كان الرحالة يحرصون على اللقاء بهم 
لتلقي المعلومات» وذلك لاختبار جدية هذه الأفكار والانطباعات ومعرفة الزائف 
والحقيقي منها. ومع ذلك؛ فإن هذه الانطباعات أخذت طريقها بسرعة إلى مؤلفات 
مستشرقين آخرين راحوا ينشئون فوقها عمارة متراصة الأحجار من الانطباعات 
الزائفة الممائلة . ثمة بدو «على الفرات» التوراتي» الذي اجتازه داود الملك فى #سفر 
الملوك ‏ التوراة» يستعدون لتسليم معاصمهم لذوي الأيدي البيضاء من أجل أن تأخذ 
بها في الطريق خارج الغابة» أو تعيدهم إلبها ولكن بعد أن تحول الغابة إلى بومباي 
ساحرة. كانت بومباي في الاستشر شراق «العراقي1. هي التموذج الملائم للبدوء وكان 
على الرحالة والأطباء والضباط والتناصل راا أن يقوموا بعمل شاق من 
أجل تطهير هذه الصور من كل شائبة . 


لا تكاد صورة العراقيين في المخيال السياسي الأمريكي العاصر بشكل -خاص» 
والأوروبي بشكل عام إلا ما ندرء تفارق هذا الإطار النمطي للعراق القديم أيام 
الاحتلال الإيراني أو التركي أو البريطاني؛ ولا تكاد تخرج عن حدود الصورة ذاتها 
للعرب كما رسمها الاستشراق القديم. جماعة من البدو متسخة الثياب» أصواتها 
غريبة» وتبدو فوق ذلك تائهة في دروب الغرب الساحرة . وكما أن «بغداد 
الأمريكية» لا تبدو اليوم» في عيون الجنود الأمريكيين بعيدة بما يكفي من المسافة 
اللازمة والضرورية» وكأنها خارج هذا الإطار المتآكل حيث الصورة الفخمة ذاتهاء 

كما رسمها المخيال الاستعماري البريطاني» مطالع القرن» قبل الماضي ؛ فإن «بغداد 
الإنكليزية» الحالمة بالتحول إلى بومباي بفضل المشاعر المتحرقة للأسر البغدادية» 
بحسب ما يقول نص جيري» لم تبدو. قط في تلك اللحظات من التلهف إلا كمدينة 
تنتظر قدرها الذاتي» أي أن تقبل برضا تام تحويلها إلى جزء من الهند. 


وكما إن البريطانيين كانوا يتوجهون صوبها من أجل قتال «العثمانيين المستبدين» 
و«الظلاميين الرجعيين» الذين لا يراعون حقيقة مشاعر السكان العرب؛ فإن 
الأمريكيين اليوم لا يرون في المعركة الدائرة سوى استطراد ومواصلة لمعركة أخرى . 
إنبم ذاهبون إلى محاربة طالبان «عراقية» في جبال قندهار أخرى تراقصت سفوحها 
أمام بنادقهم وعليهم أن يكسبوا «الحرب من أجل الحرية . إنها «معركة كسب العقول 
والقلوب معاً؛ ذ فى الشرق الحديد. . ثمة فارق جوهري للغاية بين الاستشراق القديم 
وما يعد الاستشراق . مع الاستشراق الكلاسيكي كانت المعركة تدور من أجل «كسب 
القلوب؟ واستثارة عواطف السكان «الشرقيين» ودفعهم إلى التأمل في منافع الحرية ؛ 
بينما يبدو ما بعد الاستشراق معركة كبرى من أجل «كسب القلوب» والسيطرة على 


o 


«العقول». إنه نمط جديد من أنماط السيطرة على الأفكار وتنظيمها وتوجيهها. 
ولذلك» سوف تنصرف عقولناء وطوال عامين من الاحتلال الأمريكي للعراق» إلى 
«بغداد أخرى لا نعرفها وم نتجول في شوارعها ولم نعرف أدنى فكرة عن سكاها . 
إنها بغداد مستول عليها بواسطة ة قوة التخيل إلى الدرجة التي لا تبدو؛ إلا بوصفها 
عاصمة «الإرهاب الأفغاني» المصنع هناك والُصدر إلى هنا . 

ولذلك أيضاً لا تبدو «بغداد الأفغانية» التي تتراءى لنا في عالم الوعلام ؟ أي 
التي تم دمجها ومماهاتها مع كابول» والتي ظل الإعلام الأمريكي حريصاً على تثبيتها 
من دون توقف قبل وأثناء الهجوم على البلدين؛ انقطاعاً أو انفصالاً عن تجربة 
استعمارية طويلة ظهرت فيها المدينة نفسها في صورة «بغداد هندية ‏ بريطانية» تارة» 
وبغداد «تركية» تارة أخرى؛ بل وبغداد «إيزانية؛ في بعض الأوقات. على نحو ماء 
ستبدو استطراداً في هوس من طبيعة كولونيالية خاصة عاش العراق تحت كابوسه؛ 
وذلك عندما كانت المصالح الاستعمارية تتصادم عند شواطثه . 

كانت التنافسات الدولية المحمومة للسيطرة على العراق قد انطلقت بقوة منذ 
العام A۰‏ م. . وترافقت معها وصاحبتها» عمليات متواصلة لتصويره كامتداد للهند 
طوال أكثر من مئة وأربعة عشر عاماًء أي حتى العام ٤۱۹۱ء‏ يوم نجح البريطانيون 

فى السيطرة على البصرة . ولكن هذه» والتنافسات التي انحصرت بين الفرنسيين 
والبريطانيين والروس في هذا الوقت» ما لبشت أن توسعت واحتدمت» لمل 
القوى الجديدة الطالعة على المسرح السياسي العا مي . ولم يقيض للعراق أن يتخلص› 
بعد انبيار العثمانيين والقاجاريين» من الكوابيس المزعجة التي قضت مضاجعه وتر كته 
يصارع قدر التنازع عليه داخل إسلام تشظى أنئذ إلى قوتين حربيتين» ولكن ضعيفتين 
مترنحتين أمام قوى هائلة النفوذ. 

بيد أن العراق نفسه» سعى مع ذلك» ومن دون توقف» إلى الإفلات ولمرات 
عدةء من قبضة التتريك أو التفريس» ومن سياسات دمجه وتحويله إلى امتداد جغرافي 
لمستعمرة أخرى . وبالفعل كان القاجاريون والأتراك في هذا الوقت» وفي ذروة 
صراعهم على العراق من أجل ضمه وإلحاقهء يواجهون المصير ذاته والمخاوف ذاتهاء 
أن يسقطوا هم أيضأء بأيدي الأوروبيين» وتتحول إيران وتركيا إلى مستعمرتين . 
وسرعان ما فاجأت الأقدار هذا البلد مرة أخرى بمخاطر دمج غير مألوف من قبل . 
كان عليه أن يستعد لارتداء ثياب الفقير الهندي» فقبل عامين فقط من بداية القرن 
السابع عشرء وقبل أن يغادر هنري دوندس وزير الحرب الفرنسي ورئيس مجلس 
السيطرة» ميناء طولون عام ۱۷۹۸ متجهاً لملاقاة المصريين (أثناء حملة نابليون) كان 
واضحاً أن هدف الفرنسيين النهائي لم يكن مصر . كانت مصر هدفاً فرنسياً تكتيكياً 


00 


عزيزاً؛ بينما كانت الجائزة المنتظرة هي الهند» حلم نابليون الكبير والحقيقي . وكان 
ذلك يعني أن الفرنسيين صمموا على تدمير القوات البريطانية هناك . على الطرف 
الآخر كان العراق يتجلى في مرآة المصالح البريطانية في أعوام ۱۸۹۸-۱۷۹۸ وطوال 
قرن كامل» بوصفه المركز الاستراتيجي للاتصالات بين لندن ودلهي» عبر البصرة 
والخليج العربي. لقد كان حلماً إنكليزياً أيضاً؛ ليس إيرانياً أو تركياً وحسب . 

ولذلك ذعر البريطانيون وهم يرون منافسيهم الروس والفرنسيين والألمان 
والهولنديين يقتربون من شواطيء العراق والخليج العربي. ولكن؛ وخلال هذا القرن 
حدث ما تمناه البريطانيون. فجأة تلاشت تقريباً المخاطر الفرنسية أمامهم بفضل سرعة 
التدابير التي اتخذوها لمواجهة حلم نابليون في الاستيلاء على الهند. ومع هذا وجدوا 
أنفسهم ومن جديد في مواجهة مخاطر جدية تمثلت في صعود الإمبريالية الروسية في 
عام التنافس العنيف . أدرك البريطانيون أن روسيا بطرس الأكبر 171/7 ١7/76‏ ما 
تزال» منذ مطلع القرن السابع عشرء تشخص أمام أبصارهم كالشبح وقد راحت 
تنافسهم على الجائزة الهندية» التي سوف تمكن أي خطة ناجحة للاستيلاء عليهاء 
المتتصر تلقائياً من بلوغ أهدافه التكتيكية استعداداً للوصول إلى المياه الدافئة في الخليج 
العربي. في هذا الوقت كانت روسيا تخطط وتحلم بالوصول إلى الهند والسيطرة على 
تجارتها من البوابة الخليجية . وقد ارتأى بعض الباحثين العراقيين'"'' أن أقدم تصريح 
يتعلق بالتنافس الروسي - البريطاني على العراق» هو الذي صدر عن المفتش الأول 
بدار الهند في لندن عام ۱۸۲۹ والذي قال فيه: 


«لقد أصبح للروس الآن سفن تجارية في نهر الفولغا وبحر الخزرء وسيصبح لهم 
مثل ذلك في نهر سيحون وبحر الأورال» وأغلب الظن في دجلة والفرات». 

ويبدو أن ثمة آراء أخرى حول التنافس الروسي - البريطاني المحموم حول 
العراق» أقدم بقليل من تصريح المفتش الأول بدار الهند في لندن؛ من بينها ما 
سبق لهارفورد جونزء وهو أول مقيم بريطاني في بغداد» أن صرح بها علناًء عندما 
كتب ذات يوم في القرن التاسع عشر (قبل نحو عشر سنوات من تصريح 
المفتش الأول) قائلة”' "أ : 


«وسواء تقدم الفرنسيون من سوريا نحو الشرق» أو الروس من جورجيا نحو 
(19) صالح خضر الدليمي» «المصالح الاستراتيجية البريطانية في العراق. 1۸٠١‏ ١٤1۹1ء٠‏ في: 
المفصل في تاريخ العراق المعاصر. 


)٠١(‏ زكي صالحء بريطانيا والعراق حتى عام ۱۹۱۴ : دراسة في التاريخ الدولي والتوسع الاستعماري 
(بخداد: مطبعة العاني) 1934). 


5ه 


الجنوب الشرقي؛ فإن القتال من أجل الهند سيجري يوماً على ضفاف دجلة 
والفرات) . 

كانت هذه النبوءة حاضرة بقوة في خيال البريطانيين عندما جرت أولى عمليات 
الاستطلاع لإمكانيات العراق الملاحية في وادي الفرات”''' من قبل ضابط صغير من 
البحرية الهندية التابعة للجيش الهندي ‏ البريطاني هو الملازم أورمسبي ((إطكصاء0 .11) 
وذلك مطلع عام 7° . وفي العام نفسه قام جيمس تايلور بعملية مسح موازية 
ا بإذنٍ من والي بغداد داود باشا ۱۸۱۷ - مام . بيد أن تيلور (وهو 

e ل‎ ES 


كان البريطانيون المحاصرون طوال قرن كامل بفعل التنافس الروسي الفرنسي 
معهم حول العراق من أجل الوصول إلى الهندء يدركون مثل منافسيهم أن الموجة 
الأولى من ثورة الاتصالات التي فجرها العصر الصناعي» تفرض عليهم التفتيش عن 
عقدة مواصلات نفيسة ومركزية» يمكن أن توصل البريد بسهولة أكبر بين الهند 
ولندن. ويبدو أخبم وجدوا في العراق ضالتهم . كما بدأت أولى عمليات مسح الأغهار 
للكشف عن إمكانياتها على هذا الصعيد. وقد ارتأى تقرير هام قدمه الملازم رودن 
تشيزيني (لإعصوعطك .1 .8) . أن تنامي النفوذ الروسي وظهور خطر محمد علي باشا في 
مصر (المتحالف بشكل غير وثيق مع الروس عن طريق العثمانيين) سيفرضان عليه 
التحمس» بالرغم من المصاعب المالية» لمشروع الملاحة البديل في نهر الفرات؛ بل 
والعمل على تخطي كل العقبات» لأنه الطريق الأقصرء مقارنة بالطريق المصري عبر 
المتوسط» ولأنه يضمن لبريطانيا التواصل الفعال مع الهند. وبحلول العام ١875‏ 
كانت هناك باخرتان بريطانيتان تبحران في ر الفرات» بإذن وتسهيل من السلطان . 
محمود الثاني" . على هذا النحو استمرت أهمية العراق فى الاستراتيجية البريطانية 
بوصفه عقدة ال مواصلاتء التى تضمن نقلاً سريعاً للبريد بين لندن والهند» وكان 
يمكن لعاهدة يعقدها جونز بوصفه المقيم البريطاني في بغداد» مع الوالي المملوكي 
سليمان باشا في العام 184١‏ أن تضمن نقل البريد برأ بواسطة البغال من البصرة إلى 


() انظر: نوّارء تاريخ العراق الحديث من نباية حكم داود باشا إلى حكم مدحت باشاء والمفصل في 
تاريخ العراق المعاصر. 

(؟1) قتل روبرت تيلور على أيدي جماعات من القبائل البدوية المتوجسة من وجود الأجانب» بالرغم 
من الحماية التي وفرها له داود باشا . 


(5؟) انظر: نوارء المصدر نفسهء والدليمي» «المصالح الاستراتيجية البريطانية في العراق» 18 
٤‏ ص ۱۲. 


لاه 


بغداد وعبر نهر دجلة بواسطة السفنء ومن ثم إلى بواخر شركة الهند الشرقية!*" . 
في هذا الإطار اكتسب تخيل العراق أهميته وضرورته بالنسبة إلى المصالح البريطانية ؛ 
وليتأسس على تصور ديناميكي لعلاقة هذا البلد الجغرافية المتميزة» بطريقين 
استراتيجيين هما طريق التجارة الدولية عبر الممر المائي الجنوي» البصرة ‏ بومباي» 
مروراً بقناة السويس» وآخر طريق الهند البري عبر آسيا الجنوبية ‏ الخليج العربي؛ 
وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط وسوريا (ومن ثم أوروبا عبر الأناضول)”*"' . 


وهكذا بدأ النفوذ البريطاني ببضع سفن تجارية أرسلت لتمخر عباب الخليج 
العربي والتردد على ميناء البصرة عام ٠٠١١‏ . بيد أن البريطانيين سرعان ما شرعواء 
وفي الحال» بوضع اللمسات الضرورية واللازمة للتسلل إلى العراق كله» ثم ليبزغ 
نفوذهم السياسي والتجاري كوجود رمزي للمرة الأولى نحو العام 1۷۸۳؛ وذلك 
عندما أدركوا بصفاء ذهن أن الباشوات الأتراك» الذين باتوا يحكمون قبضتهم على 
بغداد وهي عادت تركية» تماماًء آنئذٍِء بحاجة ماسة إلى السلاح . كانت أنظار 
الباشوات بالرغم من كل الكراهية التي يكنونها للأوروبيين مضوبة نحو أوروبا. قبل 
هذا الوقت بقليل (نحو ثلاث سنوات وفي العام ١78٠١‏ تحديدا) ساعدت شركة 
بريطانية وبوسائل خفيه» سليمان باشا على الوصول إلى مركز الباشوية . 


لقد صار للإنكليز نفوذ سياسي يمكنهم من تنصيب الولاة. وما أن حظيت 
الشركة بعطف سليمان باشا من جراء هذه الخدمة» حتى عمدت إلى ريطه بالهند عبر 
مصالح جديدة: السلاح . كان سليمان باشا بحاجة ماسة إلى السلاح؛ ولذا وجد في 
العرض الإنكليزي ضالته المنشودة. بعد سنتين فقط من صعوده وإمساكه بزمام 
الأمورء طلب سليمان باشا عبر البريطانيين ‏ من بومباي شحنة من السلاح 
والعتاد» ثم عاد ليطلب عام ١1/44‏ شحنة أخرى مع مدربين هنود هذه المرة . منذ 
ذلك الحين أصبحت بغداد أهم مركز للنفوذ البريطاني بعد بومباي. ومع ولاية داود 
باشا أعظم مماليك العراق» كانت الهند كما يقول لونكريك» وبفضل البريطانيين 
الذين شبكوا علاقاتهم التجارية جيداًء قد أصبحت فعلياً أعظم جارات العراق؛ إذ 
استمر طلب العتاد الحربي منهاء فيما كانت زيارات الجنرال مالكولم» الذي ظل يتردد 
بين طهران وبومباي» تظهر للجميع بحسب ما ارتأى لونكريك «أبهة الإنكليزي 
وثروته». وما إن حل عام ۱۸٠١‏ حتى كان «الإنكليزي الثري» يختبر أببته أمام 


(14) كانت شركة اند الشرقية تملك ثلاثة مراكز في اللهند حت القرن السابع عشر في سورات وكلكتا 
ومدراس وهذه عرفت باسم «المديريات». انظرء مثلا : الدليمي» المصدر نفسه. 
)١6(‏ المصدر نفسهء ونوارء المصدر نقسه. 


0A۸ 


مضيفيه» ويقرر مد أول خط تلغراف إلى الشرق عن طريق البحر الأحمر . بيد أن هذا 
التطور ما كان له إلا أن يصادف الفشل عند تجربة فحص حقيقته على الأرض . وعلى 
الفورء وفي العام نفسه استعاض البريطانيون عن خط تلغراف البحر الأحمر بخط 
آخر» يمتد هذه المرة من بغداد إلى طهران عبر مدينة خانقين العراقية الحدودية وصولا 
إلى أصفهان لينتهي في ميناء بوشهر الإيراني» حيث يرتبط بعد ذلك عبر الخليج العربي 
بخط الاتصال التلغراقي مع الهند. 


لقد مهدت هذه الوقائع السبيل أمام الجنرال مود عام 14117 لكي ينتقل من 
خطاب «التحرير من الاستبداد العثماني» ونشر الحرية والمدنية» الى خطاب چ 
بلاد ما بين النهرين ونقلها إلى مصاف الأمم الراقية . ولكنه في الواقع» وبالرغم من 
الحماسة البلاغية الكاذية التي طفح فيها خطابه» لم يكن ليتحدث عن التمدين إلا 
بوصفه «تبنيداً» للعراق (من الهند) . وبذلك وضع البريطانيون الأسس والركائز 
الأولى لنمط شاذ من الحلول الكولونيالية» واضعين أسلافهم» والبلاد بأسرها 
كذلك» في فلب اول 9 مياق لها : تحويل العراق إلى امتداد جغرافي وثقافي 
ار حي وقطع الآصرة العربية التي تربطه بمحيطه وبيئته وتاريفه وتحويله إلى 
من معرفة 9 بموقعه الجغرافي الفريد. إن وقوعه على طريق الهند يكشف بالنسبة 
إلى البريطانيين» عن إمكانيات هائلة لتوسيع نشاطات لندن الاستعمارية في كامل 


ولذلك و مع تعاظم النفوذ البريطاني تحول العراق إلى أهم مركز من مراكز 
الاتصال بالهند. وفي غضون وقت قصير أصبح ممثلو بريطانيا وكأنهم ممثلون لدولة 
مستقلة وليسوا مقيمين أجانب في جزء من أراضي الدولة العشمانية قا 
حاول نابليون التوجه إلى الشرق واضعاً الهند نصب عينيه؛ وقفت بريطانيا له 
بالمرصادء بكل قوتباء وراحت تحطم أحلامه الهندية ية. كان العراق يغدو بالنسبة إلى 
لندنء أكثر فأكثرء حلماً شكسبيرياً في ليلة من ليالي الصيف القصيرة. مع دخول 
الجنرال مود في ١١‏ آذار/ مارس ۱۹۱۷ إلى بخدادء حت أرن انارت ليطا 
لإدارة العراق كنموذج هندي؛ وتم تطوير خطاب إمبريالي على أنقاض خطاب 
«التحرير من الاستبداد» يقول بالتعامل مع المشكلة العراقية كامتداد لمشكلة أخرى 
وللكان آخر هو الهند» التي أصبحت للتو مُستعمرة بريطانية نموذجية . ليس من دون 


(0)رجاء حسين الخنطاب». «الانتداب البريطاني على العراق»٠‏ في: اللفصل في تاريخ العراق 
المعاصر. ص ۱۳۷. 


0۹ 


معنى» بكل يقينء أن الجنرال مودء الذي أختير لقيادة الحملة الحربية» كان أحد أبرز 
قادة الجيش الهندي ‏ البريطاني . كان اختيار الجنرال مود لقيادة الحملة العسكرية على 
العراق» خلاصة جملة من التطورات العسكرية والسياسية التي نجمت عن اندحار 
البريطانيين في معركة الكوت ‏ العمارة عام ١1۹1ء‏ حيث سقط العشرات من الجنود 
بين قتيل وجريح . 


إن النزاع بين المكتب العربي في إدارة الاحتلال البريطاني للعراق عام ۱۹1۷ء 
ووزارة شؤون الهند البريطانية» وهو صراع تجلى في أنصع صوره أثناء الجدال 
الساخن» بين مود والسير مارك سايكس مهندس الاتفاقية الشهيرة مع وزير الخارجية 
الفرنسي بيكو لاقتسام مناطق الشرق؛ يكاد يُذكرنا بالنزاع المحتدم سراً وعلنا داخل 
الإدارة الأمريكية قبل وبعد الغزوء بين صقور البنتاغون وحمائم الخارجية حول 
أسلوب إدارة البلد. لقد كان النقاش حول العراق في نيسان/ أبريل ۲٠٠۳‏ يبدوء 
ومن دون أن يستحضر أحد من المتحاورين» ربماء روح التاريخ الكولونيالي؛ مجرد 
استطراد تلقائي للنقاش الذي دارء ذات يوم» داخل أروقة السياسة البريطانية . بكلام 
ثانٍ كان الأمريكيون يستلهمون روح الحلول الاستشراقية القديمة التي استيقظت في 
أبدان أسلافهم الإنكليز. 


ارتأى المكتب العربي فى القاهرة انذاك» كما جاء في رسالة وجهها سيكس إلى 
مجلس الوزراء البريطاني» وقبل عام واحد فقط من سقوط بغداد» وتحديداً في مطلع 
العام ١١1۹ء‏ أن ترك العمل للهند ‏ وزارة شؤون الهند ‏ لإدارة العراق» سيحمل 
معه الأفكار القديمة عن السود والبيض. وحسب نص الرسالةء فليس بالوسع أن 
كم العرب بنهج السود والبيض”""'. وهذه إشارة صريحة إلى طبيعة الصور النمطية 
في العقل الاستعماري الأوروبي. ثم تجلت واحدة من أهم أفكار السياسة البريطانية 
في العراق» في هذه الآونة» في ظهور اتجاه قوي بين موظفي إدارة الاحتلال من 
المدنيين والعسكريين تجاه مشكلة الأراضى وملكيتها فى الريف العراقى طوال 
السنوات الممتدة من عام ۱۹۳۲-٤‏ . ويبدو أن الاتجاه الأبرز» كما لاحظ عماد 


(۲۷) انظر الموامش والملاحظات في: دافيد فرومكين» سلام ما بعده سلام ولادة الشرق الأوسط› 
1477-14 (بيروت: دار رياض الريس للكتب والنشرء 5) ثمة مقاربة أخرى في هذا السياق بين 
الاحتلال البريطاني والأمريكي تشير إلى أن الأول كان نتاج عملية تغلغل طويلة بدأت فعلياً وكما لاحظنا منذ 
منتصف القرن السادس عشرء وتُرّجٍ بما يعرف بسلطة «الباليوز» أي سلطة المقيم البريطاني في العراق؛ بينما لا 
يبدو الغزو الكولنيالي الأمريكي الجديد للعراق» ناج أي تغلغل ممائل؛ بل كان محاولة قرصنة مكشوفة هدقفت 
إلى استثمار نتائج سنوات فرض الحصار الدولي الجائر 7٠٠ ٠۹۹۰(‏ وهو غزو افتقد برأي معظم المحللين 
الاستراتيجيين الأمريكيين أنفسهم, إلى ما أسموه #رؤية متماسكة؛ عن هذا البلد التعيس. 


۰ 


أحمد الجواهري“" كان يؤكد ما جاء في برقية صادرة من القسم التجاري للقنصلية 
البريطانية في البصرة: 

«إن حالة فوضى نظام ملكية الأراضي في وادي الرافدين يمكن أن تسمح 
للمستوطنين الأوروبيين ببناء مستعمرات فيه . 


إن عبارة #يمكن أن تسمح للمستوطنين الأوروبيين ببناء مستعمرات في بلاد ما 

بين النهرين» كافية بحد ذاتها لإيضاح البعد الحقيقي في هذه التدابير . إن هذا النص 
الاستشراقي النموذجي يكشف بجلاء نادر عن الأفكار المبكرة للاستيطان في الشرق ؛ 
إذ وجد الغرب أن ما يُدعى بفوضى الملكية في الأراضي الشاسعة الزراعية» أو غير 
المستصلحة. يمكن أن تكون موضوعاً مهماً من موضوعات الاستشراق السياسي» 
إلى الدرجة التي يمكن معها تقديم حلول تلفيقية قادرة على تأمين وتلبية متطلبات 
الاستيطان الأوروبي . أما السكان المحليون الأصليون؛ فإنهم (لن يكونوا غاضبين أو 
منزعجين من جيراتهم البيض) الجدد . وفي الصميم؛ بدا الحل الهندي مكرساً من 
أجل بلوغ واحدٍ من أغلى أهداف الاحتلال البريطانيء نعني تفكيك المجتمع الزراعي 
التقليدي «الشرقي» الفوضوي» وتحطيم أسس الِلكية والدولة على حد سواءء 
وتهميش وتحطيم الثقافات المحلية» أو إضعافها من أجل بناء مستوطنات أوروبية . 
وعلى الأرجح؛ فإن الحل الهندي لمشكلة الأرض في العراق مهد السبيل أمام 
البريطانيين ليقودوا أوروبا كلها نحو هدف آخر: إنشاء إسرائيل. وهذا ما يجب أن 
نراه في وعد بلفور» الذي صدر في أعقاب الاحتلال البريطاني للقدس في العام 
نفسه لاحتلال بغداد. . ولادة إسرائيل نظرياً عام ۱۹١۷‏ «كمجتمع استشراقي؟ 
نموذجي» في اللحظة ذاتها التي كان فيها البريطانيون يفكرون ويقومون 
بالاستعدادات الأولية لإنشاء «مستوطنات أوروبية» ذ في العراق؛ لم يكن جرد توافق 
عرضي بين سلسلة أهداف وفي مكانين مختلفين . على العكس من ذلك كانت القدس 
تبدو كما لو أنها بغدادء وإنسان بلاد ما بين النهرين وإنسان فلسطين» كما لو أنهما 
الإنسان نفسه في مركبين» تماماً» كما في «حكاية ألف ليلة وليلة» الأسطورية. هذا 
الفيض الا ستشراقي من أفكار الدمج والممائلة كان دليلاً من بين أدلة كثيرة على «أببة 
وثراء» المستشرق الكولونيالي . تزعم البرقية أن مثل هذه العملية يمكن أن تتم من دون 
أن تؤدي إلى ظلم السكان» أو القسوة عليهم . وبعكس ذلك : 

«فإن ترك البلاد لسكانها العرب وقبائلها البدوية المجردين عموماً من كل غريزة 


() انظر الموامش والملاحظات في: عماد أحمد الجواهريء تاريخ مشكلة الأراضي في العراق 
۱۹۳۲-4 : دراسة في التطورات العامة (بغداد: وزارة الثقافة. ۱۹۷۸). 


1١ 


00 لن يعني غير تبذير هائل للأموال والجهود من دون الحصول على 


)99 
نتيحة ة مادية)” 


في الاستشراق السياسي القديم لن يكون العرب والعراقيون سوى جماعات 
بدوية؛ مجردة من كل غريزة للتقدم والتطورء بما أن التقدم والمدنية هما غريزة حسب 
مزاعم الاستشراق؟ . ليسوا أي شيء آخر سوى جماعات تائهة في صحارى الشرق 
الجميل تتهادى كأنها جال متعبة . أو كأء نهم سائرون دوماً بملابسهم المنسخة وذكرياتهم 
الصحراوية وأصواتهم الغريبة» ومن العبث إنفاق المال من أجل مساعدتهم . ٠.‏ من 
الا امش دما لي مشر وج ا ات اور إل رار ری وارب 
قبائلهم» » من أجل أن يتحسروا ويموتوا من الحسد والكدر» وهم يندبون حظهم 
العاثر أمام سحر الغرب. كشفت هذه الأفكار وفي وقت مبكر للغاية» أن إدارة 
الاحتلال البريطاني كانت تقوم» وعلى وجه السرعة. بإحداث اكبر تغيير ممكن في 
الاتجاهات العامة للخطاب الاستعماري الكلاسيكي والانتقال إلى لب الهدف المصمم 
للغزو. في هذا السياق جرى تقديم تأويل جديد للتوترات السياسية والاجتماعية في 
الريف قبيل الثورة الكبرى؛ إذ ت تم التركيز على أن ميول مقاومة الاحتلال الآخذة 
بالبروز› لي لعل عر زر اليل ررح : مشكلة الُنازعات حول 
الأراضي ؛ وإن هذه المنازعات برأي موظفي إدارة الاحتلال: 


«تعود إلى جشع وطمع شيوخ العشائر ‏ الذين ‏ اعتبروا مسؤولين مسؤولية 
كاملة عن القلاقل والاضطرابات التى كانت تحدث بين حين وحين ابتغاء خدمة 
مصالحهم»'". | 

وإمعاناً في سياسة إذلال رؤساء العشائر والشيوخ . وهي سياسة ثبت أنها كانت 
مبريجة بصورة لا لبس فيها؛ مفعمة بكل ما من شأنه أن يحط من قدر الأعراف 
الراسخة في الريف» وخالية من أدنى اعتبار لقوة الثقافة القديمة والتقاليد المتأصلة» 
أرغم البريطانيون أثناء العمل على توسيع مجرى نهر الفرات» في إطار ما سمي 
بمشروع الاستثمار الزراعي في تموز/ يوليو عام ١9318‏ كل رؤساء وشيوخ العشائر 
في الديوانية هم وعمالهم وأولادهم وعبيدهم على المشاركة في «معسكرات عمل 
إجبارية»» تجري فيها عمليات حفر النهر من هور ابن نجمء إلى شط الديوانية 
المعروف اليوم باسم الجدول والذي تقع عليه ناحية المليحة (نحو خمسة كيلومترات عن 
مركز المحافظة). كانت أوامر الضباط البريطانيين واضحة: أن يعمل رئيس أو شيخ 


(14) انظر الموامش والملاحظات في: المصدر نفسه. 
(0) انظر الطوامش والملاحظات في : المصدر نفسه. 


1Y 


العشيرة بنفسه مع حاشيته وعائلته في أعمال الحفر . وكان هذا الأمرء في نظر 
الفلاحين» وبحكم الثقافة القديمة» مخزياً وخالفاً لأعراف المجتمع العشائ زی 
كانت تجربة إرسال الرؤساء والشموخ خ إلى معسكرات العمل الإجباريء خطأ فظيعاً 
ناجماً عن فهم اسة ستشراقي لفطرة وذكاء العربي واستهتاراً بقيمة التقاليد؛ إذ استغل 
الفلاحون هذا التجمع الفريد من حيث العدد الهائل للمشاركين فيه لعقد سلسلة 
اجتماعات في أوقات الاستراحة» جرى خلالها الاتفاق على مقاومة البريطانيين 
جماعيا عند وقوع أي شكل من أشكال الاعتداء على أحدهم . 

كانت الفوارق المأساوية بين الطبقات تذوي أو تنصهر في أتون العذاب 
الجماعي» وأ صبح الشيخ والفلاح والعبد شخصاً واحداً تناله الإهانة نفسها . إنه 
الدمج «الخلاق» ذاته والممائلة ذاتها بين البشر. . وفي هذه الاجتماعات تم انتخاب 
الشيخ الحاج مخيف آل شخير رئيس عشائر عفك» وكان الأكبر سنا بين الرؤساء 
ويتمتع بهيبة ووقار واحترام بين الجميع ؛ ليكون ناطقاً باسم التجمع الفلاحي» 
وليرتب بعد مشاورات قصيرة» عاطات مرعةي او ل كن أجل ا 
ظروف العمل. 

في اللقاء الأول بين الرجلين» استشاط الضابط البريطاني غضباًء وهو يصغي 
إلى الشيخ ء وقطاليه باجام تعاليد تيع الريب والكف عن إذلال رؤساء العشائر» 
أمام الفلاحين وأمام أسرهم وأولادهم وعبيدهم» بإجبارهم على القيام بأعمال شاقة 
ومهينة . ولكن ديل لم يكن مستعداًء ولا للحظة واحدة» للاستمرار في نقاش من 
هذا النوع حول ترهات التقاليد. 


ولذا أنبى النقاش عازماً على إلقاء القبض على الشيخ الوقور . وبالفعل أرسله 
مخفوراً إلى البصرةء ومن هناك جرى نفيه إلى جزيرة هنجام الهندية . إ يمض وقت 
طويل حتى أعلن البريطانيون فشل مشروع الاستثمار الزراعي وتخلوا عن بعد أن 
تفرقت العشائر على أثر حادثة الاعتقال والنفي . كان هناك ما يشبه العصيان بين 
٠‏ الفلاحين» الذين بررواء بذكاء فطري ودهاء فلاحي مشهود. التخلي عن المعسكر أو 
الفرار منه بعودتهم إلى مضاربهم وقراهم» لضرورة الاستعداد والتحضير من أجل 
موسم الحصاد. ولذلك جرى التأكيد في الخطاب الاستعماري» طوال السنوات 
التالية التي أعقبت احتلاله» ثم فشل ثورة ١1۹۲ء‏ ما سمي إنهاء سلطة (البارونات 
اللصوص) وهو تعبير استشراقي استخدمه موظفو إدارة الاحتلال لوصف طبقة من 


(۴۱) مذكرات السيد محسن أبو طبيخ» :1430-141١‏ خسون ماماً من تاريخ العراق السياسي 
الحديث» جمع وتحقيق جيل أبو طبيخ (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر» :)7٠١١‏ ص 115. 


1 


الملاكين. كانت فكرة إنباء سطوة ونفوذ هؤلاء البارونات» تعتمد بالدرجة الأول» 
وبصورة منهجية» على تبني مبدأ الملكية الصغيرة للأراضي» أي تفتيت الملكيات 
الكبيرة وإعادة توزيعها على ملاكين صغار؛ يمكن ويجب تعميق روابطهم الاقتصادية 
والثقافية بالاحتلال . بينما اعتمدت الفكرة ذاتهاء بدرجة ثانية أقل إغراء وقبولاء على 
خلق طبقة جديدة من الملاكين هم في الأصل من الفلاحين وصغار السراكير 
(السراكيل)”* عبر التعاقد معهم على دفع الإيرادات مباشرة الى الحكومة . كان نموذج 
الهندء أو الحل الهندي حاضراً بقوة في التغييرات التي أدخلت على الخطاب 
الاستعماري في هذه الآونة» بعد فشل مشروع الاستثمار الزراعي في ريف الفرات 
الأوسط وتصاعد حدة المطالبات بالاستقلال هناك . 


ولقد بات واضحاً»ء فى الريف على نحو أخص. أن فكرة الاستقلال تستمد 
قوتها من درجة الإهانة والإذلال» ومن انحطاط مستوى التعامل اليومي بين الضباط 
والفلاحين وشيوخ العشائر» ولم تكن افكرة سياسية». كان الاستشراق يعمل» 
بالضد من إرادة المستشرقين ربماء على تعميق الميول والنزعات الاستقلالية في ريف 
يزداد بؤساً. والحقيقة أن البريطانيين استخفواء في هذا الوقت» بمطالبات رجال 
العشائر في الفرات الأوسط الذين كانوا يستغلون بدهاء» كل اجتماع أو زيارة 
للحكام السياسيين إلى مراكز المدن والقرى» لتذكيرهم بأن الجنرال مود تحدث عن 
«تحرير العراقيين وليس عن استعبادهم»» وأن العراقيين لن يقبلوا مهما كان الثمن 
باستبدال الاستعمار التركي باستعمار بريطاني”"" . 


ويبدو أن دعاة تحرير العراقيين من الاستبداد التركي» كانوا إذ ذاك» وبدلاً من 
الاهتمام ببذه المطالب» يضعون نصب أعينهم هدفاً آخر لا صلة له بشعار التحرير» 
هو نبب الأرض والاحتفاظ بها كمستعمرة. ولذا انتقلوا بسرعة من هذا الشعار إلى 
إنجاز خطط نظرية» ثم عملية» عن إنشاء مستوطنات أوروبية تبدأ في الحال» وفي 
إطار عملية اختبار لرد الفعل» بتوطين الهنود في الريف العراقي. وفي هذا السياق 
سعى البريطانيون إلى ترويج ما عُرف بمثال مقاطعة أوده (أو اوض) (011511) الهندي 
كحل مثالي لمشكلة الأرض؛ بينما راحت المس بيل» سكرتيرة المكتب الشرقي ترج 
من جانبها للنموذج المصري في اللملكية الزراعية» والتركيز على ضرورة مضاعفة 
وجود الملكيات ذات المساحات الصغيرة التي لا تتجاوز الخمسة أيكرات. عكس 


(5) «السراكيل» أو «السراكير» أي مساعدو الشيوخ. 
(۳۲) مذكرات السيد محسن آبو طبيخ: ۱۹۱۰ - 1450: خمسون عاماً من تاريخ العراق السياسي 
الحديث. ص .١١9‏ 


5 


هذا التعارض في أشكال الحلول المعروضة على الفلاحين في الريف» تعارضاً أكبر 
وأشد ضراوة كان يدور بين المكتب العربي فى القاهرة وقيادة الجيش الهندي - 
البريطاني. ومن الواضح أن أصحاب الحل الهندي كانواء في هذه اللحظةء 
أصحاب الكفة الراجحة في التنافس إوذلك عندما قدم متري دريس معت الواردات 
البريطانية في الإدارة المدنية» خطة تقضي باعتماد نظام دعاوى العشائر الذي سوف 
يصدر في العام ١9414‏ . وسوف تكشف التطورات اللاحقة أن طاقة الجتمع 
العراقي وثقافته القديمة القوية» قل أحبطتاء في خاتمة المطاف» هذا المشروع؛ الذي 
أمكن لبريطانيا ومستوطنيها الأوروبيين البيض تحقيقه تالياً في زمبابوي وليس في 
العراق. 


كان الاستشراق آنئذٍء كما هو ما بعد الاستشراق اليوم» يفيض بحلول 
وتصورات سوف تدر بعنف عند سواحل أفريقيا. قبل صدور هذا القانون بنحو 
أربع سنوات وتحديداً في خريف العام 1414 سعى الإنكليز - من خلال إثارتهم 
مشكلة المنازعات حول الأراضي بين الفلاحين» أو ما سيعرف تالياً بقانون تسوية 
الأراضي» إلى تبيئة الأجواء لتوطيد سياساتهم في كسب كبار الملاكين» وتحطيم 
الخصوم المحتملين للاحتلال داخل طبقة الشيوخ والملاكين ورجال العشائر» كما 
حدث مع عبد الواحد الحاج سكر في الديوانيةء وهو أحد كبار الملاكين المشاركين في 
ثورة ۱۹۲١‏ . لقد انتزعوا منئهء بفضل هذا القانون» كل ممتلكاته من الأرض» 
تقريباً» ودفعوا به نحو الإفلاس . 


كان هنري كونوي دوبس» بدوره» من كبار موظفي حكومة الهندء ومن أبرز 
«المنظرين الهنود» الذين اكتسبوا خبرة استعمارية فريدة أثناء عمله في أفغانستان 
كموظف واردات» قبل أن يستدعيه برسي كوكس الى البصرة ليعمل تحت إمرته. 
كانت خبرته الهندية موضع تقدير مرؤوسيه”” “. عمل دوبس في الريف العراقي 
وفي المسالة الزراعية «كمنظر هندي» ولیس كضابط بريطاني» وهو جاء ليقدم 
للعراقيين عصارة خبرته الاستعمارية هناك وحسب. 


في هذا الاق فام التتتصل الان في السجبرة (العنزة نوب العراق والتي 


اغتصبها الإيرانيون فأصبحت إيرانية إلى الأبد) بترتيب لقاء مع السياسي الغعضوب 
والمتغطرس طالب النقيب المعروف بالسيد التقيب» وف شخصية سياسية شرسة 


(۳۳) انظر: الجواهري» تاريخ مشكلة الأراضي في العراق 1487-1415 : دراسة في التطورات 
العامةء ص 7850ء وعبد الرزاق الهلاليء تاريخ التعليم في العراق في عهد الاحتلال البريطاني ۱۹۱۲ - ٠۹۲۱‏ 
(بغداد: مطبعة المعارف» .)۱۹۷٥١‏ 


56 


لعبت دوراً مهما في تاريخ العراق» من أجل إقناعه بالحل الهندي لمشكلة الأراضي 
ذاكراً له: 


«الفوائد التي جناها راجات الهند (الملاكون) الذين ساندوا الإنكليز والنكبات 
التي نزلت بمن رفض التعامل معهم؛ " . 

في هذا اللقاء أعاد القنصل البريطاني تذكير النقيب بالدور الذي لعبه ت. 
لو عندما وصل العراق في أولى سنوات الاحتلال من أجل تنظيم ثورة 
ضد الأتراك» وأن لورنس استمع إلى نصيحة ثميئة» إذ ذاك» تدعوه إلى الاتصال 
بالعشائر. توضح هذه الواقعة المهمة حقيقة» قلماء لفتت انتباه الباحثين» وهي أن 
خطاب التحرير الاستعماري لم يستند في الأصل» وبشكل متعمد. إلى ما بدا انه 
تحول في الأفكار» أو الرؤى» إزاء مشكلات العراق الزراعية» أي التحول باتجاه 
قبول العلاج الهندي؛ أو أن هذا الحل هو خلاصة نقاش جرى بعد الاحتلال وليس 
قبله . إن الوقائع» آنفة الذكر» تفيد على العكس من ذلك» بوجود اتصالات مبكرة 
قام بها «المنظرون الهنود» مع العشائر لاختبار إمكانية تمرير المشروع الهندي . . ويتوجب 
القول» هناء وبدلاً من هذا التقدير غير الحصيف› أنه كان هدفاً أصلياً وحقيقياً تم 
التستر عليه ببراعة تحت ستار كثيف من الشعارات عن «المدنية والتحرير والخلاص من 
الاستبداد التركي» رمكلا EE‏ سير عا الاجتماع العراقي عبد الجليل 
الطاهر - فقد اتبع الإنكليز 29 نظرية في حكم العراق تقوم على القاعدة التالية : 


«من يستطيع السيطرة على شيوخ العشائر يستطيع السيطرة على العشائر. ومن 
يسيطر عليها يحكم العراق بكل سهولة؛ . 

على هذا النحو تطورت نظرات البريطانيين لاحتلال العراق وتطور أسلوب 
حكمهم. إنه امتداد لمشكلة أخرى» وفي بلد آخر. أو هو مشكلة هندية تمددت 
واستطالت حتى شواطئ الخليج العربي. في هذا الإطار تمت مراجعة خيارين محتملين 
أمام إدارة الاحتلال لتسوية مشكلة الأرض 

الخيار الأول: إعادة إنتاج نموذج مملكة ‏ مقاطعة (اوض) أوده ‏ (010811) 


(54) انظر: نوّارء تاريخ العراق الحديث من نباية حكم داود باشا إلى حكم مدحث باشاء ولوريمر؛ 
دليل الخليج. عمل لوريمر بصفة قنصل بريطانيا في العراق حتى عام 18411 

(5) إن لورنس؛ المعروف في الأدبيات التاريخية ب «لورنس العرب» هو مثقف لامع؛ عمل ضابطاً في 
الجيش الحندي ‏ البريطاني. 

05 للمزيد انظر ال موامش والملاحظات في: الجواهري» ناريخ متبكلة الاراضي في العراق‎ )۳١( 
.۲۹۲ دراسة في التطورات العامة » ص‎ : 14۳۲ 


11 


وأجزاء أخرى من الهند» وبالتالي» تفتيت الملكيات الكبيرة من الأرض وخلق طبقة 
من البارونات واللصوص» جديدة ومنقحة ومهذبة من أي ميول عدوانية ضد 
«المحررين البيض» ويمكن الزج بها في النزاع الداخلي كقوة من منظمةء وذلك تمهيداً 


لظهور مستوطنات زراعية أوروبية هادئة ومنتجة . 


والخيار الثاني: وهو ما عبرت عنه المس بيل: خيار مُضاعفة الملكيات ذات 
مساحة المخمسة عشر أيكراً» إلى حدود الأراضي القابلة للزراعة”"” . وهذا الخيار كما 
لاحظ الجواهري يمكن وصفه بأنه شبيه بما تم في مصر عندما جرى تطبيق قانون 
الخمسة فدادين» والذي زعم أنه سوف يخدم الوجود البريطاني هناك . ويبدو أن 
أصحاب الحل الهندي تمكنواء في النهاية بالفعل» من فرض تصوراتهم لمشكلات 
الأرض في العراق. وهكذا قدم هنري دوبس» معتمد الواردات في الإدارة المدنية 
البريطانية تصوراته وخططه؛ لإدخال نظام دعاوى العشائر الذي صدر عام ۱۹۱۸ . 
وسوف نرى» تاليء كيف أن هذا النظام هو الذي دفع بقادة وزعماء عشائريين مثل 
عبد الواحد الحاج سكر في الديواتية؛ إلى تأجيج الثورة ضد الإنكليز بعدما اكتشف ` 
أن هؤلاء؛ وعبر هذا النظام» قاموا بتجريده من ملكيات واسعة للأرض بحجة أنها 
أراض متنازع عليها مع أفراد عشيرته . إن الواقع الراهن والمعطيات الزاخرة والغنية 
ااا د قعل لسع فد لساك ل الأريا ا يتشكل في 
التصورات الأمريكية عن العراق بصورة تشير إلى تاثله التام مع النموذج الكولونيالي 
البريطاني. والتحول نفسه الذي حدث ذات يوم لصورة هذا البلد في خطاب 
الاستشراق» يكاد يكون التحول نفسه في خطاب ما بعد الاستشراق 


لقد تم الانتقال من سياسة التحرير إلى سياسة مواجهة وتطويق رد فعل السكان 
ومعالجة مشكلة مقاومتهم للاحتلال. مقابل قيادة الجيش الهندي البريطاني في 
الماضي» توجد اليوم قيادة عسكرية أمريكية هي ذاتها التي قادت الحرب على 
أفغانستان» فضلاً عن القيادة المشتركة الوسطى التى تدير العمليات الحربية فى 
«المستعمرتين» العراقية والأفغانية. ومقابل كبار الضباط في الحملة العسكرية 
البريطانية على العراق ممن عملوا في الهند ثم أداروا العمليات ضد الفلاحين 
الثائرين» نشاهد اليوم ضباط الحملة الأمريكية على نظام طالبان وشبكات القاعدة 
وبن لادنء وهم يديرون العمليات العسكرية ضد المقاومة العراقية ٠‏ إنهم يتصرفون 
وفقاً للمنطق نفسه: كل شكل من أشكال المقاومة هو إرهاب أفغاني المصدر 
والجذورء امتداد لمشكلة أخرى» وتاماًء مثلما تصرف البريطانيون إزاء الثورة الشعبية 


(Tv)‏ المصدر نفسه. 


1Y 


الكبرى. لقد تركوا أمر معالجة التمرد العشائري في البصرة عام ٠‏ لضباط 
الجيش الهندي - البريطاني» الذين تصرفوا بدورهم» طبقا لخبرتهم في الهند» وععل 
أساس أن التفجر الاجتماعي في الجنوب والوسط العراقيء عاثل للمشكلات التي 
واجهها هؤلاء في مقاطعات الهند. وأن الراجات الهنود هم أنفسهم شيوخ الفرات 
والجنوب. في الواقع » ظهرت رغبة بريطانيا في جعل العراق محمية بريطانية مع 
إعلان الحاكم الملكي العام أرنولد ولسن في آذار/ مارس 5١91١؛‏ أي قبل أربع 
سنوات فقط من اندلاع ثورة العشرينء أنه يود أن يعلن: 

«إنه من الضروري ضم العراق إلى الهند كمستعمرة للهند والهنود» حيث تقوم 


حكومة الهند بإدارتها وزراعة سهولها الواسعة بالتدريج وتوطيد أجناس البنجاب 


ثم تجسدت بصورة أكثر وضوحاً في شباط/ فبراير من عام ١4157‏ عندما نشر 
هنري دوبس (8.20665 .11) ما سوف يعرف بنظام دعاوى العشائر الجزائية والمدنية؛ 
وكان ذلك هو الأساس المعتمد في التعامل مع العشائر والقبائل. لقد وضع هذا 
النظام على غر ار نظام شرّعه روبرت ساندمان )Robert Sandman)‏ في بلوخستان 
بالهند نحو العام ۱۸۷١‏ واستند إلى مبدإ تقوية العشائر» تحت زعامة شيوخ تابعين 
وخاضعين لسيطرة الضباط البريطانيين"“"» وذلك هو الاتجاه الذي سارت فيه 
السياسة البريطانية في العراق على طول الخط» كما حدث في نموذج منطقة سوق 
الشيوخ في الناصرية (الحنوب) عندما خصرت السلطة في يد شيخ واحد في كل 
اثنتين وعشرين عشيرة. 

لقد انقلب شعار تحرير العراقيين من الاستبداد التركي» إلى خطط وبرامج 
للاستيلاء على الأرض . كان العصر بحق عصر فتوحات استعمارية لأراضي شعوب 
«رجعية؟ و#متخلفة؟ وغير متمدنة وتكره التقدم بالغريزة. ذلك هو بجلاء الاستشراق 
السياسي القديم. في حزيران/ يونيو» وبعد أشهر من سقوط بغداد» رتب برسي 
كوكس لقاءً مهما مع رجال العشائر والملاكين الكبار في الديوانية» من أجل أن يتأكد 
بنفسه من الجواب المفترض على سؤاله الحاثر : هل إن رجال العشائر يحبون الأتراك أم 
الإنكليز؟ . ما تلقاه كوكس كان محيراً: إن رجال العشائر لا يحبون الأتراك ولا ينسون 
ظلمهم لهم؛ إذا ما وفيتم أيها البريطانيون بوعودكم ومنحتم البلاد استقلالهاء وقمتم 


(۳۸) إبراهيم خليل أحمد العلافء «ثورة العشرين الوطنية القومية في العراق.» في : المفصل في تاريخ 
العراق المعاصرء ص 197. 
(9") المصدر نقسهء ص ۱۸۸. 


A 


بتنفيذ ما جاء في بيان الجنرال مود الذي وعدنا بالحرية”'“ . التقط رجال العشائرء 
وفي وقت مبكر للغايةء وبحسهم الغريزي وذكائهم الفطري› أولى الإشارات عن 
المدى المتوقع للسلوك الاستعماري وا و إدارة الاحتلال» ففي لقاء آخر 
جرى تنظيمه مع المس بيل”*© أيقن هؤلاء أ هم يتعاملون مع رجال ونساء الحملة 
البريطانية الاستعمارية» الذين يتسمون بالعناف والحطرمة غيب انار 


«أخذت تسألني أسئلة مشايبة لأسئلة بيرسي كوكس» فأجبتها بما أجبته» فظهر 
الامتعاض على وجهها جلياً لأنبا كانت ضيقة الصدرء وتكلمت بعبارات لا يصح 


لسياسي أن يتفوه مها حتى ولو كانت امرأة»"“ , 


کان انطباع حسن أبو طبيخ أحد أهم رجال العشائرء حاداً ومثيراً للاهتمام 
عندما قال لرافقيه فور سماعه أسئلة المس بيل» إنه وجد فيها شيئاً من الخشونة 
والاستخفاف بالشعب العراقى» وأنه ليعجب كيف يكون السياسى ضيق الصدر؟ أما 
المس بيل؛ فإن الانطباع الذي خرجت به من اللقاء وسجلته في رسائلها الشهيرة» 
فقد كان صاعقاً للبريطانيين» وذلك» حين كتبت تخاطب الكابتن ولسن نائب الحاكم 
العسكري» الذي تسميه (المخلوق غير الاعتيادي إلى حد كبير) : 

«كيف تكون حينما تدعى أنت إلى التوفيق بين أفكار سكان عشائريين لم يتبدلوا 
قيد أنملة في التفكير خلال الخمسة آلاف سنة الأخيرة»"“؟ 


لم يكن ولسن بدوره مستعداً لأن يتزحزح عن تفكيره ا انيل ! لأن 
هذه الخمسة آلاف سنة التي تتحدث عنها بيل» هي مجرد فائض ذ فى الوقت» لا يعني 
أي شيء أمام قوة ة النموذج الاستشراقي الخارقة . بذلك تام سوء التفاهم المبكر هذا 
بين رجال العشائر والضباط البريطانيين» .والذي نجم عن أول الاتصالات مع إدارة 
الاحتلال في أرياف الفرات الأوسط (النجف وكربلاء والديوانية). عبّر هذا التدهور 
في أشكال ووسائل الحصول على طريقة يقة تفاهم مقبولةء عن المنزلق الخطير الذي كان 


(10) انظر: المصدر نفسهء ص 218 ومذكرات السيد محسن أبو طبیخ» :1450-141١‏ خمسون عاماً 
من تاريخ العراق السياسي الحديث» ص .٥٤‏ 

() الآنسة غروترود لوشيان بيل »2١477-1874(‏ التحقت بالحملة البريطانية على العراق عام ١117‏ 
وعملت في مكتب السير برسي كوكس بصفة سكرتيرة للمكتب الشرقي للمندوب السامي» ثُوفيت ودفنت في 
بغداد في ؟19557/1//17,. 

)٤۱(‏ مذكرات السيد محسن أبو طبيخ» :1410-143٠١‏ خسون عاماً من تاريخ العراق السياسي 
الحديث» ص .20١6‏ 

(41) العراق في رسائل المس بيل 1۹١۷(‏ -١۱۹۲)ء‏ ترجمة وتعليق جعفر الخياط؛ تقديم عبد الحميد 
العلوجي (بيروت: الدار العربية للموسوعات» .)5٠0١*‏ 


594 


الاستشراق السياسي يتجه نحوه» جارفاً معه كل هيبة وغطرسة وشراسة ضباط 
الإدارة البريطانية . كما عبر فى النطاق ذاته عن معنى المنفعة التى سوف يجلبها ظهور 
فريق الحكام السياسيين على المسرح: الميجر ديلي حاكماً سياسياً في الديوانية» الكابتن 
مان في الشامية» الكابتن لآين فى منطقة أبو صخيرء الكابتن اشتن فى لواء (محافظة) 
السماوةء الكابتن سوتر في منطقة الرميثة» الكابتن فيش فى مدينة الكوفة» وأخيراً 
الكابتن ويب في منطقة عفك. يصف أبو طبيخ وصفاً بليغاً أحد ضباط هذا الفريق 
من الحكام السياسيين» هو الكابتن بلفور الذي عين حاكماً سياسياً للفرات الأوسط 
بكل أقضيته ومدنه: (كان هذا الضابط رجلا استعمارياً من الطراز الأول» فهو إلى 
جانب عجرفته وتعاليه؛ فإنه كان فظاً قاسياً عامل الناس وكأنه في الھنں)"“: 

«وكان ضباطه المعاونون على شاكلته » ولعل ما بدر من هؤلاء الحكام السياسيين 
منذ تعيينهم في مناطقهم تجاه السكان من ظلم وتعسف» كان السبب الأعمق في 
تحريك المشاعر ضدهم لدى كل الطبقات ابتداء من الفلاح إلى الملاك إلى المثقف فقد 
أصاب الجميع شرهم وصلفهم»“““. 

ويضيف أبو طبيخ إلى هذا التوصيف» الجملة المثيرة التالية عن التغيرات التي 
قامت بها إدارة الاحتلال لمعالجة الآثار المحتملة إلتي أسفر عنها سوء التفاهم بين 
الضباط ورجال العشائر : 


«ولكن هذه التغيرات والتنقلات بين الحكام لم تغير شيئاً. فكلهم إنكليز جاءوا 
من الهند وعاملونا معاملة الهنود»“ . 

في هذا النص الواضح من مذكرات الزعيم القبلي الذي كان على دراية حسنة 
. ومباشرة» بالأساليب التي اتبعها البريطانيون في مسألة الأرض والنتائج المأساوية 
لسياستهم الزراعية» إذ كان من كبار الملاكين في الديوانية» ولديه جيش من الفلاحين 
الذين تقاسموا معه مشاعر الذل والمهانة؛ يمكن للمرء أن يمعن الفكر بهذا النمط من 
الصور النموذجية للاستشراق. كلهم إنكليز جاءوا من الهند ويريدون معاملتنا 
بوصفنا هئوداً. إن الطريقة التي جرت فيها إدارة ما كان يُدعى في الأدبيات السياسية. 
البريطانية بلاد ما بين النهرين» والتي تراءت كما لو أنها امتداد لمملكة أوده (اوض) 
لا تعدو أن تكون أكثر من محاولة لاختبار نظريات مبتذلة» مبنية على سلسلة من 
الفرضيات المغلوطة والأوهام الاستعمارية. إن شعوره» كزعيم عشائري» بالضيق 

)٤۳(‏ مذكرات السيد محسن أبو طبيخ» ۱۹۱۰ - ۱۹٠١‏ : خمسون عاماً من تاريخ العراق السياسي الحديث. 


)٤٤(‏ المصدر نفسه. 
(55) المصدر نفسهء ص 88. 


والنفور من تخيل البريطانيين له بوصفه راجا هندياً وليس فلاحاً عراقياً» يعكس» 
بقدر كبير من النزاهة والصدق» المعنى الفعلي لقضية الحفاظ على الخصوصية» ومنع 
أو إعاقة أي محاولة لانتهاكهاء أو الاقتراب منها حتى . إنه انطباع قوي يخلو من 
التحريف أو التلاعب بالمشاعر والوقائع» كما يعكس في مستوى مذهل من البساطة 
الحاذقة التي غالبا ما يمتاز بها الفلاحون» الطبيعة الرخوة» ولكن المعقدة في الآن 
ذاته» للتدابير التي لجأ إليها البريطانيون من أجل بناء شبكة اتصالات شخصية 
وسياسية مع.زعامات الريف . ومن يعلم مبلغ الصعوبة في اعتراف الزعيم القبلي بأنه 
تعرض للإهانة الشخصية والسخرية والتلاعب» وخصوصاً في تقاليد الريف العراقي 
الخشنة وغير القابلة للاختراق» سوف يعرف مقدار الصدق فى هذا النص . كانوا فى 
الواقع لا يقيمون أدنى قيمة لما اعتبره خطاب مود من أولى واجبات حكومته : احترام 
الخصوصية؛ هذه التى تتعين المحافظة عليها مهما كانت الظروف. ولئن كانت الصبغة 
العسكرية التي أضفيت على البلاد منذ الأيام الأولى» من خلال إطلاق يد الضباط في 
إدارة أقاليم البلادء وبطبعها سائر نشاطات قوات الاحتلال» وإلى الدرجة التي 
صارت معها تعني أمراً واحداً هو توسيع نطاق النزعات البوليسية ”“ وإشاعة 
وتعميم أساليب إهانة رجال العشائر؛ فإن انتشار العملة الهندية (الروبية ‏ تساوي 
بالعملة العراقية ۷١‏ فلساً) وبالنسبة للفلاحين» لم يكن ليعني أي شيء آخر سوى 
تقديم دليل آخر أكثر سطوعاً في رمزيته على التهنيد العاصف ؛ الذي بات يزيجر في 
سماء الريف العراقي كالقدر المحتوم . 

هذه الرمزية بطاقتها القصوى على كشف جوهر المشروع البريطاني في الريف؛ 
تجلت في ما أعتبر نظاماً قضائياً (ما سمي مجموعة قوانين مناطق العراق المحتلة)(“ 
التي صدرت في الأول من آب / أغسطس ١٠1۹ء‏ والتي هدفت فعلياً إلى اعتبار 
الريف العراقي (الجنوب) بأكمله كما لو كان إمارة من إمارات بومباي» حتى إن 
الجنرال هالدن (ه11310) شبّه الإدارة البريطانية للعراق بأنها العمل عماثلة للإدارة 
البريطانية في الهند““ . على هذا النحو تلاشت أولى الصور الاستشراقية وحلت 
محلها صور الواقع الحية : كلهم إنكليز وكلنا هنود . لقد أصبح العراق في مرآة 
الاحتلال وفي وجدان الفلاحين المعذبين امتداداً كولونيالياً للهندء ام 
مشاهد متمائثلة ومتطابقة لانتهاك الخصوصية . وآنئذٍ تبددت فكرة التحرير كليا 


إذا كان هذا هو حال الريف فماذا عن بغداد؟ 
(1) العلاف. «ثورة العشرين الوطنية القومية في العراق»» ص .1۸١‏ 
)٤۷(‏ المصدر تسه 6 ص 1856. 


(EA)‏ المصدر نقسه. 


۷١ 


الثا: بغداد مدينة التجار اليهود 
لق د أصبحت تجارة الاستيراد الآن ف يأيدٍ حلية فارسية ويبودية بصورة رئيسة» حيث أن 
تكاليف عملهم ومعيشته م الواطئة نجعلهم يقتنعون بالأريا حالني لا ينافسهم فيها رجال 
)£۹( 
الأعمال الأورور بيون 5 


وكيل القنصل البريطاتي في البصرة عام ١841/‏ 


مع مطلع عام ١9154‏ بدا البريطانيون واثقين أكثر فأكثر من نجاح حملتهم الحربية 
لاحتلال عاصمة الجنوب العراقي. ثم أصبحوا أكثر شعوراً بالثقة» وهم يدخلون 
البصرة (الجنوب) قبل غهاية العام . ومع هذا بدوا وكأنهم سيتمكنون من خلال عمل 
متقن وسريع» ويُنفذ بشكل حسن ودون كلل أو شعور بالذنب أو عوائق خطيرة» من 
إنجاز وتحقيق ما كانوا يحلمون به: عملية كبرى تنتهي بتهنيد العراق (من الهند) 
وإلحاقه نبائيا بالمستعمرة الجديدة» وذلك بإغراقه تدريجيا وبصورة منهجية ومنتظمة 
بطوفان من الكتل السكانية المقتلعة من الهند والبنجاب . وبوجود جيش جرار قوامه 
آلاف الجنود الهنود والبنغال والبلوش» وبأساليب وتصرفات مستقاة من تجربة 
التعامل مع السكان هناك؛ فقد تراءت العملية وكأنها تتويج لاستراتيجية لا عدف إلى 
تحويل العراق إلى امتداد هندي جغرافي وسكاني وثقافي وحسب؛ وإنما يمكن 
كذلك» ومن خلال تقديم تصورات استشراقية إضافية موازية» تحويل بغداد نفسها 
إلى مدينة مبودية» أو مدينة تجار يبود. وهذا حقيقي» تماما. كانت عقلية الاستشراق 
تقوم» وبشكل فعال» بتبسيط هذه المهام الكبرى وربماء بتسهيل تلقيها كنتاج تلقائي 
لاستخدام القوة. هاتان الصورتان النمطيتان للعراق وعاصمته التاريخية بغداد» كانتا 
في الحق» في قلب العمل الاستعماري وفي القلب من وظائف الاستشراق . 

ذات يوم كتب المفكر والسياسي السوري عبد الرحمن الشهبندر يقول”””: 


«حادثني السير مارك سيكس سنة 1417 في القاهرة وهو واضع معاهدة 
سيكس - بيكوء ليقنعني بضرورة احتلال العراق وسوريا ليتعلم ساكنوها المدنية 
الحديثة والحضارة القائمة. فقلت: وإذا لم يقبلوا هذه الحضارة بالعنف والشدة وبالرغم 
منهم؟ فقال: فما عليهم إلا أن يخرجوا من ديارهم إلى الصحراء وطنهم القديم؟ . 


(49) محمد سلمان حسن. التطور الاقتصادي في العراق: التجارة الخارجية والتطور الاقتصادي» 
855 .1404 (صيدا: الكتبة العصرية › 6ج :١‏ 55خ 0A‏ . 

)٠١(‏ عبد الرحمن الشهبندرء مذكرات وخطب [الأعمال الكاملة]ء تحقيق وتقديم محمد كامل الخطيب 
(دمشق: وزارة الثقافةء ۱۹۹۳). 


v۲ 


ليس ثمة» بالنسبة لقاريء قليل التبصر بعواقب نيات وأفكار من هذا النوع ء أو 
يرهال جا في اقل الأحوال» أو ی متحتي اضيا ا ا يحيق فوم النص على 
أساس أنه شهادة حية وحقيقية عن طبيعة الاستشراق ووظائفه. عمل عنيف تقوم به 
جماعة ضد جماعة أخرى من أجل إرغامها على القبول بتصوراتها عنها؛ فهي بدائية 
ومتوحشة» ويجب والحال هذهء أن تنتقل بالقوة إلى ا حضارة . ومع ذلك؛ فإن النص 
يقول شيئاً آخر أهم بكثير من هذه الفكرة المتعجلة. إنه نص يقول بقدر ممتاز من 
الوضوح» إن احتلال العراق وسوريا كان ينطوي على تصور لإمكانية طرد السكان 
الأصليين من بلادهم ورميهم في الفراغ الصحراوي. أي تكريس بداوة أمكن الإفلات 
منها قبل أكثر من ١46٠١‏ عام مع الإسلام وحضارته. فماذا كان سيفعل منظرو 
الاستشراق في بلدين يُرمى شعباهما في الصحراء؟ ؟ في ما بعد» وكما سوف نلاحظ مع 
سقوط بغداد عقب ثلاث سنوات متتالية من القتال ضد العثمانيين» انطلاقاًء من 
الجنوب؛ ستجري » ولكن على نطاق محدود شديد الديناميكية والتكثيف» عمليات 
موازية لإنجاز ما يمكن وصفه بأنه عملية تهويد (من اليهودية) لبغداد التجارية . 


هذه هي الصور الاستشراقية الأولى لما كان يرغب البريطانيون في رؤيته» إذا ما 
رفض السكان مغادرة بلادهم إلى الصحراء كما أراد السير مارك سيكس . . يمكن لهم أن 
يعيشوا في عاصمة يجري تمدينها وتبويدها في الآن ذاته؟ وذلك عبر ترسيخ صورة 
زائفة تظهر فيها عاصمة الإسلام التاريخي في هيئة مدينة تعج بالتجار اليهود الذين 
يسيطرون عليها ويحتكرون تجارتها الداخلية . إلى جانب هذه الصورة» كانت هناك 
صورة أخرى» قلما لفتت انتباه الباحثين والدارسين لتاريخ الاستعمار البريطاني في 
العراق؛ هي صورة بغداد سياسية يلعب فيها السياسيون العراقيون من أبناء الطائفة 
اليهودية دوراً محوريا في الحكومة. لم تكن هذه الرؤى مجرد أحلام فارغة راودت 
الضباط المنتصرين» أو داعبت خيالهم وهم يتبخترون في شوارع العاصمة» التي تركها 
العثمانيون تواجه وحدها قدرها بفزع» محبطة ومجروحة في كرامتها. ولعلهاء إذا شئنا 
الإنصاف والتزام وقائع التاريخ المكتوب. تصورات مبنية على أساس من نوع ماء لكنه 
ليس كافياً بأي حالٍ من الأحوال للرهان عليه في خطة جهنمية من هذا الطراز . 

لقد لعبت البعثات التبشيرية التي تسللت مع الكولونيالية الإنكليزية منذ مطالع 
القرن السابع عشرء سنتغلة التنافس الاستعماري المخموم بين الأوزوبيين عل خلج 
العربي؛ دوراً محورياً في إنشاء أولى الرؤى الاستشراقية عن سكان هذا البلد. 
الفرنسيون كانوا أول البادئين في النشاطات التبشيرية المبكرة التي تعود بداياتها إلى 
العهد العثماني. آنذاك» لم يلعفت العثمانيون إلى الأهداف الخفية من وراء تسلل 
المبشرين الفرنسيين الدومينيكانيين والكبوشيين الكاثوليك إلى العراق» واعتقدوا أن 


ترف 


ا والبريطانيين حول ار المسيحي وفي نطاقه . 


في العام 1۸۲۹ وصل أول مبشر بروتستانتي للعمل في معاقل الكاثوليكية في 
البصرة والموصل وبغداد . كان جروفز بروتستانتياً متحمساً تاق لرؤية رعايا الكنيسة 
الكاثوليكية في البصرة وقد تحولوا نبائياً إلى البروتستانتية . ولكن حروب داود باشا 
سرعان ما دهمته وأرغمته على ترك العراق إلى الهند . كان يبود العراق في ظل التبشير 
السيحي قد أصبحوا أفضل ميدان من ميادين التنافس الفرنسي - البريطاني . لكنهم 
سرعان ما أصبحوا عرضة لضغوط شديدة مصدرها الحقيقي» كما ارتأى بعض 
المؤرخين مثل عبد العزيز نوار”'”' ما يُزعم أنه اشتراك بعض اليهود في مؤامرة ضد 
سعيد باشا والي بغداد .181١65-148017'‏ في نطاق هذا التنافس استغل القنصل 
الفرنسي فونتانييه الفرصة وقرر خوض حرب مكشوفة ضد منافسيه البريطانيين» من 
أجل بسط الحماية على اكبر عدد من اليهود. وكما لاحظ نوّار؛ فإن يهود العراق 
أبدوا بعض الترحيب في هذه الآونة» بوجودهم في ظل حماية دولية من أوروبا ٠‏ بيد 
أن حدة التنافس البريطاني ‏ الفرنسي حول اليهود سرعان ما هدأت مع رحيل 
فونتانييه المفاجئ:. بعلت سان ا ا إل حفر بس لاطت ا 
في أوساط اليهود» حيث تولت جمعيات بروتستانتية عدة أمرهم . 


في العام ١875‏ وقع تطور مثير» بدا وكأنه خارج سياق الاستراتيجية البريطانية ؛ 
إذ اصطدم كبار رجال الدين اليهود في البصرة مع مبشر بريطاني بروتستانتي بسبب 
محاولاته المستميتة لإقناعهم بالتحول إلى البروتستانتية» الأمر الذي حمل الوالي في بغداد 
على إبعاده من العراق . بعد فشل البريطانيين في العمل مع يبود البصرة» تول المهمة عدد 
من المبشرين البولنديين الذين زعموا أخهم تحولوا من اليهودية إلى المسيحية» لتظهر اعتباراً 
من هذا الوقت جمعية «اليهود المتحولين» ولتصبح بسرعة» واحدة من أهم الجمعيات في 
الجنوب العراقي . في هذا الإطار جاء نشاط شركة بيت لنج التي لعبت دوراً بارزاً في 
تعزيز المصالح التجارية البريطانية والنفوذ البريطاني . كان الدين والتجارة يعملان بشكل 
متواز الدور نفسهء فهناك إلى جانب شركة بيت لنج» وربما بالتعاضد معها» شركة كري 
مكنزي التي تأسست في البصرة ومارست تجارة تصدير الحبوب والتمور واستيراد 
البضائع من الهند وبريطانياء إذ كانت وكيلاً لشركة الهند الشرقية ‏ الإنكليزية . 


(81) انظر: حسنء المصدر نفسه؛ نوّارء تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا إلى حكم 
مدحت باشاء ولوريمر» دليل الخليج. 


:7ق 


لاحظ الكاتب العراقي نجدة فتحي صفوة””*' وهو يدرس» في هذا الإطار مسألة 
ظهور المحافل الماسونية في البصرة» أن التاري يخ الحقيقي لظهور هذه المحافل يرقى إلى 
عام ۱۸۳۹ء ااا سر وقد احتفلت بوضع 
الحجر الأساس لبناء حفل ماسوني في البصرةء على طريق الهند» بحضور المستر مور . 
وأن من المحتمل أن الماسونية انتشرت في البصرة عن طريق شركة الهند الشرقية . 


كما لاحظ د. حسين عمر حادة"“ أن من المحتمل أن يكون الشيخ خزعل 
أمير المحمرة» الذي كانت له صلات وثيقة بالبريطانيين ماسونياً نشطأء فقد نال 
أوسمة عالية لقاء خدماته لهم . كان إقليم عريستان الذي يحكمه الشيخ خزعل» من 
الناحيتين الجغرافية والطوبوغرافية جزءاً من العراق» وكذلك من حيث أن سكانه من 
العرب . تضمنت إحدي الوثائق الخاصة بالماسونيين اقتراحاً مقدماً إلى كاتب السر في 
المحفل الماسوني المصري محمد زكي سالم وموجهة من رئيس المحفل (بتاريخ 1١‏ كانون 
الأول/ ديسمبر ۱۹۲۳) بشمول الشيخ خزعل بالتكريه”؛*؟: 


«والنظر في منح وسام لكل من الأخوان المذكورين اعترافاً بجليل خدماهم 
وهم: : أولاً: سلطان المحمرة صاحب العظمة السردار أقدس عربستان وأمير يونان 
الأخ فائق الاحترام خزعل خان سلطان المحمرة ورئيس محفل ‏ خزعل خان - 
والأستاذ الأعظم الإقليمي للعراق؟. 


واستناداً إلى حمادة» فقد لاحظ موفق العمري المحامي في كتابه الماسونية 
والبهائية”*' ما يلي : إن البريطانيين أسسوا تسعة محافل تمتد من بغداد إلى البصرة 
وبابل وكركوك» كما تم إنشاء محفل آخر في محلة الطاطران في بغداد» وهي محلة 
بغدادية شعبية قديمة» قبل أن ينتقل إلى دار» خلف سينما الزوراء (الشعب حالياً) في 


منطقة المربعة في شارع الرشيدء وهذا المحفل كان بإدارة الإنكليزي جون (؟) 
وزو . هذه ه المحافل جميعاً ترتبط بلندن بزوابط وثيقة» وقد اتخذت واجهات 
اجتماعية ومنها نادي الإخاء . كان تغلغل الضباط البريطانيون في الجنوب من خلال 


هذه المحافل» واستعأ ومنظما عى إنهم مكتوا من د بعض :القباط العراقين اللذين 


(01) نجدة فتحي صفوة, الماسونية في الوطن العربيء أوراق عربية رقم »٤‏ سلسلة البحوث؛ 4 (لندن: 
مركز الدراسات العربية؛ ۱۹۸۰)» ص ۳۸. 

.)۱۹۹٩ حسين عمر حمادة» الماسونية والماسونيون في الوطن العربي (دمشق: دار الوثائق»‎ )٥۲( 

)١ ٤(‏ المصدر نفسه. 

(26) موفق العمري. الماسونية والبهائية (بغداد: مطبعة الحوادث؛: .)۱۹۷١‏ 

(657) حسب النص الواردء وعلامة الاستفهام منّا. 


Vo 


سيعملون تاليا مع الضباط الثوريين» ويقومون بإفشاء أسرارهم كما حدث مع ثورة 
مايس - أيار .1۹٤١‏ التي كشفت الوثائق البريطانية أنها أفشلت بعد تمكن ضباط 
ينتمون إلى المحافل الماسو نية من اختراق تنظيماتهم"" . أما في بغداد فقد كان النشاط 
التجاري يشهد تغلغلا للبريطانيين لا سابق له 


يقدّر محمد حسن سلمان أبرز اقتصاديي العراق الكلاسيكيين في دراسته الرائعة» 
التطور الاقتصادي في العراق : مئة عام من التجارة الخارجية ۱۹0۸ “۸1۸1٤‏ 
عدد اليهود العراقيين بنحو ٠١‏ ألف يبودي حتى عام ۸٤۱۹ء‏ وارتأى سلمان أن 

التجاري اليهودي فى بغداد خلال عامی ۱۸۷۸ - ۱۸۷۹ كان يسيطر بالفعل 
على جميع أشكال الاستيراد من إنكلتراء بينما كان التجار المسيحيون يتاجرون مع 
فرنسا. من ب بين أهم هذه المؤسسات التجارية اليهودية في بغداد مؤسسة شاؤول 
حيوليم حسقيل» ومؤسسة صباح سلمان ساسون وشركاه» ومؤسسة عبودي جزري 
أخوان . أما التاجر المسلم الوحيد في هذا الوقت فكان محمد سعيد الشامندر . 


واستناداً إلى تقرير وكيل القنصل البريطاني في البصرة عام ۱۸۸۷ فقد أصبحت 
تجارة الاستيراد الآن «في أي محلية فارسية ويبودية». في عام ١1977‏ كانت هناك 
عشرون عائلة بهودية يعمل رجالها كوكلاء لاستيراد الشاي من بين ٤٤‏ عائلة تسيطر 
على هذه التجارة» بينما كانت هناك 5 عائلات مسيحية فقط و۱۸ عائلة مسلمة . أما في 
تجارة المنسوجات فقد كان هناك نحو ١١١‏ تاجراً مهودياً مقابل ۳۷ تاجراً مسلماً. في 
هذا الوقت وخلال الفترة ۱۹۱۱-۱۹۰۹ أصبحت بريطانيا العظمى والهند تجهزان 
ثلاثة أرباع قيمة مستوردات العراق السنوية من الشاي“ . وبحلول العام ٠۹۰۸‏ 
أصبحت معظم تجارة التصدير في يد البريطانيين في حين تمركزت معظم فعاليات 
التجارة المحلية في يد اليهود» كما كانت أعمال الصيرفة في يدهم أيضاًء وهو ما أثار 
حنق وغضب التجار العراقيين . يعد احتلال يغداد شهد العراقيون تدابير تعسفية وفظة 
تناولت كل مرفق في العاصمة تقريباً . بيد أن الإجراءات الأكثر قسوة في هذا الوقت» 
كانت تلك الخاصة بالتدابير المالية حيث الضرائب تجبى من السكان المحليين من أجل 
بناء ملاجئ آمنة لحنود الاحتلال» وهو ما اعتبر محاولة لدفع السكان إلى الإفلاس المالي 


(1ه) انظر : حمادة» الماسونية والماسونيون في الوطن العربي» ص ,7١١‏ 

(04) انظر : حسن» التطور الاقتصادي في العراق: التجارة الخارجية والتطور الاقتصادي» ۱۸٦4‏ - 
مدل ج 1 : 4۱494-1۸714 نوارء تاريخ العراق الحديث من نباية حكم داود باشا إلى حكم مدحت باشاء 
والدليمي» «المصالح الاستراتيجية البريطانية في العراق» 14048٠‏ »ص 8 1. 

(0) حسن» المصدر نفسه؛ ص 25657 والدليمي؛ المصدر نقسه» ص 751. 


۷۹1 


والشعور جماعياً بأنهم تحت رحمة من وعدوهم بالرخاء من دون كثير أمل . وبلغت 
التدابير التعسفية ذروتها عندما أجبر السكان على التبرع لصنع تمثال للجنرال موو”*". 


في مطلع عام 1414 منحت السلطات البريطانية احتكار بيع الخمور المحلية في 
مدينة البصرة لتاجر بودي مقابل عشرين ألف روبية شهرياً . وفي هذه الأثناء کان 
البريطانيون يشجعون علا رعايا هنود بريطانيين على مد نفوذهم التجاري شمالاً حتى 
ا موصل. ومن بين هذه الشركات شركة يديرها عراقي ‏ بريطاني من أصل هندي هي 
شركة عبد العلي أخوان""". وفي هذا الصدد كان القنصل البريطاني العام في بغداد 
يرسل إلى لندن مع مطلع عام ۱۹۰۹ كتاباً یری فيه : 


«إنه شيكون من مصلحة التجارة البريطانية كثيراً إذا حصلنا على امتياز لتسيير 
السفن التجارية في غبر الفرات. إن تجربة نهر دجلة تظهر كيف أن تحسين وسائل 
ا مى اصلات يخلق د وة" . 


لم يكن التركيز على الفرات أمراً بريئاً تمامأًء أو خالياً من المقاصد والأهداف 
الأخرى خارج نطاق مسألة جني الفوائد المالية. لقد كان تعبيراً عن فكرة مزدوجة 
تصعب رؤيتها من دون تشكيك بظلالها الدينية أو الأسطورية . لا ريب أن نهر الفرات 
كمصدر من مصادر الملاحة الجديدة التي تحتاجها الإمبراطورية البريطانية » يشكل 
طريقاًء «مفتاحنا»» أمام الطريق البحري نحو الهندء لأنه سوف يعيد ربط لندن بدلهي 
عن طريق الخليج العربي» ويساعد في تسريع وصول البريد استطراداً. لكن الفرات 
من منظور مواز كانت له قيمة رمزية وروحية بالنسبة للمنظرين «اليهود؛ في إدارة 
الاحتلال البريطاني» إذ يستند هؤلاء» في بعض الأوجه الخفية للفكرة» إلى نتصوص 
توراتية يزعم أنها ذكرت الفرات بالاسم (ء فرة بالعبرية). في هذا الوقت» من 
الواضح أن الصور التوراتية الشيقة عن البدوء آخذة في إلهاب خيال كثرة من 
السياسيين البريطانيين» وبخاصة» خيال رئيس الوزراء البريطاني جورج لويد . إن لويد 
الذي أصبح محامياً للحركة الصهيونية ولهرتزل شخصياً قبل أن يصبح رئيسا للوزراء» 
هو من بين أكثر السياسيين البريطانيين الذين كانوا يعرفون أسماء الأماكن والمدن في 


التوراة» بأكثر نما يعرف أسماء المدن في أوروبا على حد تعبير مؤرخي سيره" ٠‏ بلغ 


.184 انظر: العلاف» «ثورة العشرين الوطنية القومية في العراق»» ص‎ )٠١( 

.190 الدليمي» المصدر نفسه» ص‎ )1١1( 

(1۲) المصدر نفسهء ص 54. 

(17) انظر الموامش والملاحظات؛ في : فرومكين» سلام ما بعده سلام ولادة الشرق الأوسط؛ ٠۹۱١‏ - 
101 


VY 


هوس المحامي السابق للحركة الصهيونية في بريطانياء ورئيس وزرائهاء تالياً» لويد 
جورجء بالتوراة وبالأسماء الواردة فيها حدأ مثيراً لا يضاهيه ربما سوى الاستخفاف 
بالتاريخ نفسه» مقارنة بنصوصها التي كانت في نظره بمنزلة الوثائق والمستندات .' 
كانت التوراة في نظره وثيقة تاريخية أهم من التاريخ وربما أكثر صدقية منه . 

ولذلك تراءى الفرات في مخيال لويد كما لو كان هو النهر نفسه الذي عبره داود 
عندما طارد الإرميين . الآراميين بحسب ضبط المستشرقين وإرميين استناداً إلى ضبط 
القرآن”*'2. على هذا النحو بدت له السفن البريطانية وهي تمخر مياه النهر المقدس» 
كما لو أنها سفن سليمان بن داود . وسوف يكون لهذا الخيال أثره البالغ في ترتيب 
زيارة الشخصية الصهيونية الفريد موند إلى بغداد. 


لي ذا الرقت E‏ ثلاث مدر اك مان سقوط بقةاة» اقترح المقيم البريطاني فيها 
على السفير فيإستانبول» ذ ضم الموصل إلى دائرة النفوذ البريطاني . ولاحظ في اقتراحه 
أن السبيل إلى هذا الف يعر عير امام الجمعية الكنسية التبشيرية وجمعية الإسكان 
اليهودية . وضع الإنكليز؛ وتحسباً لانبيار علاقاتهم معإستانبول عه عشية الحرب العالمية 
الأول » خطة مفصلة ومحكمة لاحتلال البصرة ثم ضم الموصل من خلال استخدام 
طاقة وإمكانية جمعية الإسكان اليهودية على التغلغل فى أوساط السكان وفى الإدارة 
العثمانية. لكن حكومتي لندن والهند رأتا أن الخطة يجب أن تكون جزءاً من خطة 
حربية عامة ضد الإمبراطورية العثمانية» لا مجرد خطة جزئية تخص اقتطاع إقليمين. 

في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر عام ١415‏ تحرك البريطانيون باتجاه البصرة من 
خلال الفيلق الأول من القوات الهندية . بعد نحو شهر سقطت البصرة (۲۲ ١١‏ - 
4ه في اليوم التالي دخل المقيم البريطاني في الخليج العربي السير برسي كوكس 
الى المدينة كرئيس للحكام السياسيين البريطانيين في العراق . في هذه الأثناء كانت 
القوات البريطانية تستكمل زحفها الى الشمال من المدينة في منطقة القرنة ثم باتجاه 
العمارة . بيد أن الحملة سرعان ما تعثرت في الكوت . وتطلب الأمر : نحو ثلاثة أعوام 
أخرى قبل أن تتمكن قوات الاحتلال من الاستيلاء على بغداد. 

يروي شاهد عيان”*"2» عاش لحظات سقوط بغداد فى قبضة الجنرال مود» لحظة 
بلحظة» كيف أن الإنكليز عمدوا إلى ضرب ركائز التجارة الداخلية وتفكيكها من أجل 


0 )انظر: كمال الصليبي» التوراة جاءت من جزيرة العرب» ترجمة عفيف الرزاز (بيروت: مؤسسة 
الأبحاث العربية» .)١1946‏ 


)٠٥(‏ انظر الطوامش والملاحظات في : موسى الشابندر» مذكرات موسى الشابندر (بيروت: دار رياض 
الريس للكتب والنشر» ۱۹۹۲). 


YA 


إعادة إنشاء شبكة تجارية يسيطر عليها اليهود. يقول موسى الشايندر الذي سوف يصبح 
في الأربعينيات من القرن الماضي وزيراً للخارجية في حكومة رشيد عالي الكيلاني 
المعادية للإنكليزء إنه كان صغيراً عندما دخل البريطانيون بغداد» ولكنه أدرك في وقت 
مبكر ما الذي عناه الاحتلال. كان والد موسى يدير الشركة الإسلامية للمفروشات» 
وقد استعد في اليوم الثالث من سقوط المدينة لتفقد أحوال شركته ودكاكينها المحترقة» 
ومن بينها المعرض الرئيس في سوق السراي في قلب العاصمة المحتلة . 

ولذاء اصطحب معه ابنه الصغير موسى إلى هناك . فور وصوله أبلغه العاملون 
فى الشركةء أن الوالي التركي أرسل قبيل الفرار نحو ١7‏ قطعة من المفروشات العائدة 
للحكومة التركية لحفظها كأمانة. لكن كل شىء كان قد احترق؟ أخذ والد موسى 
طريقه إلى الحاكم البريطاني السير برسي كوكس وأبلغه بالأمر. وكما كان متوقعاً فقد 
زوده كوكس بكتاب إلى الجنرال مود حول حكاية القطع المتروكة كأمانة» وأبلغه - 
زيادة على ذلك أن وكيل الوالي التركي في بغداد طلب» في وقت سابق من 
الأحداث» من صاحب الشركة الإسلامية بيعه ٠١‏ قطعة من المفروشات» وان أصول 
عملية البيع والشراء تمت بحضور القنصل الأمريكي . 


بعد نحو شهر واحد فقط من سقوط بغداد (وفي © نيسان/ أبريل) كان موسى 
برفقة والده داخل المعرض الرئيس للشركة الذي احترق كلياً عندما وصل» في تلك 
اللحظات. المفتش التجاري البريطاني المستر (5000). أجرى المفتش محادثة ري مع 
والد موسى» فهم منها الصبي أن الأمر يتعلق بالأمانة أو الممتلكات العائدة للأتراك» 
والتي أودعت في الشركة الإسلامية وأن البريطانيين يريدون استردادها. دار الحديث 
بين المستر (5008) ووالد موسى حول هذه النقطة بالفعل . ولكن عبثاً حاول الرجل 
إقناع المفتش البريطاني أن كل شيء احترق بسبب القصف الجوي» وأن لديه كتاباً من 
كوكس بهذا الشأن. يقول موسى الشابندر : إن المفتش رفض المبررات وطالب والده 
بدفع مبلغ ألف ليرة هي كامل رأسمال الشركة" : 

«وهنا كان الخطأء فقد اعتمد والدي على العدالة البريطانية وعلى الحق» ولم 
يعالج الأمر بصورة عملية وكان من جراء ذلك أن أمر المستر سون بتوقيف والدي 
وحجز جميع محلاته التجارية وأمواله وكانت هذه مؤامرة محكمة دبرها كوركيس 
والخضيري وبعض اليهود' . 


لم يدرك موسى الشابندر حتى وهو يكتب ذكرياته هذه ويسترد بأم وأسى 
(11) الشهبندرء مذكرات وخطب [الأعمال الكاملة]. 


۷۹ 


واقعة إفلاس والده والزج به في السجن ومصادرة ممتلكاته من دون أي ذنب» أن 
تصرف المفتش البريطاني لم يكن جرد إصرار أحمق على التعامي عن رؤية الوقائع كما 
هي ؛ بل كان جزءاً من استراتيجية الاحتلال : تحطيم وتفكيك الركائز التجارية 
التقليدية في بغداد تمهيداً لتطبيق شعار : بغداد اليهودية . 

كانت فكرة تحويل بغداد إلى مدينة يهودية تستند إلى سلسلة من الدراسات 
الإستشراقية الاستعمارية في الميدان الاقتصادي. والقائلة: إن النشاط التجاري في 
بغداد يقوده التجار اليهود في الأصل» وإن تحسين وتطوير ظروف هذا النشاط 
وتمكين اليهود من لعب دور مركزي أكثر نشاطاً وفاعليةء سوف يكون ضرورياً 
لتحقيق تغيير شامل في الطابع التاريخي لبغداد» التي يجب انطلاقاً منها تهويد العراق 
واسترداد بابل وذكريات السبي البابلي. يجب أن تتحول صورتها من مركز للخلافة 
الإسلامية إلى مدينة يهودية يقود التجارة فيها ويمسك بعصب الحياة فيها حفنة من 
التجار اليهود. بكلام آخر» جرى تخيل بغداد في صورة مكة جديدة لا يعوزها سوى 
وجود قريش يهودية تقود تجارة الإيلاف فيها بين القبائل العربية . وما كان لهذا الأمر 
أن يتم من دون استخدام كل ذريعة وأي ذريعة ممكنة» لتحطيم تجار بغداد ودفعهم 
إلى الإفلاس والسجون أو الإفقار. بعد نحو ثمانية أشهر فقط من سقوط بغداد 
سقطت القدس في يد الجنرال أللنبي . في هذا الوقت وقف رئيس الوزراء جورج 
لويف لول اتام جد من اللوردات وأعضاء اس الوم البريطاني كلمته الشهيرة : 
«بريطانيا هي أداة الله في يد اليهود”"'' وطوال الأشهر الثمانية وما بعدها بقليل لم 
يبدأ الجدل فى الأوساط السياسية والعسكرية فى لندن وبغدادء حول النقطة ذاتها: 
إن بغداد مدينة يهودية . ١‏ 


إن اللازمة التي يكررها من دون ملل كتاب وباحثون يهود من أصول عراقية» 
تدور حول هذه النقطة على وجه التحديد. مثلاً يكتب كل من سامي زبيدة وإسحق 
نقاش (1443)""' أن اليهود في العراق كانوا القوة التجارية الضناربة حتى أثناء 
ا وأن هذا الدور انحسر بترحيل اليهود في الحمسينيات ليحل لهم 
تجار شيعة"" . في هذه الأجواء حدثت أولى الصدامات مع الاحتلال البريطاني . لقد 


(7107) فرومكين» سلام ما بعده سلام ولادة الشرق الأوسط› 11 الاؤل. 

(18) انظر الموامش والملاحظات» في: سامي زبيدة» الإسلام ‏ الدولة والمجتمع . ترجمة عبد الإله 
النعيمي (دمشق : دار المدى» 2»)١446‏ وإسحق نقاش» شيعة العراق» ترجمة عبد الإله النعيمي (دمشق: 
منشورات المدىء 55 1) 

(19) انظر مناقشة فاضل الربيعي لأطروحة زبيدة ونقاش» في : فاضل الربيعي» الجماهيريات العنيفة 
ونهاية الدولة الكاريزمية في العراق (دمشق : دار الأهاليي 0( 


م٠‎ 


اكتشف العراقيون بسرعة أن التحرير البريطاني من الاستبداد التركي» لم يكن أكثر من 
خدعة استعمارية كبرى جرى تمريرها بقدر من السهولة . في ذلك الوقت كان 
العراقيون» وبكل تأكيدء في أمس الحاجة إلى المال والعتاد والسلاح والرجال 
والخبرات القتالية لكي يتمكنوا من قيادة وتنظيم أي مجايبة فعالة للاحتلال . ومع ذلك 
نجحوا في تطويق المشروع الاستعماري البريطاني جزئياً بعد ثلاث سنوات فقط . 

ولذلك؛ فإن دراسة حملة الجئرال مود» من هذا المنظورء وفى حدود اهتمامات 
هذه الدراسة» سوف تمكننا من التعرف بعمق اكبر على المغزى الحقيقى لما سنطلق عليه 
هنا: أفغنة العراق؛ أي تخيّله في المنطاب الإمبريالي الجديد امتداداً لأفغانستان. وهذه 
ستكون خطوة أخرى ضرورية صوب الكشف عن المضامين الفعلية» والأكثر جوهرية 
لا بعد الاستشراق؛ وبالتالي تطوير رؤية خلاقة تعيد بناء الرواية السائدة عن 
الاحتلال» ومغزى التحول أو الانقلاب المثير فى الخطاب السياسى الأمريكي» لا 
تجاه العراق وحده؛ بل وتاه العالم العربي والإسلامي . 1 , 

إن التأمل في الخطاب الأمريكي السائد سوف يكتشف ببساطة استمرارية في 
خطاب استعماري قديم بدأه الجنرال البريطاني مود عند دخوله بغداد مُنتصراً. . لقد 
حظي هذا الخطاب بقدر وافر من التحليلات التي اهتمت بشعاراته ووعوده؛ بيد أن 
العودة إليه مع عودة الاستعمار القديم إلى بم راه في العام العربي» علناً أو 
بالتسلل أو بالاحتلال المباشرء تظل ضرورية وملحة من أجل الكشف عن الجوانب 
الخفية في المشروع الكولونيالي البريطان» ويشكل اخم الكشفف عن الرايظة الحقية 

بين التحرير من الاستبداد وما بعد الاستشراق. إنه لمن المثير حقاً أن ترتبط روح 
التحرير «الشريرة» هذهء مع الرغبات الاستعمارية الجامحة للتلاعب بتركيبة البلاد 
الثقافية والتاريخية. مثل هذا الترابط الوثيق هو الذي يقودنا إلى رؤية ما بعد 
الاستشراق بكل أببته الزائفة. إثر نجاح حملة الجنرال مود في البصرة» ودخوله وهو 
يحمل بيانه الشهير عن التحرير والحرية والقضاء عل الاستبداد التركي» والذي سوف 
يلقيه في بغداد. تفجر وبصورة مبكرة وغير متوقعة التنافس المحموم بين الشركات 
الأمريكية والبريطانية» والذي سرعان ما انطلق بين الحلفاء غير المرئيين من أجل 
الفوز بنصيب الأسد من مشاريع الإعمار وإعادة بناء ما هدمته الحرب . 

كانت الشركات الأمريكية تترقب ب الفرصة السانحة لتقدم نفسها شريكاً قوياً 
للبريطاتيين» وهي حظيت بدعم سياسي مباشر من ساسة الولايات المتحدة 
الأمريكية وأوروبا بأسرها. بيد أن الشركات الأمريكية سرعان ما أصيبت بالصدمة 
وخيبة الأمل؛ إذ يبدو أن التنافس كان يتجه إلى النهاية لصالح الشركات البريطانية؛ 
ومع ذلك لم يكن ثمة ما يشكل عائقا أ أمام الصحف الأمريكية ودوائر الدعاية» لكي 


۸١ 


تقدم دعماً إعلامياً قوياً ومباشراً للخطاب الاستعماري البريطاني. وأتضح أن 
الأمريكيين كانوا يطحنون الهواء. ففي ذلك الوقت اشتكى السفير الأمريكي علناً 
وبمرارة من هيمنة حلفائه البريطانيين على سائر المشاريع العمرانية» وهذا ما يُمائل» 
ولكن بالمقلوب» الوضع الراهن للشركات البريطانية التي راحت تشتكي من هيمنة 
a u‏ . وفي سعيها للحصول على نصيب معقول من مشاريع إعادة 
الإعمار في العراق؛ لم تكف الشركات الأمريكية عن الشكوى»ء حتى أن السفير 
الأمريكي في بغداد الذي وصل للتوء ندد بغطرسة زميله البريطاني قائلاء إنه 
يتصرف كحاكم مطلق الصلاحيات. ومع ذلك أيضاً؛ فإن التنافس المرير لم يكن 
ليضعف أو بہتز . 


على العكس من ذلك تلقى الخنطاب الاستعماري الدعم المطلوب حتى من أشد 
منافسي لندن. وكما هو الحال مع السفير بريمر الذي كان يمشي بخيلاء في القصر 
الجمهوري كسيد مطلق الصلاحيات عام 27٠١٠"‏ فقد تصرف على النحو ذاته وقبل 
أقل من قرن» وبالقدر نفسه من الغطرسة سيد سابق من سادة بغداد هو السفير 
البريطاني «روكها كاد ناك ایا الطراق الذي امس ا ارت رو 
شركاتهم في تنفيذه في عصر الاستشر شراق؛ فإنء ما بعد الاستشراق» عرف مجلساً 
ها إعادة إعمار العراق وهذه المرة مهبيمنة أمريكية مُطلقَة . . مع حلول عام ۱۹۲۸ 
أدرك العراقيون بعمق أن خاوفهم من (تهويد بغداد) لم تكن ضرباً من الهلع الجماعي 
وحسب؟ بل كانت في صميم إحساسهم بأن بلادهم باتت عرضة لصنوف شتى من 
التخيل . 

في الثامن من شباط/ فبراير علمت مجلة الشرق الأدنى أن الفريد موند أحد أبرز 
زعماء الحركة الصهيونية يعتزم زيارة العراق. وعلى الرغم من التكتم الشديد الذي 
أحاط به البريطانيون خبر الزيارة؛ فإن أنباءها تسربت إلى العراقيين عن طريق أستاذ 
عراقي يعمل مدرساً في مدرسة التقدم التابعة للطائفة اليهودية. وعلى الفور تجمهر 
الطلاب في شارع الرشيد ونظموا مظاهرات احتجاج عارمةء ثم زحفوا من هناك 
باتجاه شارع المتحف ليسيطروا على الطريق المؤدية إلى جسر الخرّ» حيث توقعوا مرور 
الموكب . 

وفي تحذير نادر حملته إحدى الصحف (الزوراء) في 4 أيلول/ سبتمبر» تمت 
الإشارة بوضوح إلى الدور النشط الذي تقوم جمعية (اتفاق إسرائيل في بغداد) التي 
استأجرت مقراً لها في قلب العاصمة العراقية وقامت بتوظيف عدد من معلمي اللغة 
الفرنسية والإنكليزية . في اليوم التالي رفع الطلاب مذكرة احتجاج إلى حكومة عبد 
المحسن السعدون قالوا فيها (إن مظاهرة ۸ شباط/ فبراير ليست من الحوادث المخلة 


A۲ 


بالنظام العام وسلامة الدول لأن المظاهرة قامت احتجاجاً ضد الصهيونية)'" اللغة 
ذاتها والأبطال أنفسهم. ولكن العصر هو الذي تغير» ومعه تغيرت الأدوار وتبدلت 
أشكال ونسب القوة والحجم والطاقة على الهيمنة بين المتنافسين المتحالفين. لقد عادوا 
إلى المسرح نفسه ليلعبوا الأدوار ذاتبا وليدخلوا من جديد في التنافسات المحمومة 
وغير الأخلاقية» وليثيروا- من جديد أيضاً ‏ الموضوعات المُلحة نفسها في 
المجتمعات نفسهاء التى ظلت من دون حلول عملية لمشكلاتها المتوارثة والمستمرة 
ياستمرارها. : 

ما نشاهده اليوم من سجال في أوساط النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية 
والثقافية حول الإصلاح والديمقراطية في المجتمع العربي» من مصر مروراً بالسعودية 
وسوريا والعراق وبلدان شمال أفريقياء هو بكلام مختصر: حدث سبق أن حدث . 
ليست المشكلات وحدها هي المتماثلة أيام العثمانيين وفي أيامنا هذه» وبكل تأكيد 
ليست الموضوعات التي أثيرت في الماضي ويعاد إثارتها اليوم هي ذاتهاء وتماماًء 


)٠١(‏ انظر : المفصّل في تاريخ العراق المعاصر. أشارت دراسات وبحوث متعددة إلى هذه الوقائع ومن 
الأفضل العودة إليها كلها لا إلى بحث واحد من أجل تكوين صورة دقيقة ومتكاملة. 


' AT 


الفصل الثاني 
هوس تخيّل العراق 


أولاً: مشكلة مفاهيم 


«على أن الاحتقار» وغالباً ما يجري نسيان ذلك» هو شيء ملازم للاستعمار. 
وقد قرأت مؤخراً كتاباً عنوانه : فلتبيدوا جميع هؤلاء المتوحشين. يوضح الكاتب في 
هذا الكتاب أنه يجب أن نبحث في الاستعمار عن أصول فكر إبادي . وهو يستشهد بين 
كثيرين بالفيلسوف الليبرالي هربرت سبنسر الذي كتب في عام 181١‏ أن الإمبريالية قد 
خدمت الحضارة : «إن القوى التي حققت المشروع العظيم الخاص بتوفير السعادة المثل 
لا تراعي البتة المعاناة ذات الأهمية الثانوية» وهي تقضي على تلك الأقسام من الجنس 
البشري التي تقف في طريقها». ومؤخراً ذكر مقال منشور في آب/ أغسطس ٠٠٠١‏ 
في لوموند ديلوماتيك أن «حدائق حيوانات بشرية) لعرض نماذج من «أقوام 
المستعمرات» كانت موجودة في فرنسا إلى الثلاثينيات من القرن العشرين»*'“. 


مع الاستعمار البريطاني للهند فالعراق وفلسطين على التوالي سطع عصر 
الاستشراق بكل أبهته؛ حيث جرى تكريس سلسلة متراكبة ومعقدة من المشكلات 
المتصلة بالمفاهيم والمصطلحات . هذه المفاهيم التي بدأت» هي الأخرى تشع في كل 
مكان وتبدو لمن يستخدمهاء وبخاصة أولئك الذين كانوا يبشّرون فيها بتكلف زائد» 
وبذخ في الكلام شبيه بالثرثرة» دليلاً على الانسجام مع «روح العصر». ثم سرعان ما 
راحت المفاهيم الملتبسة تعم العام العربي كله من أقصاه إلى أقصاه. إن النموذج 
العراقي الذي ندرسهء هناء سوف يبن بوضوح كاف إلى حدٍ ماء كيف أن البريطانيين 
قدموا تصورات من طبيعة استشراقية خالصة لحملة المشكلات التي واجهتهم في بلاد 
ما بين النهرين» وذلك من خلال إطلاق وتعميم سلسلة من المفاهيم والمصطلحات 
المتناقضة والملتبسة . وحتى اليوم» فإن اسم «بوتساميا» لا يزال يُطلق في معظم اللغات 
الأوروبية (الهولندية مثلا) على العراق القديم كرديف لاصطلاح بلاد ما بين النهرين» 


- انظر: آلان جريش وطارق رمضان. حوار حول الإسلام: تفعيل واستهلال فرانسواز جرمان‎ )١( 
«Ces zoos humains de la républiquey «(°° روبان» ترجمة بشير الباعي (القاهرة: دار العالم الثالث»‎ 
coloniale,» Le Monde diplematique (août 2000). 


AY 


الذي ظل البريطانيون يستخدمونه طوال عقود في المراسلات الخاصة والسرية بين 
المكتب العربي في القاهرة ووزارة المستعمرات» ومع قيادة الجيش الهندي البريطاني 
أيضاً في سياق تعريف البلد الذي تم احتلاله . كان العراق التاريخي بالنسبة إليهم هو 
«بوتسامياً أو هو في أفضل الأحوال «بلاد ما بين النهرين؟ المؤدية إلى الهند وحسب . 

وفي كلمة «بوتساميا» هذه يمكن لنا أن نعثر على شظية محرفة قليلاً من كلمة «سامية» 
سامي» المستوحاة من التوراة . إنها بلاد «ساميين» غير متعينين يمكن اعتبارهم «يهوداً 
بحسب مقتضيات التوظيف الاستشراقي وحاجاته. 


ولذلك» تجلت معضلة المفاهيم» وسلسلة الالتباسات الناحمة عنهاء في الثقافة 
كما في ميدان الدراسات الاجتماعية والاقتصادية كمعضلة أنطولوجية (تصنيفية ومن 
الدرجة الأول)؛ في البحث المحموم عن تعريف استعماري جديدء مغرب ولا يمت 
لتاريخ البلاد التي وقعت في قبضتهم بأي صلةء أو لنقل» في أدنى الحاللات» بصلة 
واهية ؛ تماما كما فعل الآباء الأوائل للكولونيالية عندما أطلقوا اسم أمريكا على أرض 
الهنود الحمر التاريخية» وقاموا بتعميم صورة الهندي الأحمر الشرير والعدو على نطاق 
العالم كله . كما تجلت هذه المحاولات شبه اليائسة» أكثر من أي شيء آخرء في نطاق 
فرض حلول لمشكلة الأرض» لا صلة لها بمشكلات الواقع الزراعي والاجتماعي. 


إذا كان البريطانيون» واجهواء مثلاً» ومنذ وقت مبكرء ضروباً متفاوتة القوة 
والتأثير من المقاومة لمشروعهم الاستعماري في العراق» وبالطبع من جانب تحالف 
طبقي فضفاض ؛ وإذا كانوا قد واجهوا المشاكل بعامة» السياسية والاجتماعية والثقافية 
منها بحلول مبسطة تتخطى عن قصدء أو جهل الطبيعة المعقدة والمتراكبة التي ميزتها؛ 
بل وتتخطى ال حاجة الملحة لخطط وتصورات فعالة لمواجهتها بجرأة» كما هو الحال مع 
مشكلة الأرض (الملكية الزراعية» التسويات القانونية للمنازعات العشائريةء أشكال 
التعامل اليومي مع سكان الأرياف. فحص ومتابعة سلوك الجنود مع الفلاحين 
والشيوخ الخ . . ) فإن الشكلة الأهم والأكثر خطورة والتي كانوا في مواجهتها كل 
يوم وكل لظة؛ إنما كانت مشكلة اللفاهيم الزدوجة واللخبسة التي أشاعوها في 
البلاد. مثلاء مقابل شعار «التحرر من الاستبداد» كانت هناك على الأرض مفاهيم 
ومصطلحات سياسية تؤدي إلى تجذير احتلال هو الأكثر قسوة وعنفاً من بين سائر 
أشكال تطبيقه على الأرض» وذلك بهدف تسريع الانتقال الشكلي من الاحتلال 
المباشر إلى مرحلة الانتداب بموافقة وغطاء أوروبيين (مؤتمر ايطاليا) . ومقابل دعاوى 
الإصلاح التي أطلقها الليبراليون العراقيون بحماسة زائفة مشبعة بالأوهامء وبدعم 
مباشر من موظفي الإدارة» كانت هناك مفاهيم ومصطلحات تجسد السياسة الترقيعية 
في الاقتصاد والصحة والتعليم والمنازعات حول الأراضي في الريف. 


AA 


مقابل الحاجة المجتمعية الملحة إلى المدنية والتحديث بحسب وعود الجنرال موده 
كانت هناك مفاهيم أخرى تفضي بمجملها إلى سياسة تسويق أو تكريس التخلف في 
والتحديث» وهي تبزغ مع عصر الاستشراق الكولونيالي في سماء مجتمع ظل يصارع 
نحواً من قرن كامل من أجل اللحاق بالمدنيات الحديثةء ويتطلع بحسرة إلى دول الجوار 
ويرى التقدم (في إيران وتركيا بشكل خاص) وقد أصبح حقيقة لا خيالاً؛ تختلط 
بمفهوم الاحتلال نفسه وتغدو شيئاً فشيئاً مع فشله في الدفاع عن مفاهيمه ونظرياته 
التي جاء بهاء كما لو كانت» في الأصل» مفاهيم منفصلة عن عالم الأرض . 

كانت هذه المفاهيم» بمجملهاء في نظر الأغلبية في المجتمع العراقي» نوعاً من 
سراب أو وهم. وباستثناء النخب الفكرية والسياسية والثقافية» المعزولة والمشبعة 
بالأوهام عن نفسها وعن الواقع» وبخاصة جوقة الشعراء والكتاب والقصاصين 
والأدباء والخطباء الذين كانوا يقفون» كما تقول المس بيل في انطباعاتهاء في شكل 
طوابير طويلة تنتظر دورها للقاء رئيس تحرير إحدى جرائد الاحتلال من أجل نشر 
قصائد وكلمات مديح رخيصة؛ فإن أحدا في المجتمع لم يكن مستعداً لتبرير تنصل 
البريطانيين من وعودهم أو حتى تصديق وعودهم الجديدة. وحدها النخبة العراقية 
كانت غارقة في الوهم حين هللت لوعود ومصطلحات الحداثة والإصلاح والحرية 
التي كانت تبدو ذات تأثير سحري يخلب الألباب. إن مفهوم التحرر من الاستبدادء 
الذي عبر عنه خطاب مود ببلاغة نادرة» بوصفه الباعث الوحيد لاحتلال العراق» للا 
المصالح الاستراتيجية الاستعمارية» يمثل نموذجاً صارخاً وساطعاً في قوته التخيلية 
لمفهوم المساعدة من الخارج من أجل مواجهة استبداد الداخل . 


انطلق هذا المفهوم من فكرة زائفة وتحريفية» تقول بأن الدافع الوحيد للاحتلال 
هو بَرَم البريطانيين وإحساسهم بالضيق جراء استمرار ظلم الأتراك للعراقيين» وأن 
حكومة صاحب الجلالة والقوى المتحالفة معها شنوا الحرب من أجل أن تتحقق (ما 
تطمح إليه نفوس فلاسفتكم وكتابكم . ولسوف يسعد أهالي بغداد حالاً بالغنى المادي 
والمالي وبفضل نظامات ‏ أنظمة ‏ توافق قوانينكم وأطماحكم ‏ طموحاتكم ‏ القومية) 
بحسب ما جاء في نداء الجنرال مود RE AG ORE‏ 
وجد صدى مذهلاً في أوساط بعينها من النخبة الفكرية والسياسية والثقافية العراقية ؛ 
وذلك عندما تبارى الشعراء للترحيب «بفاتح بغداده وفي مقدمهم الفيلسوف الشاعر 
جيل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي واللغوي الشهير الأب أنستانس الكرملي؛ 
بينما على الضد من ذلك جوبه بشىء من التشكيك والصدود من رجال الدين والأدياء 
الوطنيين المتدينين . 1 


۸۹ 


كان ارتباط مفهوم التحرير بجلب الفوائد المادية المباشرة والغنى الالي للأسر في 
بغداد» مماثلاً من حيث قوته التمثيلية» لارتباط مفهوم توافق الأنظمة الجديدة مع 
مفهوم الحفاظ على الخصوصية . لقد جاءت الكولونيالية البيضاء بنفسها من أجل حل 
كل مشكلات المجتمع الشرقي والحفاظ على خصوصيته التي تحدث عنها الخطاب . إنه 
نوع من ترقيع نموذجي يجمع بين التناقضات في إطار مشترك» > فهو يضع الاحتلال 
واحترام الخصوصية في سلة واحدة. ولم يكن كل هذا صحيحاً أو حقيقيا أو مكناً. 
لقد كان حض تصورات خيالية لحلول خيالية ؛ فلا استراتيجية التحرير كان يمكن لها 
أن تظل قادرة على الاحتفاظ بقوة زخها الأخلاقية» بما هى سياسة تفكيك أغلال بلد 
مستعبد حسب مزاعم الخطاب» ولا سياسة تطبيق التشريعات الغربية بكل جاذبيتها 
الديمقراطية وإغرائها الليبراللي؛ أو قوتها وطاقتها على إحداث تغيرات بنيوية في 
المجتمع هي سياسة مطروحة من الأساس . على الأقل لم يكن البريطانيون في وارد 
تطبيق مفهومهم للديمقراطية في بلدٍء أبدى بعد أقل من عامين من الاحتلال» مشاعر 
عداء ومخاصمة عنيدة يصعب تخطيها. 


وهكذا نشأء وفي وقت مبكر» تناقض مدمر للمفاهيم من قلب التعارض 
المكشوف بين استراتيجيات الاحتلال وتكتيكات التحرير المخادعة. بالنسبة 
للمجتمع » > لا النخب الغارقة في الأوهام» فقد كان التحرير بكل معنى الكلمة شيئا 
خيالياً غير قابل للتصديق؛ بينما كان الاحتلال على الأرض شيئاً واقعياً قابلاً لأن 
يُلمس . ومادام احتلال العراق مصمماًء في الأصل» لأغراض واستراتيجيات أخرى 
بعيدة المدى تتعلق بفلسطين والهند كما سوف نبينُ ؛ فإن الحل الهندي كان فى هذه 
الحالة على الأقل» وبالنسبة إلى الفلاحين والمزارعين المقهورين الذين يشكلون الطبقة 
الأكبر في مجتمع فلاحيّ؛ خارج كل إمكانية للتوافق مع الخصوصية العراقية. 


لم يكن الإقطاعيون في الريف الفقير» من قبل» على هذه الدرجة من الفساد؛ 
ولم يكونوا فاسقين وفاجرين وشرسين كما هو الخال في عهد الاحتلال . في الواقع 
زادهم الاحتلال شراسة وفساداًء وبخاصة في السنوات الخدر العالية . في هذا الإطار 
كان هناك مفهوم ملتبس لاإصلاح»› نادى به البريطانيون» وقدّموه كهدف من 
أهدافهم وساروا فيه إلى النهاية بموازاة خطط الاستثمار الزراعي التجريبية . وحين 
جرى تذكير العراقيين بالوعود التي قطعها الأتراك على صعيد تطبيق وتبني إصلاحات 
جار في التعلبي والعتخة وال دار العامة وأن هؤلاء نكثوا وتخاذلوا عن التزامهاء 
وأن البريطانيين إنما جاءوا من أجل وضع هذه الوعود موضع التطبيق؛ فإن دليلاً 
واحداً وقوياً على الطبيعة لم يقدم قط . فهل كان الإصلاح» حقيقة» استراتيجية قابلة 
للتحقق؟ اصطدم مفهوم خلق عراق ديمقراطي يكون امتدادا لهند ديمقراطية › ومنذ 


ل ۹ 


اللحظة الأولى التي ولد فيها شعار «التحريرة مع سقوط بغداد في قبضة الجنرال مود؛ 
بحقيقة أن هذا المفهوم هو مفهوم خيالي وملتبس هو الآخرء إذ كيف يمكن بناء 
نموذج ديمقراطي آسيوي قابل للاستنساخ والتطبيق في بلد آخرء وفي الآن ذاته 
الحفاظ على خصوصيته الثقافية ؛ بينما يجري التعامل مع مجتمعي البلدين في الأن ذاته 
أيضاً بوصفهما مجتمعين محتلين أو بوصفهما مستعمرتين؟ هذا التناقض السافر بين 
#مفهوم التحرير» و«سياسة الاحتلال» هو الذي أثار نقاشاً صاخباً في أوساط النخبةء 
حين دفعت بها تطورات الأحداث والظروف إلى التأمل في أوهامها . 


وبينما ثار نقاش حقيقي حول الاحتلال آم التحرير؟ في سنوات ١93117‏ 
° تفجر سجال ممائل حول مدى توافق القوانين الهندية مع الخصوصية 
العراقية؟ وفي موازاة ذلك أثيرت مسألة نقل خصوصيات مجتمع إلى مجتمع آخر. هل 
كان الأمر ينطوي على نوع من خداع استراتيجي؟ كان إنشاء عراق هندي» على 
مستوى السياسة الزراعية والتجارة والتوطين واعتماد القوانين» يصطدم بمشكلة 
تدمير فظيعة وعديمة الرحمة» لا للخصوصية الوطنية وحدهاء وإنما للمصالح الوطنية 
العامة» ومصالح طبقات اجتماعية بأكملهاء وذلك» من خلال تطبيق أنظمة وقوانين 
وحلول تم استنباطها لتعالج مشكلات مجتمع آخرء لا يمت للمجتمع العراقي بصلة 
على مستوى الثقافة الروحية» أو اللغة» أو التاريخ, كما لا توجد روابط جغرافية 
مباشرة بين النموذجين يمكن أن تجعل هذا التماثل قابلاً للتصديق والقبول؟ 

وأخيراًء نشأ تناقض داخل منظومة المفاهيم حول النموذج العراقي: هل هو 
امتداد كولونيالي لمستعمرة أخرى هي الهندء أم هو امتداد ديمقراطي لها؟ 


ثانياً: خطاب الحرية في حملة الجنرال مود 


7 ومذا ما جعلنا تأنس إليهم عل الرضم من خشونة طبعهم. وفي ا حميقة لقد بدا 

أنهم من الشراسة بحيث يمك نأن يذبحوا الإنسان م نأج لأزرار صفراء على ثيابه والتي 
لاشك سبوا فهباً. . . » 

الرائد تويدي7") 

في الصور النمطية الأولى للبدو كما تراءت في مرآة الاستشراق الإنكليزي؛ لا 

مناص من رؤية «الشرقيين» في هيئة قتلة يستعدون لممارسة هوايتهم في قتل 


(۲) مقتبس من: "تقرير عن رحلة إلى «أبو غريب» وهيت وتكريت وكركوك والرمادي شتاء ۱۸۸1 - 
AAV‏ 


۹۱ 


الأوروبيين› جرد الاشتباه فى أن «الأزرار الصفراء يمكن أن تحسب خطأ وكأنها 
ذهب6. قبل أن يكتب تويدي هذه الانطباعات الجارحة» کان قد خلف مستر بلاودن 
كمفوض بريطاني» وذلك في مطلع عام 6 . وفور التحاقه بعمله الجديد كاد 
تويدي يتسبب في أزمة حقيقية مع الأتراك لإصراره على القيام بجولة في «المدن 
المقدسة «الكاظمية وكربلاء والنجف» لأن هناك جاليات هندية كبيرة وعديداً من 
الحجاج الهنودء وأن صلاحيات وترتيبات حماية هؤلاء من قبل تمثل فخري وغير 
رسمي في كربلاء تعتمد على الإشراف الفعال للقنصل العام البريطاني في بغدادء 
وهو إشراف لا يمكن ممارسته من بُعد». ذلك ما كتبه تويدي يخاطب به السفير 


وعلى الرغم من أن السفير و. وايت. اقترح في مواجهة اعتراضات الأتراك 
على الرحلة «الاستشراقية»؛ أن من الأنسب استبدالها برحلة تقود الضابط الشاب إلى 
«أبو غريب» والرمادي وتكريت وهيت وصولاً إلى كركوك والسليمانية إذا شاء؛ فإنه 
ظل مصراً على أن من واجبه «الإشراف على الجالية الهندية وعديد الحجاج الهنود في 
المدن الشيعية . جمع الرائد تويدي خلال رحلته هذه؛ وسواها من الرحلات المنتظمة 
التالية» كمية هائلة من «المعلومات المفيدة» والقيمة. وفي عام ١4814١‏ حصل على 
مرتبة «مقيم» وتسلم مهام الإشراف على أموال «وقف اوض٠‏ - انظر الفصل التالي -. 

في هذا الوقت ت تقريباً لم تجد إحدى الرحالات الإنكليزيات ما تكتبه بابتهاج 
سوى وصف مقر المقيمية البريطانية في بغداد التي أنشئت على الضفة الشرقية من نهر 
دجلة . «إن أكثر الأماكن ببجة في بغداد حقاً هي المقيمية البريطانية ؛ فإنها بيت قديم 
وجميل بُني حول ساحتين كبيرتين وله واجهة طويلة على النهر؛. لكن السائحة 
الإنكليزية المبتهجة لم تلاحظ أن هذا البيت الجميل كان ملكاً لنواب أقيال الدولة قبل 
عام ۱۸۸۷ . وكان لذلك مغزى شديد الأهمية عند دراسة العلاقة بين أموال هذا 
الوقف ودرجة»› وحدود السيطرة البريطانية على طرق توزيعه على المجتهدين الشيعة 
في المدن المقدسة ؛ هذه التي ظل الرائد تويدي مصراً على زيارتها بانتظام . في السادس 
عشر من شباط/ فبراير ۱۹۱۷ وبعد نحو عشرين عاماً من التاريخ أعلاه شرع ا 
مود د بتطبيق خطته الحربية لاحتلال بغداد . تقدم الجنود البريطانيون عبر ستار كثيف 
من نيران مدفعية الإسناد؛ إلى درجة لم يتمكن فيها جندي عثماني واحد من الصمود 
عند الضفة اليمنى من دجلة . في ليلة ۲۲ و77 زحف الجنرال مود وعبر دجلة من 
دورة شمران الواقعة على بعد اثني عشر كم غرب الكوت (محافظة واسط اليوم) مجتازاً 
الطريق من خلف خطوط الأتراك. في الصباح تمكنت فرقة الخيالة والفرقة ؟١‏ من 
عبور النهر. وعندئذٍ قرر الأتراك الانسحاب نحو بغداد للدفاع عنها. في صباح 


۹۲ 


الثامن من آذار/ مارس نصب البريطانيون جسراً على دجلة جنوب مصبٌ ديالى؛ بينما 
شرعت الفرقتان السابعة والخيالة في العبور إلى الضفة اليمنى لتحصلا على أول تماس 
عسكري مع المواضع العثمانية”"'. قرر العثمانيون الانسحاب باتجاه خط الكرادة - تل 
محمدء تاركين يغداد وحدها في مواجهة القدر؛ بيتما صدرت الأوامر للجنود 
البريطانيين بالتوجه صوب الكاظمية . في العاشر من الشهر نفسه أخلى العثمانيون 
مواقعهم في بغداد. في هذا الوقت وبعد يومين فقط من هزيمة العثمانيين تلقى مود 
أخباراً طازجة عن اندلاع الثورة البورجوازية في روسيا (۱۲ آذار/ مارس ۱۹۱۷) 
كان الروس يطاردون القوات العثمانية في العمق الإيراني وفي مدينة همذان عندما 
تبلغوا الأنباء نفسها. شعر مود بالسعادة وهو يرى منافسيه الروس وقد خرجوا من 
السباق نحو بغداد. وفي خطابه إلى العراقيين فور سقوط بغداد تحدث الجنرال عن 
أمور سوف تعتبر أشهر #تصريحات استعمارية؛ سُمعت حتى ذلك الوقت على 
الإطلاق عن الحرية كسبب وذريعة لشن الحرب : 


«إنني باسم جلالة ملكي المعظم وباسم شعوبهء أوجه إليكم الخطاب الآتي : 
الغرض من معاركنا الحربية دحر العدو وإخراجه من هذه الأصقاع . فإتماماً لهذه 
المهمة» وجهت إلي السلطة العليا المطلقة على جميع الأطراف التي يحارب فيها جنودنا . 
إلا أن جيوشنا لم تدخل مدنكم وأراضيكم بمنزلة قاهرين بل بمنزلة محررين» فقد 
خضع مواطنوكم منذ أيام هولاكو لمظالم الغرباء» فتخربت قصوركم» وتجردت 
حدائقكم. وأنث أشخاصكم وأسلافكم من جور الاسترقاق . ولقد سيق أبناؤكم إلى 
حرب ل تنشدوهاء وجردكم القوم الظلمة من ثرواتكم. وبددوها في أضقاع شاسعة . 
تكلم الأتراك ومنذ أيام مدحت باشا عن الإصلاح ١‏ ومع ذلك أفليس دثور اليوم 
وقفوره برهاناً عن بطلان هذه الوعود؟ إنها ليست أمنية مليكي وأمنية شعوبه منهاء بل 
إنها أيضاً أمنية الدول العظمى المتحالف معها جلالته أن تفلحوا كما فى السابق . وقد 
كانت أراضيكم حخصبة وكان العالم يتغذى بألبان آداب جدودكم وعلومهم وجِرّفهم 
وقت ما كانت بغداد إحدى عجائب الدنيا. لقد ارتبط قومكم بإبالات جلالة ملكي 
المعظم بعروة المصالح الوثقىء فقد تعاطى تجار بغداد وتجار بريطانيا العظمى معا مدة 
مئة سنة كمتبادلين المنفعة والصداقة . أما الألمانيون ‏ الألمان ‏ والأتراك الذين نببوكم 
أنتم وذويكم؛ فإنهم اتخذوا بغداد مدة عشرين سنة مركز قوة يبجمون منه على نفوذ 
(؟) صالح زكي شكري» في : المفصّل في تاربخ العراق المعاصر (بغداد: بيت الحكمة» ۲٠٠۲)ء‏ 
4 


٦ ص‎ 


() انظر : هادي حسن عليري» فيصل بن الحسين: مؤسس الحكم العربي في سورية والعراق» 2 
4۳۴۲ (بيروت: دار رياض الريس للكتب والنشرء (Yr‏ ونص الخطاب كما نقله» المصدر نقسه» ص ۸۸. 


۹۳ 


البريطانيين وحلفائهم في بلد إيران والأمصار العربية . فعلى ذلك لم تتمالك الحكومة 
البريطانية في البقاء ضاربة الصفح عمًا يحدث في وطنكم حاضراً أو مستقبلاً؛ إذ إنه 
قياما بواجب مصلحة الشعوب البريطانية وشعوب حلفائها لا تستطيع الحكومة 
البريطانية» المجازفة في دفع ما عمله الأتراك والجرمان ببغداد أثناء الحرب مرة ثانية . 
ولكنكم يا أهالي بغدادء يا من جرفكم التجارية وتأمينكم من الظلمٍ والغزو يستوجب 
أدق اهتمام الحكومة البريطانية به أبد الدهر . لايجب عليكم أن تظلموا. إن رغبة 
الحكومة البريطانية هي في تكليفكم أنظمة أجنبية . فأمنية الحكومة البريطانية أن تحقق 
ما تطمح إليه نفوس فلاسفتكم وكتابكم مرة أخرى . ولسوف يُسعد أهالي بغداد حالاً 
ويتمتعون بالغنى المادي والمالي بفضل أنظمة توافق قوانينكم المقدمة وطموحاتكمم 
القومية والفكرية . لقد طرد العربٌ من الحجاز الترك والجرمان الذين بغوا إليهم وقد 
نادوا بعظمة الشريف حسين ملكا عليهم» وعظمته يحكم بالاستقلال والحرية. وهو 
متحالف مع الأمم التي تحارب تركيا وجرمانيا. وهذا هو حقيقة حال أشراف العرب 
الذين راحوا ضحية في سبيل الحرية على أيدي أؤلئك الحكام الغرباء الأتراك الذين 
ظلموهم . إن التصميم لهو تصميم بريطانيا وتصميم الدول العظمى المتحالفة معها 
على أن لا يذهب ما قاساه هؤلاء الأعراب الشرفاء هباء منثوراً. إن المأمول لهو مأمول 
بريطانيا العظمى والأمنية أمنيتهاء وأمنية الأمم المتحالفة معهاء أن تسمو الأمة العربية 
مرة أخرى عظمة وصيتاًء وأن تسعى كتلة واحدة وراء هذه الغاية بالاتحاد والوثام . : 
يا أهالي بغداد: تذكروا أنكم تألمتم مدة ستة وعشرين جيلاً إذ إن الظلمة الغرباء سعوا 
دائماً إلى الإيقاع بين أهل البيت ليستفيدوا من انشقاقكم . فهذه السياسة مكروهة عند 
بريطانيا وحلفائهاء إذ إنه حيث العداوة وسوء الحكم لا يستقيم سلام ولا فلاح . عليه 
إنني مأمور بدعوتكم بواسطة أشرافكم والمتقدمين فيكم وممثليكم إلى الاشتراك في 
إدارة مصالحكم الملكية لمعاضدة مثلي بريطانيا السياسيين الموافقين للجيش» كي تنظموا 
مع ذوي قرباكم شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً في تحقيق أطماعكم القومية». 
الفريق الأول: ف. س . مود 
مقر الحيش العام بغداد» قائد القوات البريطانية في العراق 


عندما كان البريطانيون يفتشون عن حلول عملية لربط العراق بمستعمرتهم 
الكبرى الهند؛ فإنهم كانوا يواجهون في الواقع التحديات التي أطلقتها بوجههم 
الموجة الأولى من ثورة الاتصالات . هذه الموجة الهائلة التي تفجرت مع العصر 
الصناعي» فرضت على الكولونيالية البريطانية البحث عن حلول لمعضلة التواصل 
الجغرافي بين المستعمرة ‏ المركز (الهند) ولندن. كما فرضت عليها التفتيش عن موارد 


4 


جديدة وعن مواد خام. وكانت هذه الحاجة تختلط تلقائياً بميول ونزعات كولونيالية 
قوية للقيام بفتوحات أخرى لأراضي بلدان الشعوب الضعيفة. ولذا كان لابد من 
إجاد حلول تساعد» لا في تطوير درجة وشكل التواصل بين المستعمرات» ولندن 
وحسب؛ وإنما كذلك تصعيد التنافس الاستعماري المحموم مع الفرنسيين والروس 
والألمان على الشرق لنهب موارده اللازمة والضرورية لتطور الصناعة في العام 
الرأسمالي. من بين أبرز الأفكار التي أثارت جدلاً صاخباً داخل الطبقة السياسية 
البريطانية» تلك التي أشعلتها الخلافات بين المكتب العربي فى القاهرة وقيادة الجيش 
الهندي البريطاني حول طريقة إدارة العراق المحتل ؛ إذ كان هناك رأيان يتصارعان في 
الخفاء ؛ أحدهما تقول به قيادة الجيش الهندي ‏ البريطاني والأخر يقول به المكتب 
العربي في القاهرة. في هذا الوقت )1١9177- ١41١5(‏ تقدم أرنولد ولسن الحاكم 
الملكي العام بمقترحه الخاص بضم العراق إلى الهند كمستعمرة تابعة للهند ويتم فيها 
توطين الهنود. 


كان أرنولد ولسُّن يعمل بصحبة أقرب معاونيه الآنسة غروترود بيل السكرتيرة 
الشرقية على إنشاء إدارة مدنية لهذا الغرض (وسوف يكون لهذا التعبير دلالته» حين 
نقاربه من التعبير الأمريكي عند تنصيب بول بريمر كحاكم مدني للعراق في ۲۰۰۳ إذ 
جرى الحديث عن إدارة مدنية للاحتلال) . كان مهنيد العراق يجري بشكل شامل وعلى 
قدم وساق منذ اللحظات الأولى للاحتلال. لم يبق مرفق أساسي واحد في طول البلاد 
وعرضهالم يشهد شيئا من عملية التهنيد هذه. حتى سلك القضاء كان يعمل وفقاً 
لقوانين هندية. وجد ولسّن أن من الضروري حكم العراق حكماً مباشراًء وربط 
قسمه الجنوبي بحكومة الهندء بحيث تخضع البصرة عاصمة الجنوب العراقي وكامل 
الإقليم » للنظم والقوانين الهندية في مختلف نواحي الحياة» وبالتالي» ليتم في نطاق 
عملية تهيئة تدريجية وفعالة ومطردة» تحويل كامل الجنوب إدارياً واقتصادياً ليصبح 
جزءاً من الإمبراطورية البريطانية في الهندء ولذلك» وتطبيقاً لخطته هذه؛ قام ولسن 
بتعيين موظفين من البريطانيين والهنود واستبعد العراقيين كلياً. 


كان عصر الاستشراق يقدم تصوراً عن فيدرالية للجنوب الشيعي ترتبط بشيعة 
الهندء ولكن في صورة إقليم تابع لحكومة مركزية أخرى وراء البحر. وعندما عينت 
سلطات الاحتلال المقدم غريغسون («0ءع٠6)‏ مفوضاً لمؤسسة الشرطة؛ فإنها قامت 
بتعيينه في هذا المنصب لسبب وحيد هو انتسابه للشرطة الهندية؛ وليس لخبرته 
الطويلة على حدود الهند الشمالية الغربية كما قيل. تكونت مؤسسة الشرطة هذه 
بعد أيام فقط من احتلال البصرةء وكانت مهمتها فرض الرقابة الصارمة والحد من 
هجمات القبائل على الخنطوط الخلفية للبريطانين» وهي هجمات كانت تضاعف من 


46 


درجة الفوضى التي انتشرت في طول البلاد وعرضها بعد هزيمة العثمانيين. وإضافة 
إلى قوات الشرطة هذه شكل البريطانيون ما عُرف بجيش الشبانة» وهي قوة محلية 
مسلحة قوامها أبناء قبائل متعاونة معهم» وقد تشكلت بقيادة النقيب مكفرسون 
)McPhers0n)‏ وحددت مهماتها بحماية المواصلات بين القرنة(فى البصرة) والعمارة 
(إلى الشرق منها) . امثير أن أفراد قوة الشبانة كانوا يرتدون ملابس ممائلة تماماً ملاس 
فرسان الشبانة في الهندء مع تعديل طفيف تمل في إضافة غطاء الرأس المؤلف من 
اليشماغ البدوي والعقال. استمرت محاولاات التهنيد القسرية هذه حتى على مستوی 
القضاء؛ إذ جرى تعيين ضابط عدل هندي هو أوخان بهادر رستم علي» مساعداً 
لضابط العدل البريطاني. 


لقد أوكلت إليه دائرة القضاء المرتبطة بالحاكم العسكري مهمة تطبيق القوانين 
الهندية؛ مع الأخذ بنظر الاعتبار ما يناسب من القوانين العثمانية . في هذا السياق 
صدر قانون الأراضي العراقية المحتلة ١415‏ الذي كانت مواده قد استقيت بالكامل 
من مواد القانون الهندي المدني والجزائي » مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة الملائمة 
للظروف المحلية العراقية. في العام ١917‏ أصدر البريطانيون قانون دعاوى العشائر 
المدنية والجزائيةء الذي وصفه هنري دوبس بأنه على غرار قانون جرائم الحدود 
الهندي الذي تم تطبيقه في بلوخستان. . إن وصف فيليب دايلارد ايرلاند للقانون 
الذي صدر لأول مرة في الهند عام ۱۸۷١‏ : 

«بأن كل إداري استعماري عظيم كان يصفه بأنه مثل يحتذى به أو يقتفى أثره . 

لهو وصف استعماري استشراقي من طبيعة شديدة العنصرية. لقد تبدت 
السياسة البريطانية في العراق على هذا الصعيد» بكل تجلياتها وتفاصيلها المروعة من 
حيث درجة قسوتهاء كعامل تفجيري من طبيعة استثنائية في ثورة .. ففي ١١‏ 
تشرين الأول/ أكتوبر وبعد ثلاث سنوات فقط من سقوط بغدادء ظهرت 06 
الفارقة الأولى في انهيار السياسة البريطانية» ومعها انارت الحلول الاستشر 
تماما ؛ فقد تم التخلص من أرنولد ولسن» حينئذ» أكثر الشخصيات E‏ 
قسوة وفظاظة» ولكن ليحل محله استعماري آخر سرعان ما أظهر مقدرة فائقة على 


أن يبدو أليفاً ورحيماً مع السكان هو برسي كوكس» الذي أصبح مندوباً سامياً 
ونائباً للملك . 


اكتشف البريطانيون أن سياسة البطش والقسوة وتجاهل مطالب العراقيين 
واحتقارهم ومعاملتهم كو حوش بشرية» لا تصلح إلا كنماذج تعرض في «حديقة 
الحيوان» قد وصلت كلها الى طريق مسدود» ومعها بلغ الهوس في تخيل العراق مداه 


45 


الكامل وكاد يستنفد أغراضه الأصلية . ولذلك حرص كوكس على اطبة العشائر 
العراقية في أول نداء أصدره بلغة تصالحية؛ > تطمح إلى الحصول على الغفران والصفح 
عن الأخطاء التي ارتكبها «المنظرون الهنود» في وزارة المستعمرات» ولافتاً الانتباه إلى 
أن النظرات التشككية تجاه البريطانيين والتي ميّزت موقف العشائر؛ قابلة للإزالة 
بأسرع ما يمكن إذا ما تحقق قدر من التعاون البناءء وانه عازم على فعل ذلك بكل 
طاقته . 


في هذه الأثناء ظهر في واجهة الأحداث أنصار بريطانيا ومؤيدوها بشكل 
واضح لأول مرة» وبرز إلى السطح تجمع لشيوخ العشائر عشية الحديث عن تتويج 
فيصل ملكا على العراق؛ وذلك عندها كان مزلا او عل یک ان بل 
ليشربوا القهوة» وهم يستمتعون ساخرين وغير مصدقين ما تراه عيونهم : امرأة جميلة 
لا تكاد تخفي رغبتها في إدارة بلادهم بالنيابة عنهم؟ ولئن بدت في أنظازهم فظاظة 
فلاحية مألوفة» ولكن بأكثر ما تحتمله مجاملاتهم الساذجة ولا مبالاتهم ؛ فإن المس بيل 
أظهرت في المقابل فطنة مذهلة وهي تتحدث مع الفلاحين . من بين أبرز رجال 
العشائر الذين كانوا يحرصون على التوافد إلى المكتب الشرقى للتعرف إلى «المرأة 
الاستعمارية؛ المثيرة للفضول؛ أمير ربيعة محمد الصيهود وعمران الحاج سعدون 
رئيس عشائر بني حسن وأحد القادة السابقين لثورة العشرينء وآخرون مما يصعب 
إيراد أسمائهم بالتتابع لكثرتهم . لقد جاءوا بأنفسهم لا لرؤية المرأة الإنكليزية التي 
ستتولى أمر علاقتهم بالإدارة البريطانية وحسب» وإنما ليعلنوا لهاء وبدوافع مختلفة 
ومتراكبة لا تنقصها الأهواء والمكائد الشخصية ولا التنافسات غير البريئة التي 
انفتحت أبوابهاء آنئذٍ بشكل لا يُصدق؛ رفضهم القاطع التوقيع على أي وثيقة لا 
تتضمن إشارة واضحة وصريحة إلى بقاء الاحتلال فى العراق. وكان ذلك ذروة 
اللفارقة فقد وقع شيوخ العشائر في المصيدة وأصبحوا من أنصار لندن ومن أشد 
المدافعين عن بقاء الاحتلال . 


لم يكن هؤلاء وحدهم في الميدان؛ بل كان هناك رجال آخرون من بينهم 
سلمان البراك وعداي الجريان من شيوخ الحلةء وعلي السليمان رئيس عشائر الدليم 
وأحد مؤيدي الإنكليز الأقوياء» وفهد الهذال رئيس عشائر عنزةء والأخيران أعلنا 
لفيصل» وبصراحة هي الأقرب إلى الوقاحة والعنجهيةء أنهما يقسمان بالولاء له 
لا نشيء إلا لأن الحكومة البريطانية وافقت عليه» وأن أي باعث آخر لا وجود له؟ 
لقد أبلغوا الملك فيصل وبوقاحة أنهم نزولاً عند رغبة الإنكليز سيوافقون على 
تنصيبه وأن له في أعناقهم بيعة. . ومع ذلك فقد كانت بيعة شيوخ العشائر مشحونة 
بالتناقض فقد أرادها الإنكليز» بينما سيقاومها كثرة من رجال الدين الشيعة. وإزاء 


۹۷ 


هذا التطور وربما بفضله» نشطت الاتصالات بين فيصل والسير برسي كوكس 
لتأسيس تيار موالٍ للملك يقوم على نوع من التحالف بين رجال العشائر ورجال 
الدين: والملك. كانت هذه التركيبة بأبعادها الثلاثية تطبيقاً استعمارياً نموذجياً» يعيد 
تجميع عناصر المشكلة العراقية في ثلاث قوى كبرى هي شيوخ العشائر ورجال 
الدين والملك. 


كان البريطانيون يواجهون في الواقع مشكلة معقدة نوعاً ماء تتصل بمسألة 
تمرير مطلب العراقيين تنصيب فيصل ملكا . كان هناك تيار شيعي نافذ يقوده الخالصي 
الأكبر(حمد مهدي) وقد عزم هذا الرجل الصلب على تحدي اللعبة وتحطيم قواعدها. 
ويبدو أن البريطانيين الذين كانت لهم صلات «خفية» بالمجموعة الإيرانية (الفارسية) 
في حوزة النجف قد احتاطوا لأمره وقرروا اللعب معه. وسوف نرى بعد سنتين من 
هذه الأحداث وتحديداً فى ٠١‏ تشرين الثاني/ أكتوبر ۱۹۲۲ء كيف أن البريطانيين 
اصطدموا علناً بفتاوى الخالصى التى حث فيها العراقيين جميعاً على مقاطعة انتخابات 
المجلس التأسيسي”*؟ . دا 


عندما كان البريطانيون ببيئون الأجواء من خلال تحالف فضفاض بين رجال 
الدين ورجال العشائر والملك منذ مجىء برسي كوكس وعزل ولسّن (تماماً كما لو أننا 
نتحدث بعد أكثر من ثمانين عاماً من هذه الأحداث عن مجيء بريمر بعد عزل جي 
غارنر عام ٠٠١7‏ والتهيئة لانتخابات المجلس التأسيسي» الذي عدل بريمر تسميته 
بعد مماطلات إلى الجمعية الوطنية) راعهم حجم التأييد الهائل الذي حصل عليه 
الخالصي في مواقفه المناهضة لهم. وحين حل عام ۱۹۲١‏ قام وزير الداخلية 
عبد المحسن السعدون بإصدار أوامره بالشروع في إجراء الانتخابات. وبعد عام 
تقريبا قام بتعديل قانون العقوبات البغدادي بما يتيح له» بصفته وزيرا للداخلية «نفي 
الأجانب من البلاد». كان الغرض الحقيقي من هذا التعديل تمكين البريطانيين من 
تمزيق فلول المجتهدين الشيعة العرب المعارضين للملك». واجتذاب الآخرين من كانوا 
يؤيدونهم . وبفضل التنسيق المستمر مع الإيرانيين سراً وعلناً تمكن الإنكليز من تحقيق 


(0) انظر: علي الورديء لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» ” ج. ط ۲ (لندن: دار كوفان» 
05) ج5”ء ص 05١١‏ وعادل رؤوفء عراق بلا قيادة: قراءة في أزمة القيادة الإسلامية الشيعية في 
العراق الحديث (دمشق : المركز العراقي للإعلام والدراسات» .)5١١7‏ 

وفي الكتاب الأخير معلومات وشهادات موثقة بشكل جيد حول واقعة نفي الخالصي إلى إيران ثم عودة 
جماعة المجتهدين من أصول إيرانية من دون التنسيق معه (ص 18). 


۹۸ 


خطوات مهمة على هذا الطريق”'' مثلما ستكشف الأحداث لاحقاً. لوّضح وزير 
الداخلية عبد المحسن السعدون هذا التعديل من أجل إنزال الرعب في قلوب 
المجتهدين من أصول إيرانية» مثل أبو الحسن الأصفهاني والميرزا حسين النائيني» 
الذين كانوا يواجهون في حال عودتهم» مشكلة عويصة تتعلق يمكانتهم الدينية في 
بلادهم التي تعج بمن هم أكثر أهمية من حيث القيمة العلمية؛ ب 
لهم المكانة ذاتها التي حصلوا عليها في العراق. سيكونون جرد مجتهدين كبار بين 


آخرين كبار ومتنفذين . 


لكن البريطانيين وبعد صراع خفي مع السعدون ضغطوا باتجاه نفي الخالصي 
(وهو العربي العراقي) من البلاد للتخلص منه . ما أن سُمع نبأ النفي حتى ضج 
العراق من أقصاه إلى أقصاه وعم الإضراب في بغداد وخصوصاً في الكاظمية معقل 
الخالصية حيث استخدم العنف بصورة وحشية . ارتاع المجتهدون الشيعة (من أصول 
فارسية) في النجف من هول القرار وفكرواء بان الإنكليز لن يتوانوا عن طردهم هم 
أيضاً ما داموا طردوا الخالصي وهو العربي اا ا 
وقرروا أن ينفوا * أنفسهم طوعاً وجاعياً فسافروا من النجف إلى كربلاء . . وحين 
وصل المجتهدون إلى كربلاء أعدت لهم خيمة خاصة للنزول فيهاء ومُنع الأهالي من 
الاتصال بهم . ما لم يتوقعه البريطانيون في تلك اللحظات هو أن الكثير من المجتهدين 
في كربلاء سارعوا إلى الانضمام إلى خيمة المنفيين. حاول المتصرف ‏ المحافظ ‏ عبغاً 
التفاهم مع هؤلاء وثنيهم عن «نفي» أنفسهم ولكنهم : 

«أصروا على مغادرة العراق» فأبرقت الحكومة إلى المتصرف تأمره بتسهيل سفر 
الذين يحملون الجنسية الإيرانية منهم» أما الباقون فيجب إبقاؤهم في العراق ووضعهم 
تحت مراقبة الشرطة»”" . 


لم يمض وقت كثير على عودة المجتهدين من أصول إيرانية إلى بلادهم في إطار 
التضامن مع الخالصي (العربي العراقي المنفي قسراً إلى إيران) حتى تسارعت وتيرة 
التدخلات الغامضة والخفية ونشطت الاتصالات السرية الإيرانية ‏ البريطانية» 
لتأمين عودة مشروطة لهؤلاء. تقوم على قاعدة واحدة» هي عدم التدخل في 
السياسة . وبالفعل» ومن دون أن يعلم الخالصي بحقيقة الاتصالات السرية التي 
أجراها الإنكليز مع الإيرانيين» عاد هؤلاء إلى العراق تاركين خلفهم الرجل الذي 


(7) وهذا أمر مثير للغاية لأنه يعيد تذكيرئاء على نحو ماء بالدور الذي لعبته إيران في تسهيل انتخابات 
۰ كانون الثاني/ يناير ۲۰٠۰۵‏ 


(۷) انظر : الوردي› المصدر ئفسهء» ص ۲۲۸. 


19 


تضامنوا معه» وحيداً وشبه معزول فى إيران. فى هذا الوقت كان هناك تياران 
متناقضان يتنافسان داخل الوسط الشيعى : تيار «الشريفيين» المنادين بتنصيب فيصل 
ملكاًء وتيار «المجتهدين»”'' الذين نادى بعضهم بالحكم البريطاني المباشرء وقد جاء 
حادث نفي الخالصي الكبير و«انشقاق المنفيين طواعية؟ عنه. ليضع النجف وحوزتها 
الدينية والشيعة عموماً في قلب دوامة من المسائل المحيرة. 

أما تيار الخالصي الذي نادى بمقاطعة الاستفتاء ورفض البيعة لفيصل فقد أصبح 
في وضع صعب » ولم يتمكن أتباعه من تنظيم أنفسهم بصورة فعالة . 

إن فهماً متطلباً لدور وظروف نشأة هذين التيارين» وللدور الذي لعبه المال في 
الصراع الخارجي (الاستشراقي) على النجف» وبموازاته الصراع الداخلي على مركز 
«البابوية؛ الشيعية بين كبار المجتهدين» يستدعي إلقاء نظرة نقدية فاحصة» على دور 
الاستشراق الكلاسيكي في رسم صورة استشراقية نموذجية «للحوزة»» بوصفها 
مدرسة دينية قرر الضباط الكولونياليون استخدامها في الصراع على العراق؛ كما 
يستدعى تسليط الأضواء على الظروف العامة فى البلاد فى هذه اللحظة وعلى الحوزة 
في النجف من الداخل أيضاً. 1 ١‏ 


(۸) انظر مثلاً: رؤوفء المصدر نفسهء وفي الكتاب تفصيلات وافية تلخص المادة التاريخية لهذه 
الواقعة» والتي سبق لعلي الوردي أن سجلها. 


(9) للمزيدء انظر: فاضل الربيعي» الحماهيريات العنيفة ونهاية الدولة الكاريزمية في العراق (دمشق: 
دار الأهاليء .)٠٠٠٠‏ 


١٠ 


الفصل (لتالكت . 


حول التاريخ الاستشراقي 


١‏ بُع دٌكتابك صرخة مدوية على دكتاتورية الؤسسة الدينية الت يتتتسب إل ىالشريعة الإسلامية 
ظلما وعدواناً وندرس فقه الشريعة » وقلبها عنه بعيد » ولا تأخذه عقيدة رسالية حركية ولا 
تتق يالله ولا ترهبه» وإنما تدرسه لتنأول ونحتال باس م تضخيمالعناوي نالثانوية» وا حيل 
الشرعية» ونوجهه كيف تشاء ف يتلبية الرغبات والأطماع حيكما انكشفت لهاء إن هناك 
مصلحة ذائية تنجز» وأن هناك شيا م نأشياء مذ الدنيا يُكسب . من هنا - يا أخي -نريد 
أن تكشف لنا الشيء الكثير عن مؤلاء الرمو زا حوزوية النسترين وا محترفين باس مالدين» 
الذي ن حولت حياته ما لعيشية الضيقة إل ىقصور شاغة وحياة مترفة في دول ا خلييج وأورويا 
وأمريكا الاستكبارية » ونخاسبهم م نأي نلكم هذا من خلال كتاباتك الولقة؟ . 


آية الله العظمى 
الشيخ أحمد المسني البغدادي7١)‏ 


«هناك أمر جب تصنيفه في حك ما مستحيل» ألا وهو صمل هيئة م نالجتهدين: أو ما 
يُسمون الجتهدين» في وفاق على شكل جنة لتقسيمالأموال بينهم» أ ولتوزيعها على 
a‏ وذلك سواء عملت نحت اد شراف الفوضية أو مستقلة ؛ فإن الشعو رالسائد بينهم» 
كل تجاه الآخر» مث ل بالتزمت الديني وائنافسة الكلامية ما لا يسمح بوفاق بينهم. ولوقت 
E‏ “م نأجل هذا الغرض فلن يحضروا هذا الاجتماع» بل سيرس لكل 

خادماء بينما نجد أتياع هذا الجتهد أو ذاك والذين يؤملون الكسب من وراء هذا 


الجتهد أو ذاك يحومون حول مكان الاجتماع» ومن هنا يمك نأن يحدث شغب ف يأي يوم : 


الرائد تويدي"“ 


في جوابه على رسالة المرجع الديني آية الله البغدادي ؛ والذي ضمُنه كتابه 
الجريء عراق بلا قيادة"» كتب المفكر الإسلامي (الشيعي) عادل رؤوف ما يلي : 


)١(‏ مقتطف من رسالة إلى المفكر الإسلامي العراقي عادل رؤوف في دمشق في ۲۸ صفر ٠٤١١‏ ها 
م 

(۲) مقتطف من : «تقرير عن حالة المجتهدين الشيعة في النجف. ؟ أيار/ مايو .1841١‏ 

(۳) عادل رؤوف» عراق بلا قيادة: قراءة في أزمة القيادة الإسلامية الشيعية في العراق الحديث (دمشق: 
المركز العراقي للإعلام والدراسات» (T°‏ ص ۱۳۷. 


1۰۳ 


«أما دلالات هذا المشهد المرتبطة بالمال الشيعى وضوابط صرفهء فلا داعى للاستغراق 
فيها؛ فهو مال لا يضبطه ضابط لا في مصادره» ولا في احتكاره» ولا في طريقة 
توزيعهء ولا في علاقة أولاد المرجع”*' فيه؛ . ثم يضيف بعد أسطر عدّة وبشيء من 
السخط واليأس : #وحتى لا أطيل؛ فإن هذا المال لا ضابط ولا قانون ولا أساس 
شرعي متين ‏ له . ولكن ما العمل ووعي الأمة توارث نمطا معيناً في تسليم حقوقه 
الشرعية؛ واختلط هذا الموروث مع أصابع خارجية؛ لكي يتحول بالنهاية إلى وبال على 
الدين بدل أن يكون في خدمته. ولعل خير من يعبر عن مصيبة هذا المال» وأبعاد 
التدخل الخارجي في حوره» ومتانة الأساس الشرعي له» هو الرسالة المؤلة للخطيب 
الفاضل العلامة السيد حسن الكشميري6©؟ . 


هنا کا اوري الت و ی و ا أحدهما يتمتع بمنزلة دينية 
كبيرة فهو مجتهد معروف ومن كبار آيات الله في النجف» والآخر مفكر إسلامي 
شاب هجر العمل السياسي» وتفرغ كلية للفكر؛ يتخطى حدود الفساد المالي بكل 
تأكيدء ويتجاوز مسألة التصرف فيه» أو توارثه. إنه يثير» ومن حيث لا يدرك 
الرجلان» ربماء مسألة عتيقة وثيقة الارتباط بالاستشراق الكلاسيكي» ودور 
المؤسسة الدينية الشيعية في تكريس نظرة الاستشراق إليها. هذه المؤسسة كما برهنت 
الوقائع التالية» لم تكن قطء بمنأى عن تدخل البريطانيين منذ القرن الثامن عشر؛ يوم 
كان البريطانيون يتسللون إلى العراق العثماني» ويتغلغلون في إيران القاجارية . 


لم تكن النجف بمدارسها الدينية ومؤسستها الشيعية الكبرى (الحوزة العلمية)“ 
في أي وقفت» بمنجى من هذا النوع من الشكاوى المريرة التي تخص الال المكلاعب 
فيه؛ ولكن نادراً ما صادف المرء رجالا اتصفوا بالتزاهة والشجاعة والجرأة» قامواء أو 
سعوا إلى الربط وحتى مجرد التساؤل» عن العلاقة بين «الأصابع الخارجية؛ من جهة 


(4) حول أولاد المرجع الذين يرئون أموال الشيعة؛ انظر مثلاً: نص رسالة آية الله العظمى أحمد الحسني 
البغدادي في: المصدر نفسه. وانظر أيضاً الوثيقة المهمة التي ننشرها في ملحق آخر هذا الكتاب تحت عنوان 
احديث مع كلدار ريلا وهي عضر لقا جرا الولف ممع شخصية روحي ارز میت دور موقا في 
العراق. 

)٥(‏ حول الرسالة المذكورة في هذا النص» انظر: رؤوف؛ المصدر نفسهء نق مور اران 
إليها في كتابه؛ ل و ا N‏ 

(5) الحوزة تعني : مدرسة أو «مؤسسة دينية». ين ينبغي الإشارة هنا إلى التمايز بين الحوزة في إيران والحوزة 

فى العراق» فبخلاف ما هو الحال في الحوزة الدينية الإيرانية التي انقسمت » عملياء إلى مؤسستين «تقليدية 
وحديثة» بعد الثورة؛ ثم إلى ثلاثة مؤسسات «تقليدية وحديثة وقومية فارسية»؛ فإن المؤسسة الدينية العراقية لم 
تشهد أي تحول. إن جود المؤسسة قد يكون من بين أسباب أخرى سيباً في «انغلاقها على ما يعتبره بعض آيات 
الله موضوعاً للنقدء نعني الفساد اللي الذي تشير إليه الرسائل المذكورة. 


6١ 


وةالفساد المالي» من جهة أخرى؛ وهي رابطة وثيقة وحقيقية . وبالتالي العمل على 
دراسة العلاقة بين هذه الظاهرات بمجموعهاء مع السياسات التي اتبعها قادة الحوزة 
5 . إن لإثارة موضوع المال» من منظور 

ستشراق الكلاسيكي (وما يعد الا نا ستتشراق استطراداً) وفي هذا الوقت بالذات؛ 
e‏ م يجرب الباحثون الموضوعيون» بعد الخوض فيه؛ 
دلالة واحدة مباشرة وغير قابلة للحجب والتعمية› هي أن الظاهرات الجديدة في 
سلوك الحوزة ومواقفهاء ليست سوى استطراد في مشكلة قديمة تلازمت مع بزوغ 
الا ستشراق الذي كان يمسح» تقريباًء وقبل قرنين من هذه الرسائل الحزينة» كل 
ركن من العراق . 


وكانت النجف بالطبع؛ أهم ركن بعد النفط. اتجهت إليه أبصار المستشرقين 
البريطانيين. بينما انشغل الفرنسيون والروس عنها وتجاهلها العثمانيون. ثمة عنصر 
ضاغط آخر فى وظائف الاستشراق الكلاسيكى ونظراته غير المتبصرة للنجف» مهد 
على امتداد وقت طويل» بشكل جلي» السبيل أمام أخْيّلَة المديئة المقدسة والدفع بها إلى 
واجهة دور ما كان لها أن تتمناه» لولا أنا كانت في وقتٍ ما مرغمة على أن تبدي» 
ومن خلال حفنة من رجالاتها الأقوياء» بعضاً من الميول والاستعدادات للبقاء مؤقتاً 
خارج أسوار «الروحانيات» الشفافة» التي تفصل عادة بينها وبين جماهيرها المتدينين؛ 
قبل أن ترغمها الظروف ثانية وتسارع الأحداث كذلك» عل الدخول في حقل 
السياسة من بوابة المال. ما قصده آية الله البغدادي في النص الآنف المأخوذ من رسالة 
متأخرة عن الأحداث التي ندرسها بنحو ١٠٠عام‏ تقريباً وهي العمر الفعلي لنشوء 
وتطور الحوزة وظهورها كمؤسسة فاعلة وذات نفوذ هائل في المجتمع العراقي؛ وما 
قصده «تويدي» كذلك» بفطنة المستشرق الإنكليزي ومن خلال سطور مفعمة باليأس 
والاستسلام» هو أن المال ولا شيء آخرء كان لب المشكلة الأكثر حساسية والذي 
غالباً ما يُفضل التغاضي عنه بشكل مقصود» أو تحاشيه بكل الطرق عند محاولة تفسير 
بعض الأحداث والمواقف السياسية الغامضة. 


يمكن أن نحدد منتصف القرن الثامن عشر ونباية التاسع عشرء كبداية حقيقية 
لتاريخ المشكلة التي يثيرها البغدادي كما يثيرها رد عادل رؤوف» وذلك حين دخل 
المال» ولنقل حين تدفق على مؤسسة دينية متقشفة وزاهدة وحتى فقيرة؛ ؟ بوصفه 
العنصر الضاغط و«الخارجي» الأكثر أهمية» والذي كان يبلور ويدير على أكمل وجهء 
الصراعات على المركز «البابوي الشيعي؛ ويتحكم في كل شأن مهما كان صغيراً؛ بل 
وقد يقرر المواقف بشأن أكبر وأكثر الأمور خطورة كمسألة الحرب. لقد لعب الال 
المتدفق عبر بومباي إلى النجف وبإشراف بريطاني ومن وراء ظهر العثمانيين» دوراً في 


1۰0 


تسليح بعض أبناء الشيعة والدفع بهم ربما عبر التضليل والخداع» إلى إعلان انحيازهم 
للشاه القاجاري الذي كان ويا للعجب خصم المجتهدين اللدود وعدوهم؛ وذلك 
بقصد تصعيد المواجهة المكشوفة ضد السلطان العثماني . كان السلطان العثماني الذي 
لم يدرك بقدر حصيف من حسن تقدير الأوضاعء وبالضد من ذلك. يخطب ود 
المرجعيات الشيعية نظراً إلى معرفته بحقيقة المخاطر التي كانت تترصد المنطقة بأسرها - 
كما فعل السلطان عبد الحميد في مبادراته التصالحية مع الشيعة وسماحه بالمطبوعات 
وتأسيس الحمعيات السياسية والثقافية ‏ . ولكن ومن دون أن يتنبه أحد أو حتى يجرؤ 
بفضل الحساسية المفرطة» على رؤية موضوع الال المتدفق من بومباي أو حتى التحدث 
عنه كموضوع دراسي بخص التاريخ؛ فإنه ‏ أي المال ‏ ظل مصدراً أساسياً من مصادر 
«التدخل الخارجي» ونتاجاً له في الآن ذاته . 


إن هؤلاء الزاهدين الذين كان الفقر اء من الشيعة يقصدونهم في كل آن؛ إما 
للحصول منهم على فتاوى مكتوبة أو أجوبة شفهية مباشرة حتى عن أدق الاسئلة 
الخاصة والشخصية» وعن السلوك الأفضل للأفراد المؤمنين وشؤون حياتهم الخاصة 
لئلا يخطئواء نتيجة الجهل بأمور الدين والشريعةء أو يقوموا بأعمال منكرة فيكونون 
بالك كمن اركب مم يحضي الله ريلب خط يدل العا لم يكونوا حتماً 
على هذه الصورة الرومانسية للمتعبد الزاهد» كما رسمتها أقلام ب بعض المستشرقين من 
الضباط البريطانيين» الذين كانوا يتوافدون على السلطنة العثمانية قاصدين زيارة 
النجف وكربلاء والكاظمية في بغداد للقاء بهم والتحدث إليهم ؛ فبعضهم كان غارقاً 
في الفساد المالي بصورة مشينة مثلما رأت ذلك تقارير الضباط الإنكليز المكلفين متابعة 
توزيع الأموال. بينما لم يتورع آخرون من رجال الدين عن تحويل كل الأمورء بما 
فيها الدين نفسه» إلى مسألة مكسب مادي» كما ارتأى آية الله البغدادي» أكثر النقاد 
الراديكاليين» على الاطلاق» لسلوك رجال الحوزة اليوم» والذي يمثل بحقء أهم 
ظاهرة ثورية في الشيعية العراقية» وتمامأء كما لاحظ تويدي نفسه قبل أكثر من مئة 
عام من شكوى رؤوف؛ فالمال يوزع من دون أي رقابة حقيقية . 

ولان «الفساد» ذ ار الدينية وثيق يق الصلة 9 من ا خفية» 
يذهب إلى ذلك النص د اا وبنوع من التدخل الخارجي » 
أي الأصابع «الخارجية؛ كما يذهب إلى ذلك نص المفكر الإسلامي رؤوف؛ فقد 
تلازمت في هذه الحالة ثلاثة ة عناصر على نحو عضوي» وأصبحت بدلا من مشكلة 
فساد مالي وحسب» مصدر مشكلة قديمة ومتوارثة ومستمرة باستمرار المؤسسة ؛ 
أضلاعها الاستبداد الديني الداخليء والتدخل الخارجي» والمال. هذا الترابط المذهل 


۹ 


في عصر الاستشراق الكلاسيكي بين الال والاستبداد والتدخل الخارجي» ليس 
بالضبط مشكلة بنيوية (داخلية) تخص هذه المؤسسة الدينية أو تلك؛ بل هو أيضاً نتاج 
نمط من التخييل الاستشراقي . لقد كان الغرب طامعاً في وضع يده على عصب الحياة 
الروحية في الشرق» لا ثرواته وحسب . 


حتى منتصف القرن التاسع عشر» وبعد نحو مئة عام من تدفق أكبر كمية من 
المال إلى الحوزة» حملها المجتهدون من بومباي» كان الفساد لايزال مستشرياً ويضرب 
بجذوره عميقاً؛ بل ويُرى حتى بعد قرن تال» من وراء الأسوار الشفافة التي تفصل 
المجتهدين الغارقين بالصمت» والذين تبدو على ثيابهم ووجوههم علامات الزهد 
الفارقة؛ وبين الرعايا المشككين الساخطين أو المضللين» أو حتى أولئك الذين 
ينددون بالفساد ويجادلون فى وقوعه من دون حجة دامغة» أو من دون أن تكون 
لديهم أدلة أولية» ولنقل تنقصهم خبرات الحصول على الدليل الحقيقي المطلوب. في 
هذا الوقت (1 نيسان / أبريل أو 7١‏ حزيران / يونيو 1844 على الأرجح) تراكمت 
في يد البريطانيين أموال طائلة مصدرها علاوات من ملكين هنديين صغيرين» في 
مقاطعة أوض (اوده) هما مريم بيجام ونواب مبارك محل» كتبا وصيتيهما قبل موتهما 
بأن توزع الأموال على الفقراء الشيعة. وكان مقرراً طبقاً للوصيتين» حسب زعم 
البريطانيين الذين قدموا النصين باللغة الفارسية» توزيع هذه الأموال على المجتهدين 
الشيعة في العراق. وتم لهذا الغرض استخدام أقصى الحذر والدقة في فهم معنى 
كلمة «مجتهد» حتى إن الضباط البريطانيين توجهواء في وقت من الأوقات. إلى 
سامراء للقاء الشيرازي للحصول منه على تعريف مناسب وصحيح . 


وطبقاً للغة الفارسية التي كتب فيها نص الوصيتين؛ فإن كلمة مجتهد يقصد فيها 
«علماء اللاهوت الشيعة؛ من أعلى مقام" . قبل ذلك بقليلء نحو عام ١884‏ 
وقعت مذبحة كربلاء المروعة والتي نجمت» برأي الملازم كمبول عن «التنافر المتأصل 
والقائم بين الطائفتين الإسلاميتين السنية والشيعية»”* وارتباط المذبحة بتفسير نص 
الوصية الأخيرة» أي وصية نواب مبارك محل . ولإ يكن هذا التقدير صحيحاً على 
الإطلاق من وجهة نظري ومراجعتي لوقائع المذبحة. إن مراجعة نص التقرير الذي 
كتبه كمبول والذي کان» آنئذٍء شاباً غراً وفي رتبة عسكرية صغيرة قبل أن يحصل» 


(۷) يقدم لوريمر تفصيلات مهمة للغاية. ورغم أنها مملة؛ فإن أهميتها تكمن في أنها تكشف طبيعة الجدل 
الدائر حول فهم الاستشراق لكلمة مجتهد. انظر: ج. ج. لوريمر. دليل الخليج. ترجمة مكتب الترجمة بديوان 
حاكم قطر (بيروت: دار العربية» /1951 -»/191). 

(۸) المصدر نفسهء ص 7١98‏ 


مع استمرار خدمته. عل لقب ضير ثم يصبح المعتمد السياسي البريطاتي في بغدادة 
وکل وا يكن قلات تشبع بعد من التجربة العراقية» وإلى الدرجة التي تغدو فيها 
تصوراته | مراف ماف لاما تسرف ای ألا ا نفدي مها بحد 
استشراقى آخر ما كان بالإمكان تلمسه» أو رؤيته» لولا هذا التقرير. فى هذا البعد 
سيتجل الدور الحقيقي للمال «الاستشراقي» أو الموظف بطريقة استشراقية ساطعة» 
ولكن لأهداف استعمارية بحت» فقد اقترح كمبول أن: «استخدام المال قد يكون 
سبباً في إفساد الحاميات العسكرية التركية الموجودة في كربلاء إن كانت ما تزال 
تحتاج للفساد»ء أو في أي حال» في تأمين المساعدة والعون إلى عدد كبير من أفراد 
الشيعة المتعصبين» الذين نادراً ما يطلبون ربحاً مادياً للتضحية بحياتهم في سبيل 
قضية تعتبر في نظرهم شيئاً مقدساً. .6 . هذان الاقتراحان بتوظيف الال الهندي 
المتدفق عل العراق - نظرياً من أجل الفقراء الشيعة ‏ في سياق تنظيم إفساد الحاميات 
التركية» أو تجنيد بعض «المتعصبين من الشيعة» هو الذي يفضح وظائف الاستشر 
الإنكليزي. 


إن اللغة المتعجرفة والتي تقطر سما في كل سطر كتب فيه التقريرء هي لغة 
الاستشراق نفسه الذي لا يمكنه أن يرى» في الظاهرات الاجتماعية والثقافية» سوى 
تعبير عن «أفراد متعصبين» يمكن التلاعب بمشاعرهم وثقافتهم القديمة . حاول 
كمبول أن يبين في تقريره «أن إمداد المجتهدين في كربلاء والنجف بمبالغ كبيرة عل 
شكل دفعات شهرية) يمكن» وبسبب انعدام المراقبة على مصروفاتهم » أن يصبح سبباً 
في «إثارة الشغب في هذه الباشويةة . وكان هذا ما يريد البريطانيون مشاهدته بكل 
تأكيد» من خلال مساعيهم إلى التحالف والتفاهم مع إيران» تمهيداً لتحطيم السلطنة 
العثمانية المترئحة . 


منذ ذلك الحين. وحتى سقوط بغداد في يد البريطانيين عام ۰۱۹۱۷ كان المال 
لايزال يتدفق» وهذه المرة بسهولة أكبر نما كان عليه الحال أيام العثمانيين» مترافقاً مع 
نشاط استئنائي للضباط و«المنظرين الهنود؛ في الجيش البريطاني» الذين كانوا يتقدمون 
بنصائح متواصلة مبنية على وقائع ومعطيات ميدانية؛ عن أهمية الاعتماد على 
«المجتهدين ن الهنودة ة فى الحوزة. ولكن» بينما كان العراق آخذاً بالتحول والتبلور أكثر 
فأكثر» في الُخيلة الكولونيالية البريطانية» وينتقل من كونه «مشكلة عثمانية عويصة» 
عنؤانها العريض الاستبداد والقمع وانعدام الحريات والتخلف وغياب المدنيةء إلى 
مشكلة عناصر مُثيرة للشغب من القبائل المتمردة التي تقاوم المدنية الأوروبية بالغريزة 
وبكل ضراوة؛ بل وتعرقل بلا هوادة كل عملية ممكنة» أو حتملةء لنشر قيم الحريةء 
وهي عناصر تريد بكل تأكيد ‏ طبقاً للخطاب الكولونيالي ‏ إعادة عجلة التاريخ إلى 


١484 


الوراء؛ وقعت سلسلة من الأحداث والمصادمات العنيفة فى المدينة والريف» كان من 
شأنها أن تعصف بكل المخططات النظرية» وأن تضربء مؤقتاًء ستاراً من الصمت 
من حول المال الهندي الغزير المتدفق من بومباي . كانت مشكلات العراق المتفاقمة 
تبعد الأنظار عن الدور الذي لعبه الاست ستشراق في النجف . وكان تدهور الزراعة في 
الريف منذ نباية عام 1۹1۷ء ينذر بكارثة ويحمل ولسن نفسه قبل عزله» على التحذير 
من احتمال حدوث مجاعة. 


إن تدهور أوضاع السكان في العراق يخلّف منظراً واحداًء من سلسلة مناظر 
تنبثق من حول الطبقة السياسية في المدينة» لفسادٍ مالي استشرى بدوره في قلب 
المؤسسة الدينية التي أناطت فيها الأقدار والظروف وحتى التدخلات الخارجية» القيام 
بأدوار فى السياسة اليومية فى أعقد الفترات» ما كانت تريدها قط لو اكتفى مانحو 
المال بالأغراض الإنسانية. ٠‏ 


إن معرفة المأساة الشكسبيرية في ما أسفرت عنه نظرات الاستشراق من نتائج 
مباشرة؛ وبكل أبعادها المحزنة» بما فيها دفع السكان إلى التقاتل طمعاً بالمال» تتطلب 
رؤية الفساد عبر الدم ومن خلال الجريمة . ولكن» قبل ذلك» لا ب في هذا النطاق 

من التعرف الدراسي إلى رؤية حالة البلاد حين كان الفساد المالي يتغلغل في المعقل 
الروحي «للشرقيين» في النجف . يكتب ولسن عن حالة العراق الرنّة تحت الاحتلال 
البريطاني أن 


«كاتت الحاصلات على فرع الهندية من الفرات محرومة تماماً من الماءء وفي قضاء 
الهندية لم يكن هناك أي حصول يالمرة . وعلى امتداد فرع الحلة كانت غلة الحاصل 
الأنضح ج ضئيلة جداً» وقد غمرت المياه مدينة كربلاء والأراضي المحيطة بها . كما أن 
حصول الرز البذور في منطقة الشامية كان فاشلا إلى حد كبير. وقد كانت هناك بضع 
مضخات في قضاء الديوانيةء إلأ أمبا تعطلت لعدم توافر النفط . كما إن القنوات قد 
امتلأت بالغزّن منذ أمد طويل. وعلى دجلة» امتداداً من سامراء إلى أطراف بغداد» 
آلت جميع المزروعات إلى تلف بسبب العمليات العسكرية. وبالقرب من بغداد 
انقطعت الأمطارء وفي منطقة بعقوبة» دمرت العمليات العسكرية عدة إيكرات من 
الحبوب وقد تدهورت القنوات في كل مكان؛ ففي الحلة الغنية في فترة الاحتلال» 
كان هناك 5 قناة وكلها في حالة سيئة؛ . 


(4) هادي حسن عليوي» فيصل بن الحسين: مؤسس الحكم العربي في سورية والعراق» ةا - 
1١‏ (بيروت: دار رياض الريس للكتب والنشر»ء {T°‏ ص .۱٤١‏ 


۰۹ 


وحتى عام ١5314‏ استمرت تقارير الضباط البريطانيين تتحدث عن التدهور 
للشامية على كتابة النص الآتي : 


«إن الغالبية العظمى قد غشيتها سحابة خيبة أمل» لعدة شهور»ء بسبب تلف 
محاصيلها الشتوية بفعل الإرادة الإلهية وأخطاء البشر . إن الفيضانات والبرد والجراد 
وإخفاق المشاريع الزراعية قد كان لها كلها دور مؤثر في الأمر»””'' . 


فى هذه الأجواء من الإخفاق والفشل والشعور بالمرارة وخيبة الأمل» كانت 
الاجتماعات الحاشدة تكرس لتمرير المزيد من الحلول الاستشراقية» ومن بينها التعجيل 
في استفتاء «اختيار ملك عربي» وتشكيل «المجلس التأسيسي» و”كتابة الدستور» وهي 
الأسس الثلاثة تقريباً التي سيلجأً إليها الأمريكيون بعد نحو ثمانين عاماً من هذه 
الأحداث» وبعد إخفاق تصوراتهم لما بعد الاستشراقية”''' . ليس من قبيل المصادفة أن 
البريطانيين» في هذه الآونة» واصلوا من دون هوادة» مساعيهم لإحداث أكبر تغيير 
ديموغرافي وثقافي ممكن» حتى لو تطلب ذلك إسكان جاليات هندية وإقامة 
مستوطنات أوروبية في الريف» كما لاحظنا مما سبق من وقائع» وذلك بقصد إضعاف 
الروح الوطنية للسكان المحليين» وإعاقة أي ظهور محتمل لروابط وشبكات اتصال بين 
الكتل السكانية الكبرى؛ قابلة للتحول» تلقائياً» إبان المنعطفات السياسية إلى عنصر 
تفجير . وصل هذا الأمر إلى ذروته فى بعض المراحل» عندما استعان البريطانيون 
بعلماء دين شيعة من أصول هنديةء كانوا يحملون الجنسية البريطانية ويتلقون الأموال 
الغزيرة من البريطانيين بشكل غير مباشر» في ما يُعرف في المصادر التاريخية البريطانية 
بمسألة «وقف أوضء أو أوده» وذلك في إطار استراتيجية دفع الحوزة العلمية في 
النجف» ومعها كل رجال الدين في كربلاء والكاظمية ٠‏ إلى القيام بعمل سياسي يدعم 
باعي بن أجل تطويق التودرات وإضيقات E GS E‏ ولكته» دور 
خارج عالم الا ستشراق لا يبدو مألوفاً أو مقبولاً أو منسجماً مع تاريخ المؤسسة الدينية» 
التي أظهرت في مناسبات مختلفة أنها قليلة الاهتمام بالشأن السياسي . 


٠ 0)‏ )الصدر نقسه. 

) انظر الكتاب الوثائقي الممتاز الذي أعده أحمد الحاج هاشم الدفاعي: محاضر «مجلس الحكم 
الانتقالي!2؛ إعداد أحمد الاج هاشم الدفاعي (بيروت : دار الطليعةء .)5١١8‏ في هذه المحاضر يمكن للمرء 
أن يقرأ بإمعان التصورات الاستشراقية حول الشكلات الملحة في بلد جرى احتلاله وتحطيمه. لقد انشغل 
الأمريكيون (بول بريمر ومساعدوه) في مناقشات عقيمة حول العلم العراقي وفي سجالات لا معنى لها حول 
الرواتب التي يتقاضاها الوزراء والموظفون الكبار في مجلس الحكم» وما إذا يجب أن تراعي فارق الصرف بين 
الدولار والدينار العراقي. 


11۰ 


كانت النجف «ببنودها؛ من الملالي» الذين كانوا يؤلفون فريقاً منضبطاً إلى حد 
ماء وبجاليتها الفارسية الخائفة من الترحيل القسريء» وبطلابها الأفغان الفقراء الذين 
يعيشون على الصدقات والمعونات» تتبدى في أعين الضباط الكولونياليين مفتاحا 
سحرياً لعلاج التوترات المنذرة بالتفجر. كانت بحقء عالماً كوزموبولتياً نموذجياً يعج 

في هذا الإطار جرت عملية تنشيط تيار شيعي هندي ورعايته للعب دور أكبر 
في حقل السياسة. من بين مَّن استعان بهم البريطانيون من الرعايا الهنودء ثلاث 
شخصيات لعبت دوراً محورياً في هذه الحقبة من تاريخ النجف السياسي» وهم 
المجتهدون: هاشم الهندي النجفي ومحمود الهندي النجفي ومحمد مهدي 
الكشميري . هؤلاء» في الأصل» كانوا من الرعايا الهندو - إنكليز» الذين يقيمون 
في النجف وكربلاء منذ وقت طويل» وقد تم تكليفهم أو الطلب إليهم» قيادة تيار 
ديني عُرف في إحدى المراحل التاريخية بتيار المجتهدين”"''. 


وقف تيار المجتهدين» وعلى طول الخط› في مواجهة تيار عروبي قاده رجل 
الدين الكبير آية الله الشيرازي من كربلاء؛ التي انتقل إليها من مقر إقامته بسامراء 
ليطلق نداءه الشهير من هناك داعياً إلى صيانة عروبة العراق وإلى تنصيب ملك 
عري» حيث عرف تياره هذا باسم تيار الشريفيين. اللافت أن الهنودء في حوزة 
النجف في هذه الآونة» هم الذين نادوا علنا بالحكم البريطاني المباشر للعراق» وقادوا 
حملة الاعتراف بضرورة بقاء الاحتلال كحل وحيد لمواجهة الفوضى والاضطراب في 
الأوضاع العامة للبلادء وذلك عندما كان النقاش ينصبٌ» في هذا الوقت» على 
مسألة الاستفتاء (استفتاء ١9414‏ حول اختيار ملك عرب لحكم العراق بعد ظهور 
بوادر فشل الحل الهندي) الذي أثيرت فيهء للمرة الأولى وعلى نطاق محدودء مسألة 
الدستور. 

جاء استفتاء ١1914‏ الذي قاومه الخالصى من معقله فى الكاظمية بضراوة» 
حاكماً على فيصل ببطلان حق الولاية على العراق ونافياً أي بيعة له في أعناقهم» بعد 
سنتين فقط من الاحتلال البريطاني» وعلى أثر معركة سياسية جرت في النجف» 
ليكشف من حيث الجوهر عن إمكانيات وحدود التحول في الخطاب الكولونيالي 
الكلاسيكي السائد. ظهرت أولى بوادر التحول في الخطاب الكولنيالي البريطاني» مع 
تخلي إدارة الاحتلال عن يعض الحلول والموضوعات التقليدية التي راجت خلال العام 


(؟1) تيار المجتهدين هنا هو التيار الذي لعب فيه رجال الدين الشيعة من الهنود دوراً بارزاً وسانده رجال 
دين من الجالية الفارسية ومن العرب أيضاً مثل الرفيعي والطباطبائي. ش 


11۱ 


الأول. وبدلاً من تطوير ا موضوعات الرومانسية السياسية التي نادى فيها الجنرال مود 
عن التحرر من الطغيان التركي وتمكين الأغلبية الشيعية من الحكم بعد تخليصهم من 
الاضطهاد السني العثمانيء ومساعدتهم على تخطي إرث الاستبداد والانتقال إلى المدنية 
الجديدة؛ حلت موضوعة أخرى بدت شديدة المركزية في السياسة البريطانية» هي : 
مدير الاحتلال وتطوير فو سسا من خلال خلق أدوات عسكرية وسياسية ودن 
وعبر الالتفاف على سائر الوعود المقطوعة للعراقيين والتلاعب فيها. ولذلك جاء 
تحرك جماعة المجتهدين في إطار هذا التحول» وبالتوازي مع خلق تيار من رجال 
العشائر والشيوخ ورجال الدين الذين وافقوا على تنصيب مشروط للملك فيصل . 
أولا: فساد مالي وأصابع أجنبية 

كان من المؤمل أن تكتسب دعوة الهنود في الحوزة العلمية للنجف زخاًء من 
نوع ما في الشارع؛ مع قيام الإنكليز بتشجيع وتنمية وتطوير تيار شيعي» معظم 
وجوهه من رعايا فارس» وفيه فضلا عن ذلك» عدد قليل من الشيعة العرب بقيادة 
سادن الروضة الحسينية هادي الرفيعي في كربلاءء يدعو إلى القبول بالحكم المباشر 
بديلاً من الحكم الوطني والاستقلال . مارس تيار المجتهدين الذي تصدى لهذه 
المهمة» ضغطاً متواصلاً على بعض المراجع الشيعيةء ونجح» من خلال الرفيعي "° 

في الحصول على تواقيع أكثر من عشرين شخصية بارزة من رجال الدين والوجهاء 
الشيعة في كربلاءء صادقوا على مضمون مذكرة تدعو الإنكليز إلى البقاء فى العراق 
وحكمه حكماً مباشراً. وكان ذلك ذروة الضغط على الطائفة الشيعية 
البريطانيين بعد سنتين فقط من الاحتلال» ومع فشل وانبيار حلولهم الاستشر 
الهندية في مسألة الأرض» ل و 14 
والتعليم والحريات المدنية» وحتى على مستوى تشكيل قوة مسلحة تمارس أساليبها 
القمعية والقاسية على السكان» هي فى النهاية نسخة طبق الأصل من سلوك الشرطة 
الهندية ومع تنامي معارضة الخالصي الذي كان بحق شوكة من الحنظل المر في 
أفواههم ؛ أنہم سيتجهون إلى ت تغيير أسلوبهم في إدارة البلاد وربما القبول باستقلالها 
الشكلي . ولكنهم في الواقع › وبدلاً من ذلك قاموا بتعديل طفيف على موضوعات 
الخطاب الكولونيالي» بأكثر تما قاموا بإحداث تغيير جوهري في التدابير على الطبيعة . 
ولهذا بدا الانتقال من سياسة «جئنا محررين لا فاتحين» الاستشراقية التي نظرت إلى 


0 )لزيد من التفصيلات حول هذه النقطة» انظر: : فاضل الربيعي » «احتلال العراق وتداعياته عربياً 
ودولياً»» ورقة قدمت إلى : و SE ST‏ : بحوث ومناقشات الندوة الفكرية 
التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت : المركزء »)۲۰۰٤‏ ص .۲۷١‏ 


11۲ 


سكان بلاد ما بين النهرين كشعب من العبيد. الذين ستتجلى مهمة الغرب في 
تحريرهم وتمدينهم وتبذيبهم, إلى سياسة تشريع الاحتلال وتحويله إلى أمر واقع أبدي ؛ 
وكأنه سياسة ناجمة عن تفاقم المأزق» تمليها تكتيكات استشراقية جديدة بأكثر ما هي 
سياسة ذات طابع استراتيجي» يمكن الرهان مع الوقت» على تفهم دوافعها وحمايتها 
وتحسين درجة قبولها؛ وذلك عبر تأمين غطاء ديني من الأغلبية الشيعية هو في خاتمة 
المطاف سلسلة من الفتاوى والتحركات اليائسة وعديمة الجدوى 


لقد جاء كل هذا ليدفع بالمأزق السياسي والعسكري للإنكليز نحو مزيد من 
التعقيد. ولوقت ماء بدا أن تحرك المجتهدين الهنود المؤيد علناً للحكم البريطاني» 
سيجد آذاناً صاغية في الوسط الشيعي خصوصاً بعد تحرك الرفيعي في كربلاء. بيد أن 
صلابة موقف آية الله الشيرازي وهو الإيراني الأصل » ولكن العروبي الصادق في في 
مشاعره؛ وقدرته كذلك على تنظيم هجوم معاكس على منافسيه وخصومه من 
المجتهدين الهنود والعراقيين من أصول فارسية» هو الذي أعاد بجرأة وثبات طرح 
فكرة الحكم العربي للعراق من خلال تنصيب ملك عربي. أحبط موقف الشيرازي 
الصلب وتحركه السريع» مع انتقاله من مقره التاريخي في سامراء إلى كربلاء معقل 
المجتهدين» مناورات الهنود في حوزة النجف» التي كانت تلقى قبولاً ضمنياً من آية 
الله كاظم اليزدي . 

في هذا الوقت كان الخالصي المقرب من الشيرازي والمستمر في موقعه الفريد 
كصديق مقرب له (حتى أن ابنه؛ الخالصي الصغير كان الكاتب الوحيد تقريباً لفتاوى 
الشيرازي) يراقب تطور الصراع ضد الهنود. إن التنافس بين هنود الحوزة في النجف 
والمجتهدين في كربلاءء يعكس بالقدر ذاته» لا التنافس السياسي وحسب» بل 
وكذلك الصراع الفلكلوري التقليدي المستمر حتى اليوم بين الكربلائيين والنجفيين. 
Ty‏ . من هذه الزاوية سيكون مفهوماً. 
إلى حد بعيد» السبب الحقيقي لانتقال الشيرازي إلى كربلاء لقيادة معركة تنصيب 
فيصل» ومن ثم إعلان الثورة. كانت كربلاء تتمثل في عيني الشيرازي معقلاً دينياً 
وتجارياً يصلح لمقاومة النجف التي كانت في قبضة مواطنه رجل الدين من أصل إيراني 
آية الله كاظم اليزدي» الخائف والمتردد في مواجهة البريطانيين والذي كان يحتفظ 
بصداقة مثيرة للجدل معهم . حدث التحول في هذا الصراع جذرياً مع وفاة اليزدي 
وصعود دور الشيرازي. 

وعندما تم اختيار الشيرازي مرجعاً أعلى للشيعة» بدا أنه يحمل دلالات خاصة 
حين تراءى في صورة انتصار كربلاء «الثورية» على النجف «المترددة» . ولكن من أين 
جاء تيار المجتهدين هذاء ما هي جذوره ومصادره الفكرية. وما علاقته بالهنود في 


11۳ 


الحوزة؟ سوف أرسم» هناء إطاراً تاريخياً مكثفاً عن ظروف نشأة هذا التياز وجذوره. 
تود جذور هنود الحوزة العلمية”؟'' في النجف وكربلاء إلى بدايات النفوذ البريطاني 
في العراق التركي» وتحديداً إلى أعوام ٠۸۷١‏ - 6 . خلال هذه الأعوام كان 
هناك ما بين ثمانية إلى عشرة آلاف هندي يقيمون فى جوار المراقد المقدسة في النجف 
وكربلاء والكاظمية ببغداد؛ التي استقروا فيها كأقرب ملاذ لهم في دولة الإسلام . 

وكما لاحظ المؤرخ البريطاني ج. ج. لوريمر الذي يقدم هذه الإحصائية المستندة 
إلى معرفة ميدانية مباشرة فإن كثيراً من هؤلاء كانوا في منتهى الثراء» ويعيشون على ما 
يملكونه من أراض في الهند . لقد كانوا يتمتعون بميزتين : الانسجام المذهبي (الديني) 
مع جزء من سكان بغدادء والحماية الأجنبية كرعايا بريطانيين . ويبدو أن ج . ج 
لوريمر تمكن من عقد صداقة قوية ومؤثرة مع نُواب أقيال زعيم الجالية الهنديةء وأحد 
أبرز شخصياتهاء عندما استضافه نواب لوقت قصير في منزله المطل على النهر في 
الكاظمية ببغداد» والذي سوف يعرف تالياً ابشريعة النواب»*"' . 

كان لوريمر المفتون بشخصية نواب وكرمه وإحسانه؛ يجد في صديقه الهندي 
رجلاً هو خليط من فيلسوف وملك ورجل شديد الكرم والتواضع . في الواقع كان 
نوات ملكا إيابا عسوت عل بلك اون (أوخن) الي ماه البريطائيون مه ووا 
إلى ممتلكاتهم في الهندء الأمر الذي اضطره إلى أن يرحل من أوض إلى كنهوء ثم 
ليغادر الهند نهائياً ويستقر في بغداد بعد أن حرمه البريطانيون من حقه في الورائة؟ 
ولكن البريطانيين؛ وعلى أثر مفاوضات عسيرة مع مكتب الهند» وفي لندن» وسلسلة 
زيارات إلى أوروبا قام بها نواب نفسه للمطالبة برد أملاكه؛ وافقوا أخيراً على أن 
يدفعوا له سبعة آلاف روبية شهرياً من إيرادات أراضيه في مملكة مقاطعة أوده 
(أوض). عام ۱۸۸۷ توفي نواب أقيال في الكاظمية تاركاً ثروة طائلة» سوف تعرف 
في أوساط الطائفة الشيعية باسم وقف أوض 


. كان نظام توزيع عائدات الوقف يعتمد على فكرة اعتبار ثلث العائد مبلغاً 
منفصلا» يذهب بالكامل لإعانة الفقراء الهنود ممن كانوا يقيمون قرب المراقد المقدسة 
في العراق. ومن بين هذه الأسر أسرة الشاعر الشعبي العراقي مظفر النواب الهندية 


)١4(‏ على الأرجح أدى التلاعب بأموال الوقف الهندي من جانب بعض الموزعين الهنود دوراً في توسيع 
نفوذهم وفي بلورة تيار «الهنود» هذا. ولكننا لا نملك أدلة كافية عن حجم التلاعب في السنوات التالية 
للحوادث والحالات التي نتناولها هناء بسبب تكتم المصادر التاريخية على ذلك وهذا ما يدفعنا إلى الاقتصار 
على معاينة الحالات التي جرى الكشف عنها. 

)٠١(‏ مشرعة النهر تسمى عند العراقيين «شريعة» واسم النواب مأخوذ من اسم الملك الهندي الذي 
تسمّت به طائفة من فقراء الهنود الشيعة. 


11٤ 


الأصلء التي أخذت اسمها من اسم الملك نواب أقيال» حين عاشت مع بقية الأسر 
الهندية على صدقاته وإعاناته . ظل هذا النظام مطبقا حتى العام 40۲ من دون 
انقطاع د تقريباً؛ بينما كان يتم وزيع بقية العائدات على طلاب الحوزة ورجال الدين 
الشيعة العراقيين والفرس› بواسطة مجتهد يتم اختياره في كربلاء وآخر في النجف . 


كان المجتهد الموزع في كربلاء هو ميرزا سيد عبد القاسم الطباطبائي» المعروف 
بحجة الإسلام» وهو أحد الرعايا الفرس» بينما كان المجتهد الموزع في النجف هو 
سيد علي بحر العلوم» والأخير ظل في مركزه هذا كموزع حتى وفاته» حيث خلفه 
سيد محمد بحر العلوم . كانت المعونة المالية المنفصلة للفقراء الهنود توزع بشكل منظم» 
ووصل إجمالها حدود ثلاثة آلاف روبية شهرياً في كل من كربلاء والنجف والكاظمية . 
وفي حالات كثيرة تمت مراجعة قائمة هنود الكاظمية للتأكد من وصول المبالغ إلى الأسر 
الهندية الفقيرة» ولكن لم يتسن» قطء القيام بعمل مائل في النجف وكربلاء بسبب 
جملة مشكلاتء كان من بينها خداع ودهاء الموزعين الذين كانوا يتلاعبون بالمفتشين 
الإنكليزء ويمتنعون عن تقديم سجلات بالصرف بحجج واهية؛ بينما كان الموزع 
الهندي في الكاظمية أقل استعداد لإظهار مفاسده المالية ببذه الصورة المكشوفة. وهذا 
ما حدث بالفعل في سنة 1۸۸1 بعدما حامت شبهات؛ بالفساد المالىي » من حول 
المجتهدين في المدن المقدسة الثلاث والذين كانوا خليطاً من هنود وعرب وفرس . 

وبعد سلسلة تقارير وزيارات وتدقيقات قام بها ضباط بريطانيون كانوا يعملون 
ضمن المقيمية البريطانية في بغداد» حدثت بعض التعديلات الضرورية على قوائم 
المستفيدين من منحة الوقف الهندي» وذلك فى محاولة شبه يائسة لمواجهة تحايل بعض 
رجال الدين الشيعة من المجتهدين وتلاعبهم بأموال الفقراء الهنود. لم يكتف 
البريطانيون بهذه التدابير؛ بل قاموا في العامين التاليين بفحص سمعة المجتهدين 
الموزعين على الطبيعة في كل من النجف وكربلاء» ومن بين هؤلاء الذين جرى اختبار 
نزاهتهم » المورّعان الرئيسان للأموال ميرزا أبو القاسم وسيد محمد بحر العلوم . 

وقد لاحظ الرائدء و. تويدي في تقرير خاص عام 1۸۸۲ء عن دور المجتهدين 
وأميتهم ذ في المجتمع الشيعي وحقيقة مكانتهم العلمية» أن رجلي الدين» ميرزا وبحر 
العلوم كانا يقدمان نفسيهما للبريطانيين كمجتهدين بارزين المجتهد درجة علمية 
وليست لقباً وهما يلقيان» بوجه العموم. قبولاً من السكان ون کان يشوبه شيء من 
عدم الرضا بسبب طبيعة الوظيفة المنوطة بكليهما؛ بما هي وظيفة دنيوية لا تليق 
برجل الدين الورع الذي > يجب أن يكون حريصاً على سمعته من أي فساد مالي» وأن 
ينكد ضيه و وينأى بها بعيداً عن خدمة السلطات الدنيوية. وكما 
لاحظ التقرير؛ فإنهما يستحقان» مع ذلك» مرتبة مجتهد» تماماء كما قدما نفسيهما. 


110 


انصبٌ تقرير تويدي على محاولة درء شبهة الفساد المالي عن المجتهدين» ميرزا 
وبحر العلوم نظراً إلى حساسية هذه القضية» وذلك من خلال تفحص مكانة الرجلين 
في مجتمع النجف وكربلاءء لكنه وفي العام التالي تلقى تقريراً من راجا باقر حسين 
فايز أبادء وهو هندي من مملكة أوض وكان أحد الزوار الدائمين للنجف وكربلاء» 
وكان فضلاً عن هذه المزايا رجلاً غنياً وكريماً. قال راجا باقر حسين فايز أباد ‏ وهذا 
هو اسمه بالكامل ‏ في تقريره للضابط الإنكليزي : إن عائدات وقف أوض يُساء 
استخدامها» وأن الموزعين» ميرزا وسيد محمد بحر العلوم ليسا مجتهدين» أي فقيهين؛ 
بل هما طالبا علم ليس إلا وأنبما وضعا يديهما على معظم المبالغ المخصصة للتوزيع» 
وبالتالي ؛ فإن الفقراء عموماً والفقراء الهنود خصوصاً لا يحصلون منها إلا على النزر 
اليسير . كانت شبهة الفساد المالي تحوم من حول المجتهدين الموزعين» عندما جرى 
إعداد قوائم جديدة بالمعدمين والمعوزين من أبناء الجالية الهندية في العراق» بحيث 
ال ا RS‏ نصف أو ربع روبية 

فقط . أما المبالغ الضخمة فكانت تذهب لصالح المجتهدين الذين أثروا ثراء فاحشاً. 


كانت مشكلة فصل المعونة المالية الخاصة بالفقراء الهنود عن إيرادات وقف 
أوض قد حلت عملياً بشكل غير رسمي في العام ۱۸۸۷ء وتم فصلها بحيث يتمكن 
الفقراء الهنود من الحصول عليها بسهولة وانتظام . لكن بعد عامين من هذا التاريخ › 
تم النظر في شكاوى جديدة عن الفساد المالي التي اشتبه فيها في عمل ميرزا وبحر 
العلوم مرة أخرى» وأتضح للبريطانيين في هذه الأثناء أن الموزع في كربلاء ميرزا أبو 
القاسم غارق في الديون؛ إذ استدان ثلاثة عشر ألف روبية من صراف المقيمية 
البريطانية بضمان أموال وقف أوض» أما بحر العلوم في النجف فقد تبين للبريطانيين 
أنه قد أثرى بالفعل . في العام 1844 تفجرت فضيحة التلاعب بأموال وقف أوض 
في مدينتي النجف وكربلاء . يكتب تويدي عام 184١‏ وعلى أثر سلسلة أخرى من 
المحاولات اليائسة لإصلاح الوضع الالي في وقف أوض ما يآي"'“: 


«وهكذا ظل بحر العلوم. كماهوىى لا يكدره شيء» كماظلت طرقه في 
التوزيع ملتوية . إن التوزيع عن طريق حجة الإسلام في كربلاء وبحر العلوم في 
النجف هو بالتأكيد فضيحة صارخة: . 

ويبدوء من سلسلة موثقة من الوقائع» أن المجتهدين ميرزا وبحر العلوم» كانا 
يحتفظان لنفسيهما شهريا بمبلغ ٠١‏ روبية. وقد تلقى ضابط بريطاني قام بئفسه 


()لوريمرء دليل الخليج. 


بالإشراف على حل مشكلة الوقف تقريراً يفيد ما يلي : 


«لقد اعتاد الموزعون السابقون والحاليون أن يسجلوا أسماءً في كربلاء وهمية في 
الحسابات» ويأخذوا الأموال لأنفسهم . [نهم ما زالوا يقومون ببذا؛ بل ازداد نشاطهم 
فهم يدونون أسماء أطفالهم وخدمهم وعبيدهم . . وهناك شيء آخر يقوم فيه الموزعون» 
رع لحيل اا قرام فل ی ر روييات ف ایم 
ولكن الشخص الفقير لا يأخذ في الحقيقة سوى روبية واحدة من أجل توقيعه» أما 
الباقي فيأخذه الموزع . ويقال إنه لو أفشى هذه الحقيقة فسوف يحذف اسمه نبائياً؛ . 


أما في الكاظمية فقد كان الموزع الهندي يدفع لنفسه راتباً شهرياً بمعدل أكثر من 
٠١‏ روبية. كان البريطانيون» قبيل احتلالهم العراق؛ يصارعون مشكلة الفساد 
مالي في وقف أوض الهندي من دون كثير أمل في الحصول على حلول عملية . لقد 
وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام طبقة فاسدة من رجال الدين الشيعة» قامواء في 
الأصل» بخلقها في إطار نظرة الاستشراق إلى دور المؤسسة الدينية في الشرق. ومما 
ضاعف من درجة تعقيد مشكلة الوقف وعرقل إمكانيات حلهاء أن حالة المجتهدين 
الشيعة بين عامي ١9407‏ -1900 كانت تتسم بأنها شديدة الحساسية من الناحية 
السياسية بالنسبة إلى البريطانيين؛ فقد كان النفوذ الإيراني ظاهراً وبارزاً ب بين المجتهدين 
في كربلاء والنجف وبخاصة بين المجموعات التي تحمل الجنسية الإيرانية . . ومن 
الواضح أن هذا العامل كان شديد السلبية بالنسبة إلى البريطانيين؛ فهم إذا ما رغبوا 
في سما شاملة لأموال الوقف الهندي؛ ففي هذه الحالة كان عليهم مراعاة ما يجري 
في إيران في هذا الوقت وتأثيره في استراتيجية بريطانيا في المنطقة. كانت 
الاحتجاجات الصاخبة في إيران مدل الاسر الفاجارية وقد عناشد مط جان» 
تجري وفقاً لتوجيهات المجتهدين في كربلاء والنجف . وهمء فوق ذلك أذوا دوراً 
بارا في إشحال اا متدما كانت طن و قارا بلع طهران واو الد 
الإيرانية . وكانت تلك ذروة المفارقة الساخرة التي بزغت من قلب الاستشر شراق . ويفيد 
تقرير كتبه من طهران الوزير البريطاني المفوض السير أ. هاردنج ما يي" : 

«إن نفوذ المجتهدين في كربلاء والنجف يمكن استغلاله عن طريق المفوضية 
البريطانية ببغداد وذلك لمنع القلاقل والاضطرابات في إيران ولإحباط السياسة 
الروسية فيها؛ . 


وبتوصية من هاردنج نفسه تمكن العقيد نيو مارش من تجنيد اثنين» أو ثلاثة من 
(19) المصدر نفسه. 


11۷ 


المجتهدين لقاء راتب شهري . وكما يقول لوريمر فقد تمكن الموصي في حالتين (أن 
يقنع أحد المتسلمين ‏ للأموال ‏ بأن يعطي راتباً شهرياً لهذين الصنيعتين). وفي حالة 
ثالثة اقترح هاردنج نفسه على حكومة الهند البريطانية تخصيص راتب شهري قدره 
٠‏ روبية (نحو ٠‏ جنيه إسترليني سنوياً) لشخص يدعى الشيخ محمد مهدي 
بوصفه مجتهداً. وفي الواقع تعذّر علي - أثناء البحث ‏ التحقق من صحة رسم الاسم 
بهذه الطريقة؛ إذ يبدو أن الشخص المذكور لم يكن من المجتهدين الكبار كما يزعم 
هاردنج ؛ وربما كان أحد طلاب الحوزة الصغار» ومن بين هؤلاء عدد كبير من أبناء 
الجالية الفارسية ممن يحملون الاسم المركب نفسه. 

تكشف هذه التوصية والتقارير الخاصة بتجنيد بعض المجتهدين من الرعايا 
الفرس في النجف وكربلاء» الحقيقة المتلاعب فيها بشأن وظيفة المستشرقين الفعلية . 
لقد كان هؤلاء ومعظمهم من الضباط والرحالة والأطباءء يقومون» وعلى أكمل 
وجهء برسم الأجزاء الضرورية من الصورة الاستشراقية التي تخيلها صناع السياسة 
في لندن ومكتب الهند. 

على الطرف الآخر من نشاط القناصل الإنكليز وبموازاته؛ كان الرحالة يتدفقون 
على كربلاء والنجف والكاظمية؛ يتسقطون كل كبيرة وصغيرة عن عالم الشيعة› 
ويتلقون مساعدة صريحة من القناصل الفرسء أو من الرعايا الأجانب فى المدن 
المقدسة (هنود» بنجاب» فرس) . 1 


ثانياً: برتغاليون تحت شرفات الأضرحة 

يحتفظ تاريخ النجف الحديث بسجل ثرّء لأقدم الرحلات الاستشراقية التي قام 
بها المغامرون الأوائل في إطار مسح الشرق. إن أقدم هذه الرحلات التي قام بها الآباء 
ب الل E‏ مقارنة 
بالاهتمام البريطاني بالمدن المقدسة في العراق. كانت رحلة”*'' بيدرو تكسيرا ه:ل»5) 
(ها#×٠٣‏ الطبيب البريطاني الذي جعل من هواية المجوهرات» آنذاك تجارة رابحة» 
واحدة من أقدم الرحلات الاستشراقية» التي هدفت إلى مسح عالم النجف الروحي 
والعدران والثناني رالا خا حا ركان ت أن تود عله الرسلات 


الطر قات , و المدار س الدينية وشرفات الأ حة اماد من الأفغان و الهنو دو الها اه 


(۱۸) انظر : جليل العطية ء #كربلاء في عيون الرحالة الغربيين ٠»‏ ورقة قدمت إلى : دراسات حول کربلاء 
ودورها الحضاري: وقائع ندوة علمية عقدت في لندن (الكويت : مؤسسة الرهراء» ,))١94895‏ ص .١١١‏ 


١14 


والفرس والأتراك. في هذا الوقت شهد العالم صعود الدور الاستعماري للبرتغال. 
وفي هذا الوقت» أيضاًء كانت النجف تمضع كلياً للإدارة العثمانية التي سهلت 
لخد رجالات العشائر النجفيين إمكانية القيام بدور «الملك» غير المتوج على المدينة . 


كان ناصر المهنا أميراً لعشائر جشعم في أطراف كربلاء» ولكنه تمكن من إدارة 
شؤون النجف بواسطة شبكة من المصالح المالية والرشى وأشكال النفوذ العشائري . 
وعندما قرر تكسيرا التوجه إلى النجف عام 158١‏ منطلقاً من شواطئ إيطالياًء فالخليج 
RCS‏ طبور اليه في عه مايه طروي 
تماماً» كما تشكل الهدف الاستعماري أمراً يستحق المغامرة . في الرابع والعشرين من 
أيلول/ سبتمبر ٠١١ ٤‏ وصلت قافلة تكسيرا إلى كربلاء . وكان أول ما لاحظه الطبيب 
التاجر أن المدينة تعج بالإيرانيين» بعد أن انسحب الأتراك نحو بغداد تحت القصف 
الإيراني . ومع ذلك هرب قسم كبير من الرعايا الفرس تاركين المدينة التي أحبوها تواجه 
قدرهاء من دونهم» تحت وطأة القصف» حيث اشتدت الحرب الإيرانية ‏ التركية . 


كان البرتغاليون» كما لاحظ لونكريك في أربعة قرون من تاريخ العراق 
'الحديث”' 2 يزاون البريطانيين في شواطئ البصرة إلى الحد الذي راحت فيه 
مراكبهم وسفنهم ترتطم بعضها ببعض؛ بينما كان الرّحالة البرتغاليون يقومون» من 
جانبهم» باستكشاف عالم النجف السحري . ولكن قبائل المنتفك العربية» أقوى قبائل 
الجنوب (السنية) والتي قررت طرد البحارة البرتغاليين والاستيلاء على مراكبهم » 
تسببت في حدوث انقطاع مفاجئ «للاستشراق البرتغالي»؛ وربما إلى تراجع الاهتمام 
جزئياً بهذا العالم . 

كان العراق في هذه الآونة حلماً برتغالياً من أحلام البحارة والقراصنة الذين 
راحوا يجوبون سواحل البصرة بحثاً عن موطئ قدم. وبكل تأكيد أذّى اندحار 
الاستعمار البرتغاليء وتراجعه أمام القوة البحرية البريطانية الصاعدة والطموحة إلى 
بسط النفوذ في شواطئ الخليج العربي» دوراً حاسماً في تراجع الشغف 00 
الأوروبيين بالمدن المقدسة» التي تركت» كلياً آنئدء للعناية الإنكليزية . . وعلى 
الأرجح 0 الصعود البريطاني في تلاشي الحلم البرتغالي كلياً؛ بل وفي 
انكماش الاستشراق البرتغالي'". يكتب القنصل البريطاني في كرمنشاه تقريراً 


(19) ستيفن هيمسلي لونكريك» أربعة قرون من تاربخ العراق الحديث» ترجمة جعفر الخياط (بغداد: دار 
الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع» .)5٠6١5‏ 

)۲١(‏ حول الصدامات بين البريطانيين والبرتغاليين في البصرة ودور قبائل المتنفك. انظر: المصدر 
نفسهء ولوريمر. دليل الخليج. 


18 


مقتضباً يتضمن تقديراً لثروة بعض رجال الدين في كربلاء والنجف ما يلي : 
«إن ثروات ‏ المزورين ‏ أي الذين يطوفون بالزائرين والسادة ‏ رجال الدين 
الذين ينتسبون إلى شجرة نسب النبي - كبيرة جداً؛ فكليدار كربلاء يملك كما يقال - 
١‏ مليون فرنك فرنسي»'". 
في الواقع لا يعرف الكثير من العراقيين حجم الثروة الهائلة التي تكدست بين 
أيدي رجال الدين الشيعة داخل الحوزة» لا بالأمس البعيد ولا اليوم . واعتباراً من 
مطلع القرن الماضي عندما كان القناصل الغربيون يكتبون تقاريرهم عن ثراء هذه 
الطبقة» كان المال الشيعي يتدفق من دون انقطاع . لقد تحول المال إلى سر ديني طوال 
ما يزيد على قرنين متواصلين . وخلف الأسوار الصماء للمدارس الدينية كانت 
القصص المسلية عن هذا الثراء تنتشر بين التلاميذ الفقراء الذين عاشوا على الكفاف» 
ولتغدو مادة من مواد التشهير المبطن بالفساد المستشري . 
وإضافة إلى النقد السائل الذي كان يتدفق بين أيدي ملالي النجف وكربلاءء 
كانت هناك إقطاعات من الأراضي الواسعة تتبع الحوزة» أو أصبحت تحت 3 تصرفهاء 
أو من أملاكها؛ يتلاعب فيها الملالي الكبار كفا ما یاون" . ولكن العثمانيين 
قاموا في وقتٍ تال بوضع هذه الأراضي تحت سلطة الأوقاف التابعة للإدارة العثمائية 
في العراق. ولأجل مواجهة هذا التدبير الذي أنزل الروع في قلوب الإنكليز والفرس 
على حد سواء (لأ: نهم كانوا في الواقع ينسقون بشكل جيد في ما بينهم لترسيخ مركز 
الحوزة ووضع الثروات الطائلة تحت تصرف رجالاتها) فقد قاموا بمطالبة الواهبين من 
رجال الخير والأثرياء الشيعة الهنود والإيرانيين» بأن يطلبوا الحق في رقابة قنصلياتهم 
طرق وأشكال توزيع الأموال التي هبونها. 
يبدو أن البريطانيين والإيرانيين تنبهوا في وقتٍ متأخرء بالتنسيق في ما بينهم» 
على صعيد رعاية الحوزة (وبطرق خفية بالطبع ومن وراء ظهر العثمانيين) إلى أهمية 
الدور الذي يمكن أن تؤديه القنصلية الإيرانية ودار المعتمدية البريطانية» سواء بسواء» 
وكتفاً لكتف وفي تنسيق شبه تام في بغداد؛ لا على صعيد مراقبة تصرف العثمانيين 
إزاء تدفق الأموال إلى شيعة العراق» وإنما عملوا معاً. كذلك» من أجل عرقلة 
الإشراف العثماني على هذه الأموال. وأكثر من ذلك. بدا أن البريطانيين كانوا 
يواجهون نمطا مزعجاً من «السيطرة العثمانيةة على المراقد المقدسةء أو ما افترضوا أنه 


(۲۹) كربلاء كما وصفها بعض المستشرقين الفرنسيين» مثل د. قيس جواد العزاوي ود. نصيف الجبوري. 
انظر : دراسات حول کربلاء ودورها الحضاري: وقائع ندوة علمية عقدت في لندن. 
(۲۲) المصدر نفسه» ص .1٤١‏ 


1۲۰ 


«سيطرة؛ عثمانية على طقوس الزيارة الخاصة بالمراقد المقدسة بالنسبة إلى الأجانب» 
حيث فرضواء ولاعتبارات محض دينية وطقوسية» لبس الطربوش وخلع الحذاء عند 
أداء الزائر الأجنبي مراسم الزيارة. والمثير أن هذه الطقوس التقليدية التي حرص 
العثمانيون على إلزام الزوار الأجانب (المستشرقين) بهاء قد نُظر إليها من جانب 
البريطانيين ومن دون وجه حق» على أا تنتمي إلى عام العثمانيين السني». حتى إن 
مُرسال زوج السيدة ديولافوي غضب من كليدار كربلاء» عندما طالبه هذا بلبس 
الطربوش وخلع الحذاء قبل الدخول إلى المرقدء معتبراً ذلك دليلاً من بين دلائل عدة 
على «التعسف؛ العثماني في فرض الرموز السنية . ولم يكن الأمر من هذه الزاوية 
صحيحاً بأي حال» إذ لم يكن غطاء الرأس محض رمز سني ؛ بل كان تقليداً شيعياًء 
أيضاً» من تقاليد الاحتشام المطلوب في مثل هذه المناسبات . 


في حقيقة الأمر لم تكن هناك أي سيطرة ذات طابع سياسي من جانب العثمانيين 
على المراقد الدينية» ولكن العثمانيين الذين هالهم غرام الأوروبيين المفاجئ بالعراق» 
وصاروا يتدفغون"أقواجا الان المد من دون القطاع: وفوق ذلك رأوا بأم 
أعينهم أعداد «النصارى» الغربيين الراغبين في إشباع فضولهم من «العالم السري 
للشيعة» و«طقوسهم؟ المثيرة للخيال؛ وجدوا أنفسهم مضطرين إلى إبداء نوع من 
التشدد في مراسم الزيارة للعتبات المقدسة» بالنسبة إلى النصارى الغربيين بشكل 
خاص» وحملهم على التزام الضوابط الشرعية في هذا النطاق وفي أساسها احتشام 
النساء. لم تكد أصداء هذه «السيطرة» المزعومة والتي افترض وجودها الضباط 
الإنكليز والقناصل والمستشرقين الغربيين» تبلغ أسماع القنصل الإيراني في كربلاءء 
حتى بادر بنفسه إلى استقبال المستشرقين لسماع شكاويهم . في هذا الوقت كان الرعايا 
الفرس في النجف وكربلاء يراجعون المعتمدية البريطانية مثلما حدث عام ١٠۹٠ء‏ 
مطالبين بوضع حد لا أعتبر تجاوزات وسرقات تركية تجاوزت حدودها”'" . 

في عام 1۸۸١‏ زارت المستشرقة الفرنسية جان ديو لافوي ((إه6هاناه21 ءمهق) 
مدينة كربلاء وهناك وضعت كتابها تحت الحجاب . إن هذا التاريخ مهم للغاية بالنسبة 
إلى الاستشراق الشيعي ؛ ولنقل بالنسبة إلى وظيفته في رسم صورة مسلمي الشرق 
الذين «يعانون عقدة الحجاب» . كان برفقة ديولافوي زوجها مرسال وهو عام آثارء 
أبدى اهتماماً خاصاً بمدينة بابل التاريخية القريبة من كربلاء ين 
الج اتير كارت لتعريي a a‏ 
المستشرقة الفرنسية» وبإنشاء أدبي فخم ومتكلّف يليق بعصر الاستشر شراق »› لحظات 


() عل حد تعبير القنصل البريطاني في كرمنشاهء انظر: المصدر نفسه. 


1۲۱ 


اللقاء الحار بالقنصل الإيراني في كربلاءء في عام ١‏ قائلة إنه (موظف حترم 
ارتسمت سنواته الأربع والثمانون على وجهه. هذا الدبلوماسي العجوز محوط بعصابة 
من الملالي ؛ يأمر هؤلاء ويبعث أولعك)0*"' , 


أبلغ القنصل الإيراني السيدة الفرنسية وزوجها صراحة أن كليدار كربلاءء 
المسؤول عن تنظيم الزيارة غائب عن المدينة وأن عليهما انتظار عودته» وأنمما لن 
يتمكنا من التجوال ‏ كما يرغبان ‏ في شرفة ضريح الإمام الحسين» لا لأن الطقوس 
الدينية الخاصة بزيارة الضريح تحرم ذلك» وإنما لأن «سلطة الأتراك الاستبدادية» 
حسب قوله هي التي تحرم على المستشرقين «النصارى» الاستمتاع بالأجواء الدينية 
الشرقية الساحرة الغامضة والأسطورية. وكان (لهذا الجواب وقع سيئ علينا لأن 
ا لجميع يعرفون جيداً أن غياب الكليدار لا يُعوض”*" . 


بيد أن القنصل الإيراني الذي ل يكن ليتوقف عن الكلام» وبتفاصيل مملة عن 
قدرة الشاهنشاه الإيراني ومناقبه» ظل يشتكي» مع ذلك» من الوضع السيئ للجالية 
الفارسية في النجف وكربلاء . تكتب ديولافوي قائلة : إن القنصل الإيراني بدأ حديثه 
بالتباكي والشكوى من استمرار تدهور مكانة الفرس في المدينة» فهم مرغمون على : 

«الخضوع لرغبات الموظفين العثمانيين. وينهي ‏ القنصل ‏ تباكيه بمحاولة 
إقناعنا بأن السلطات التركية هي وحدها القادرة على إدخالنا إلى الجامع الشيعي 
(ضريح الإمام الحسين) . هذه الحجة واهية . لكن مرسال (زوج المستشرقة) أبدى له ما 
يعني تصديقه» ولكي يتخلص من الأمر» يخرج مرسال من جيبه رسالة من والي بغداد 
معنونة إلى مأموره في كربلاء». 

أسقط في يد القنصل الإيراني الذي استخدم كل مهاراته في الكذب» ولم يجد 
أمامه من سبيل للتخلص من الفضيحةء سوى أن يأمر بإرسال أحد الخيالة لإبلاغ 
الكليدار بالحضور حالا إلى المدينة لتسهيل زيارة المستشرقين الفرنسيين. كانت 
استراتيجية الإيرانيين في المدن المقدسة تعتمد على عرقلة زيارات الأوروبيين وتعقيد 
الظروف أمامهم» وحتى إشعال الغضب في نفوسهم ثم رمي التهمة على الأتراك : 

«خرجنا بعد لحظات من كربلاء ونحن مستاؤون من الكليدار والقنصل والمسجد 
والحسن والحسين وعمر وأبي بكر والفرس والأتراك والسنة والشيعة»"" . 


,١867؟ المصدر نفسهء» ص‎ )۲٤( 
المصدر نفسه.‎ )١5( 
المصدر نفسه.‎ )۲١( 


فل 


وهكذا راح الدم الفرنسي يغلي في عروق المستشرقينٌ مع كل إجراء» يمكن 
تصميمه بدهاء في أروقة القنصلية الإيرانية من أجل تصعيد الموقف الأوروبي برمته 
ضد السلطنة العثمانية؛ التي رسخت صورتها حينئذٍ في المخيال الأوروبي كمملكة 
«للشيطان» . إن الدور الذي أدّته كتابات المستشرقين الأوروبيين فى تصعيد الحملة 
العسكرية على السلطنة» من خلال التحريض تارة» ومن خلال النقد المشبع بالازدراء 
والاحتقار تارة أخرى» يمكن أن يصنف من بين عوامل عدة أخرى» كعامل أساسي 
في تصميم الصور النمطية الأولى للشرق المسلم . 
من الواضح أن الأصابع الإنكليزية كانت تعبث في الخفاء بواسطة القناصل 
الإيرانيين» الذين لم يترددوا في التنسيق مع «النصارى» الغربيين من أجل إطاحة 
خصومهم المسلمين فيإستانبول» حتى لو أدى ذلك» في بعض الأحيان» إلى حرمان 
الزوار الأجانب من الاستمتاع برؤية عام الشيعة الساحر . في هذا النطاق أذّى الال 
المتدفق من بومباي إلى النجف وكربلاء دوره كاملاً في إشاعة جو خانق من الفساد. 
وهنا أربع قوائم بالمبالغ والمرتبات التي كان المجتهدون يتسلمونها شهرياً كما نشرها 


ج. ج. لوريمر: 
الجدول رقم (۱۳) 
قائمة كربلاء 
في نيسان/ أبريل عام 110 كان المستحقون من المجتهدين بمقتضى وقف أوض في 
كربلاء والنجف هم : 





)197٠ سيد محمد باقر الطباطبائي (وكان المجتهد الموزع الوحيد حتى عام‎ - ١ 
؟ - سيد محمد هاشم القزويني‎ 

۳-الشيخ علي يزدي 

٤‏ سيد مرتضى حسين (هندي) 

6 سيد محمد كاشاني 

5 - سید علي تانجابونٍ 

سید عمد باقر هان 

۸- کلبي باقر (هندي) 

4- سيد حسن كومي 


المصدر: ج. ج. لوريمرء دليل الخليج. ترجمة مكتب الترجمة بديوان حاكم قطر (بيروت: دار العربية» 
۷ -_ 014۷ ج £ : القسم التاريخي . 











رفن 


الجدول رقم (۳ ۲) 
قائمة النبجف 


)۱۹۰۲ سيد محمد بحر العلوم (المجتهد الموزع الوحيد حتى عام‎ ١ 
الشيخ عبد الله مازاندراني‎ ۲ 

٣‏ سيد محمد حسن الجواهمري 

ملا محمد كاظم الخرساني 

© الشيخ عبد الحسن 


١‏ -الشيخ فتح الله شريعة 
۷ سيد أبو القاسم أشقواري 
۸ أخوند ملا على خنساوي 
4 - سيد أبو تراب خنساوي 
٠-آغا‏ شيخ مهدي 





الجدول رقم (1-”7) 
بيانات بالمرتبات وأصحاما (۱۹۰۲ - ۱۹۰۳) : 
قائلمة كربلاء 
في أيار/ مايو ۱۹١١‏ ألغي توزيع الاعتماد المالي المنفصل لإعانة الهنود حتى في 
الكاظمية . والمجتهدون الآتية أسماؤهم كانوا يتلقون مرتبات شهرية منتظمة من 
الوقف . وهذا بيان بالمرتبات وأصحاما: 
١‏ سيد محمد باقر (حجة الإسلام) وهو شيخ المجتهدين الموزعين 


۲ سيد هاشم القزويني 


4 سيد جعفر الطباطبائي 
٥‏ الشيخ علي يزدي 


1- سید مرتضی حسین 


/ا- سبته حسين 





المصدر : نص مقتطف حرفياً من: لوريمرء المصدر نفسه. 


5 


الجدول رقم (7- 5) 
بيانات بالمرتبات وأصحابما (19-17-:19): 
قائمة النحف 


٠١‏ روبية مخصصة كلياً ل: ١‏ - سيد محمد بحر العلوم (شيخ المجتهدين والموزعين) 


۰ روبية لكل من: ”ملا علي نهاوندي 
۳ الشيخ محمد حسن الجواهري 
؟ ‏ الشيخ عبد الله مازندراني 
6 عبد الحسن 


٣‏ سيد محمد هندي 





ما يلفت انتباهنا في هذه القوائم وبشكل خاص للغاية» وجود اسم آية الله 
عند اطم اغزامان الذي سوف يصبح في ما بعد واحداً من أكبر المراجع الشيعية 
فى النجف . إن جزءاً من اللغز المحير في موقف الخراساني من أحداث ثورة النجف 
المسلحة عام 1914 ضد الاحتلال البريطاني للبصرةء قد يكمن في صمته أو تردده 
عن مواجهة بعض مواقف آية الله كاظم اليزدي المرجع الشيعي الأعلى؛ عندما تردد 
هذا في اننا موقف حازم من البريطانين أناء الثورة السلحة؛ أو حتى أثناء محاولة 
منعهم من نفي» بعض الثوار إلى خارج العراق» وبالتالي معالجة مسألة المعتقلين وفي 
مقدمهم الشيخ محمد العبطان وشقيقه سليمان العبطان . من المؤكد أن آية الله كاظم 
اليزدي اتخذ موقفاً ضعيفاً لا يليق بمكانة المرجع الأعلى من رعاياه ومقلديه» الذين 
قادتهم حماستهم الوطنية الشديدة إلى مواجهة مبكرة للاحتلال البريطاني ٠‏ وبينما التزم 
الخراساني جانب الصمت؛ وبصعوبة بالغة نطق ب بشيء له قيمة أو تأثير في الأحداث» 
كان آية الله اليزدي يتحدى - تقريباً - مشاعر الأهالي في النجف وخارجهاء ممن أبدوا 
تعاطفاً شبه معلن مع الثوار. 

ولذا دارت الشبهات من حول هذا الموقف؛ ورأى البعض أن آية الله اليزدي 
و(إلى حد ما الخراساني) اتخذ موقفاً متواطئاً مع المحتلين بطريقة محزية. بيد أن 
الانضاف بق القرك إن موقت اق ان كا أقل تة اسقط من رنت 
اليزدي في هذا الجانب على وجه التحديد. في ما بعد ومع الاحتلال الأمريكي 
للعراق أي بعد نحو ١‏ عاماً سوف يتذكر العراقيون موقف اليزدي وتجري عملية 
مُطابقة حتى في الأوساط الشعبية بين موقفه وموقف السيستاني . إن المطابقة المذهلة 


١" 


لصورة السيستاني مع صورة اليزدي؛ ومع وقوع العراق من جديد في قبضة 
الأمريكيين والبريطانيين» وحيث راح نقاد موقفه يقولون إنه أعاد إنتاج موقف 
اليزدي» إنما تستمد قيمتها من حقيقة أن عصر الاستشراق الكلاسيكي هو الذي أمل 
هذا الموقف على الرجل» بخلاف ما كان رعاياه ينتظرون» بينما فرض عصر ما بعد 
الاستشراق على آية الله السيستاني أن يتصرف تقريباً بطريقة مثيرة للجدل وحتى 
للسخط. ما هو مهم للغاية في المطابقة هو التالي: لقد أدى خضوع بعض رجال 
الدين الكبار في النجف لمنطق السيطرة الاستعمارية» وتراجعهم أمام القوة الغاشمة» 
وإلى حد ما قبولهم بمنطق الإنكليز القائل إنهم جاءوا من أجل خلاص العراقيين 
وليس لاستعبادهم. إلى تحطيم صورة المرجعية في أعين الكثيرين من كانوا يراهنون 
على موقف أكثر صلابة. وفي هذا الجانب» يمكن للمرء ء أن يبدي قدراً أكبر من 
التفهم للمغزى الحقيقي» الذي انطوت عليه في النهاية» سلسلة الفضائح المالية في 
أوساط المرجعيات . ومن الواضح أن البريطانيين تركوا رجال الدين #يفسدون في 
البيضة» أي أن الإنكليز تعمدوا ترك المال من دون رقابة لينساب بين أيدي رجال دين 
صغار وكبارء ليتورطوا في التلاعب فيه. 


وهكذا؛ وبينما كان هؤلاء يغرقون في الفساد المالي؛ فإنهم كانوا يصعدون للتو 
أعلى المراتب في سلم المرجعية . وهذا هو الهدف الفعلي للبريطانيين من غض الطرف 
عن التلاعب بالمال. لقد كانوا يرغبون في خلق طبقة من رجال الدين مسيطر عليها 
فعلياً بواسطة فضائح الالء وبحيث يصبح صعودها متلازماً مع صعود الشبهات 
المالية من حولهاء ولتصبح في مرحلة ماء أكثر حذراً إزاء أي موقف معادٍ للإنكليز» 
خشية فتح ملفات الفساد على الملا . وبوجه الإحمال؛ فإن هذه القوائم قد تجعل 
الموقف برمته قابلاً للفهم بصورة أفضل . إن رسالة محسن أبو طبيخ أحد قادة انتفاضة 
النجف ضد البريطانيين والتي ناشد فيها كاظم اليزدي التدخل لإطلاق سراح 
المعتقلين (لا له من نفوذ ومودة) عند البريطانيين بحسب النص ال حرفي للرسالة. 
تدعم تصورنا عن مغزى الموقف الذي يوصف بالمتخاذل حيال مسألة مقاومة 
الاحتلال. صحيح أن اليزدي وبعد رسالة أبو طبيخ عمل على استعمال مودة الإنكليز 
لهء وساعد على الفور› في إطلاق سراحهم؛ ولكن الموقف برمته لم يكن ليحظى» 
قط» بدرجة مقبولة من التسامح من جانب الكثير من المصادر التاريخية؛ وظل إشكالياً 
بصورة مأساوية بالنسبة إلى اليزدي والخراساني استطراداً . 

كما تلقي هذه القوائم والتقارير المصاحبة لهاء ضوءاً ساطعاً على شبكة 
العلاقات المالية الملتوية بالبريطانيين» والتي نسجتها بعض المراجع الدينية تحت ستار 
أموال الوقف الهندي» كما تكشف بجلاء عن الحقيقة المتلاعب فيهاء في الكثير من 


١5 


المؤلفات التاريخية عن دور المجتهدين وتيارهم . فهل كانت للملا الخراساني»ء عبر هذه 
الصلات المالية المتينة والمنتظمة مع البريطانيين» علاقة أبعد من حدود تلقي أموال 
الوقف والتغاضي عن الفساد؟ أم أن الأمر برمته لا يتعدى هذا النطاق المحدود والذي 
لا يستوجب إلقاء التهم جزافاً؟ ليس من واجبي الإجابة عن أسئلة لا أملك عنها أي 
جواب؛ ولكن من واجبي إثارة المسألة في حدودها وأبعادها هذه وحسب. 


الأمر امثير في هذه القوائم» هو أنها تقدم تأويلاً جديداً لا للموقف الفقهي 
الذي برر به آية الله العظمى والمرجع الشيعي الأعلى للشيعة في هذا الوقت كاظم 
اليزدي» ومن خلاله» موقفه السياسي من الاحتلال» وضغوطه التي مارسها على 
المراجع الدينية في النجف وحملها على السكوت حيال مسألة الثوار؛ وإنما تقدم 
بدرجة موازية» من حيث القيمة التاريخية » تأويلا غير مسبوق للأسباب والدوافع 
التي حدت بالبريطانيينء إلى الموافقة على تدفق هذا الكم الهائل من الأموال شهرياً إلى 
مراكز الشيعة؟ في هذا النطاق يروي لي الشيخ جواد الخالصي (حفيد الخالصي 
الكبير)"" أن عباس الخوئي (ابن المرجع الأعلى للشيعة آية الله العظمى الخوئي) 
أخبره قبل أسابيع فقط من لقائي معه» أن والده ظل يرسله لتسلم الأموال من 
القنصلية الهندية في كربلاء (وقف أوض) حتى عام 1917 . وبحسب شهادة الخنوثى 
الابن» التي سمعها الخالصي (الحفيد) وقمت بتدوينها ؛ فإن آية الله الخوئي أرسل ابنه 
عباس مراراً خلال السبعينيات من القرن الماضي إلى القنصلية الهندية لتسلم المبلغ 
الشهري المخصص له منذ عشرات السنين . 


وبالرغم من حساسية المسألة بالنسبة إلى نظام الرئيس صدام حسين الذي تغاضى 
كلياً عن هذا الأمرء فقد استمر الخوئي وسائر المراجع في تسلم هذه الأموال . وكما 
نقل لي الشيخ الخالصي الحفيد فإن الخوئي الابن اعترض ذات مرة على تسلم هذه 
الأموالء وأنه طلب برجاء خالص من والده آية الله التوقف عن تسلم هذه المبالغ» 
وبخاصة أنها في عام 19/7 لم تكن لتزيد عن ٠۲‏ ديناراً (نحو ٤‏ دولارات) . لكن آية 
الله الخوئى ي أصر على ولده أن يذهب لتسلمها بحجة أنها (مال شرعي أو من الحقوق 
الشرعية للمراجع ( . يضيف المنوئي الابن أنه فوجئ بقول والده له : : إنه يرسله مع 
ل برا (غير الحقيقي). لقد كان الخوئي الابن مندهشاً من إصرار والده 
على تسلم مبلغ شهري تافه. وهو الذي يتحكم بمليارات الدولارات التي وضعت 
تحت تصرفه الشخصي؟ (وكما سنعرف في ما بعد فقد أصبحت هذه المليارات ملكاً 


(۲۷) حضر لقاء خاص جرى بيننا في دمشق» مقهى الهافاناء بتاريخ 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 5٠٠١©‏ 
(نص الحديث يحتفظ به المؤلف بين أوراقه الشخصية). 


1¥ 


لأبنائه وبخاصة عبد المجيد الخوئي الذي يدير مؤسسة آل البيت العملاقة قة). لقد ظل 
آيات الله بالتعاقب» يتسلمون هذه المعونة التي خصصها البريطانيون لهم منذ عام 
68 وهذا أمر مثير للغاية» بخاصة أن القنصلية الهندية فى كربلاء» بالنيابة عن 
البريطانيين» حافظت على الروابط الالية بآيات الله حتى عام 1419/3 . 


وضع البريطانيون» في وقت مبكر للغاية» هدفاً ثميناً ومحدداً نصب أعينهم فور 
تسللهم إلى العراق التركي . كانوا يدركون أن رجال الدين الشيعة هم القوة الخفية 
التي بوسعها تحريك المجتمع» لما لهم من سلطة روحية هائلة على أتباعهم . ولكنهم 
کانوا و eS e E‏ 
ار کر اراو ل نت ای ا ا ا 
ورجاله بأدوار مذهلة . وقد ارتأى عبد العزيز نوار**" أن الجالية الهندية وبشكل 
خاص في منطقة الكاظمية ببغداد كانت : 


«من أدوات ذ نشر النفوذ البريطاني بطريق مباشر أو بطريق غير مباشرء فبعضهم 
قدم للإنكليز خدمات كبيرة خلال الحرب الفارسية - - البريطانية ۱۸١۷‏ ومن ملوك 
الهند من أعطى سلاحاً خطيراً للإنكليز لنشر نفوذهم في العراق. ومن هؤلاء ملك 


أو ذه 4(Ouda)‏ . 


كبر ت ارا ومن دون وجه حق أو دليل علمي دامغ › إلى المعونة التي 
عاش عليها المجتهدون الشيعة» وطلاب المدارس الدينية من الهنود الفقراء كذلك» 
ويعطي انطباعاً خاطئاً كما لو أا كانت معونة مدبرة» ومصممة في الأصل برغبة 
صاحبهاء لتسقط كالمن والسلوى من السماء بعد وفاته بين أيدي الشيعة. ولتلعب 
دوراً في الصراع العثماني ‏ الإيراني. رمي الشيعة بتهمة من هذا النوع» ومن دون 
مراعاة الجانب التاريخي والسوسيولوجي والإنساني في الواقعة» له صلة وثيقة لا 
بالمشاعر الطائفية التقليدية والساذجة؛ بل بالاستشراق الكلاسيكي الذي كرس صورة 
زائفة عن الشيعة» ومنذ وقت مبكر بالطبع» كجماعة متراصة الصفوف تحركها أصابع 
رجال الدين الغارقين في الصمت . وبکل يقين؛ فقد كان الضباط البريطانيون أكثر 
دهاء وذكاء من أن يصدقوا صورهم الاس ستشراقية التي كانوا ينتجونها أو يقومون 
بتصنيعها وتنميقها ومن ثم إشاعتها لأغراض سياسية» فيما هم يسجلون أدق 
وأصدق الملاحظات السرية عن المجتهدين؛ أحوالهم الصحية والمادية وصراعهم 


(14) عبد العزيز سليمان نوار» تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا إلى حكم مدحت باشاء 
الكتبة العربية (القاهرة : دار الكاتب العربي للطباعة والنشرء :)١934‏ ص .۳٠١‏ 


1۲۸ 


وخلافهم وتنافسهم حتى في المسائل المالية . كانواء كما تبين الأدلة يعرفون بدقة 
متناهية أكثر التفاصيل حساسية وأهمية؛ وكانت بكل تأكيد انطباعات خالية من أي 
شبهة استشراق . إن وازرة تَصَرّف جماعة فاسدة من رجال الدين» الذين أثبتت 
الوقائع تلاعبهم بأموال الفقراء» ينبغي أن لا ترمى» مهما كان الغرض» على الجماعة 
كلها من دون تدقيق حصيف في الواقعة وفي حدودها؛ إذلم يكن الشيعة في أي 
وقت كتلة متماسكة يمكن تحريكها بسهولة» وهم لم يكونوا في أي وقت إلا في 
الصور الاستشراقية السائدة والشائعة بالأمس واليوم» سبيكة صلبة يمكن أن تصهرء 
ثم تسكب من جديد لتظهر في الصورة المتماسكة ذاتها . 

يحمل نوّار» الملك المتوقى شخصياً مسؤولية وقوع أمواله في يد رجال الدين 
الشيعة الذين سيقومون بتوظيفه في الصراع ضد العثمانيين. وهذا ما لا دليل عليه. 
في الواقع لا يزال الجدل الدائر حول «المال الهندي» الذي تدفق على المجتهدين› 
ملتبساً ومثيراً للأسئلة المحيرة؛ إذ زعم بادئ الأمرء أن نواب أقيال كان يتوق إلى نقل 
أرباح السندات المالية باسم المفوض البريطاني وتخصيصها لترميم وصيانة قبره» ومنزله 
الجميل الواقع على كتف نهر دجلة في الكاظمية عند المشرعة المعروفة حتى اليوم باسم 
«شريعة النوّاب». ومع ذلك؛ فإن مجرد تدفق هذا الكمّ الهائل من الأموال في تلك 
الحقبة العاصفة من الصراع الدولي على العراق قد يثير الشكوك بالفعل. لقد بلغت 
المهاترات بين رجال الدين من المجتهدين حول هذا المال» مستوى مريعاً من الدسائس 
وإلى الدرجة التي زعم فيها البريطانيون أنفسهم أن أبرز مجتهد في كربلاء (الشيخ زين 
العابدين) أبرق إلى حكومة الهند ‏ البريطانية مشككاً فى أن خصمه فى التنافس على 
الال سيد محمد باقر الطباطبائي» ليس مجتهداً «عالماً» وأنه هو شخصياً وليس 
الطباطبائي «المجتهد الوحيد المعترف به من قبل الجميع في كربلاء؛ وإلى هذا كله #فإنه 
مستعد للقبول بوظيفة موزع»" . 

ولكن هذه الدسائس الشخصية لم تلق آذاناً صاغية عند البريطانيين» الذين 
فضلوا الطباطبائي» في النهاية؛ وواصلوا التستر على فساد الموزعين الآخرين» وربما 
قاموا بتشجيعهم بشكل خفي . ثم بلغ التلاعب من جانب البريطانيين في طرق 
استخدام هذه الأموالء وتغاضيهم عن الفساد وسماحهم باستمرار الموزعين في 
الحصول على مبالغ طائلة؛ أقصى حدودهء حين أصروا على أن إدارة «بحر العلوم في 
النجف» حسنة ومرضية وتتم #في حدود تنفيذ الوصية». وهكذا فقد كتب العقيد 
جنجز الممثل السياسي المساعد في البصرة وأثناء تحريه عن حالة الموزع في الكاظمية 


حرم لوريمر» دليل الخليج. 


1۲4 


ببغداد» وهو في نظره «من المجتهدين الهنود؛ مع أنه كان موضع شبهة الكثيرين 
لفساده المفضوح ما يلي(" : 


«ثم هو يعول فقراء الهنود المبعدين من بغداد إلى البصرة بمعدل خمسة عشر إلى 
عشرين شخصاً في الأسبوع. وهو يجعل قيضتنا كبيرة على السكان المجاورين من 
الشيعة المتعصبين في الكاظمية؟ . 


من «أجل أن يجعل قبضتنا كبيرة» نحن الغربيين» فسوف نقوم بتخيل الرجل 
الشرقي الفاسد في صورة رجل قدير ونزيه . هذا هو فحوى التوصية التي خرج بها 
جنجز . . وفي هذا المقتطف الذي تفوح من بين سطوره رائحة استعمارية مقيتة» سوف 
يتكشف المدى الحقيقي للتلاعب البريطاني «بالمال الهندي» الذي كرس فعلياً لإفساد 
طبقة من المجتهدين الشيعة » ولإشعال خلافات شخصية بلغت» فى بعض الخحالاات» 
مستوى مهيئاً لمرتبة ومكانة المجتهد فى مجتمعات المدن المقدسة الثلاث: النجف 
وكربلاء والكاظمية . ما أثار حفيظة العثمانيين وكشف عن تخاوفهم وشكوكهم إنما 
هو فقدانهم السيطرة على سيل المال هذا. ولإيجاد حل لهذه المشكلة ارتأى العثمانيون 
أن يسافر اثنان من المجتهدين الشيعة من النجف إلى بومباي» لأجل تسلم الال 
والإشراف على توزيعه. 
ولكن» بيئما كانت المفاوضات العثمانية ‏ الفارسية على الحدود تقترب من 
بايا بالفشل» يعد أن أخفق الجابان في إنباد تسوية مقبولة» ويقترب أكثر فأكثر 
إعصار الحرب في سماء البلدين» قام بعض المجتهدين الشيعة بالفعل بإنفاق جزء 
ضخم من الأموال المستلمة للتوٌ من بومباي على تسليح «جماعات شيعية؛ صغيرة. 
بذلك وضع بعض رجال الدين المتهمون بالفسادء شطراً من أبناء الشيعة في خدمة 
الشاه القاجاري الإيراني ضد السلطان العثماني' " بيد أن الأحداث سارت في اتجاه 
آخر؛ إذ مر إعصار الحرب بسلام وتلاشت شت نذره المذمرة تقريباً . إن ملاحظة نوار 
بصدد تواطؤ بعض رجال الدين الشيعة فى هذا الوقت من تطور الأحداث» 
وباستغلال المال المتدفق لأغراض إنسانية مفترضة؛ وهو هنا يعامل مرد واقعة واحدة 
لا سياق لهاء كما لو كانت دليلاً كلي القدرة على كشف الحقيقة؛ تصطدم بواقعة تستر 
الضباط البريطانيين على الفساد» كما ترتطم بحقيقة أن جوأ من الكراهية كان يحيط 
بهم في أكبر معقل شيعي في بغداد» وهو الكاظمية التي ترك فيها رجل هندي فاسد 


(۳۱) بخلاف ما يقول نوار» بدو ین ا الوتائع أن النانس بين الین كان نج جن ااا 
مالية مثل هذا الموقف الموحد ‏ انظر : نوارء المصدر نفسه. 


۳۰ 


من أجل أن تكون «قبضتهم كبيرة» هناك . لكل ذلك» يصعب اعتبار ما زعم أنه 
اصطفاف شيعي خلف إيران القاجارية ضد السلطنة العثمانية» قبل وبعد فشل 
المفارضات على الحدود» اصطفافا حقيقيا بالمعنى الدقيق لكلمة اصطفاف» وعلى 
الأرجح؛ فإن أصابع البريطانيين المتحرقين لرؤية انهيار سريع للسلطنة العثمانية قد 
لعبت في الخفاء» وبكل تأكيد» بالتعاؤن مع «الإيرانيين أعداء السلطنة». وذلك بدفع 


اشتعل الغضب في نفوس العثمانيين من سلوك المجتهدين e‏ 
فأدركوا على الفور مبلغ الخطأ الذي ارتكبوه حين مكنوا خصومهم من امتلاك أموال 
ضخمة . ولذا سارع العثمانيون إلى مطالبة القنصل البريطاني بوقف توزيع المال؛ 
واقترحوا بدلا من التدابير والإجراءات السابقة القاضية بحصر مهام التوزيع بيد 
المجتهدين ؛ إعادة إسناد مهام الأموال الهندية إليه مباشرة» ولكن مع ضوابط جديدة 
تلزم البريطانيين بعدم السماح باستغلالها لغير أغراضها الإنسانية. ويبدو أن 
العثمانيين لم يكونوا يملكون الكثير من الخيارات والبدائل لمواجهة نتائج الخطأ الذي 
ارتكبوه» عندما أصبحت هذه النتائج ذات طابع تدميري على وجودهم وكيانهم. 
كانت منحة أوده (أوض) (0003) توزع قبل عام 185٠‏ على الفقراء الهنود 
والمجتهدين في مدينة كربلاء فقط ؛ ولكن» وابتداءَ من هذا العام أصبحت توزع على 
سائر الفقراء الهنود والمجتهدين في العتبات المقدسة”"" . 


إن التأمل في الدور الذي قام به المجتهدون الهنود في النجف. تالياً» وعلى أثر 
الاحتلال الكامل للبلاد» يكشف وعلى أفضل وجهء عن الأشكال والآليات التي 
رافقت التحول في الخطاب الكولونيالي الكلاسيكي وتسببت» أو أدت إليه؛ إذ تبن 
للبريطانيين أنفسهم» بعد وقت قليل من ظهور بوادر فشل وانهيار الحل الهندي 
وتفاقم المشكلات الناحمة عن سلسلة من التمردات والعصيانات العشائرية» 
والاحتجاجات السياسية التي كانت النخب السياسية والدينية تنظمها في المدينة؛ أن 
حل الحكم المباشر البديل هو الحل الوحيد الممكن. وفي هذا السياق سعوا إلى إيجاد 
غطاء فقهي ‏ ديني مدعوم بتيار عشائري له صبغة طائفية وتيار شيعي (هم عملوا 
طوال السئوات الممتدة من عام -917اعلى تنمیته وتطويره وتزويده بالمال). 
ولكن الحل ظل مع هذا رهناً بشرط أن يكون التيار قادراًء بصورة حسنة ومن منظور 
فقهي متماسك» على تبرير الامتناع عن مقاومة الاحتلال عند الشيعة؛ أو تعطيل طاقة 
المجتمع الشيعي نفسه على مواجهته. وهذا مالم يكن متاحاً بأي صورة من الصور . 


(۴۲) المصدر نفسه. 


۱۳۱ 


ومع ذلك سرعان ما أتضح من جديد ومن خلال الدور السياسي الذي لعبه الجيش 
الهندي ‏ البريطاني» أن الإنكليز كانوا لا يزالون عازمين» وعلى الرغم من بوادر 
الفشل» على المضي قُدماً في معاملة العراق كامتداد كولنيالي لمشكلة أخرى ولمستعمرة 
أخرى . لقد كانوا بحاجة إلى صدمة كبرى» شبيهة بصدمة العثمانيين يوم تركوا 
الأموال الضخمة تذهب إلى أيدي محاصميهم من المجتهدين الموالين للشاه القاجاري؛ 
حتى يتخلوا إلى الأبد عن حلمهم برؤية عراق هندي» فعلوا المستحيل من أجل 


كما أتضح كذلك» في سياق محاولة إيجاد أرضية للحكم المباشرء ولاعتراف 
العراقيين (المحررين لا المستعبدين حسب بيان مود) بهم كمستعمرين لا فكاك من 
قبضتهم؛ إن خطاب التحرير من الاستبداد التركي برمته وليس أي جزء فيه» وبرغم 
كل الغوغائية التي استخدمت لنشره على نطاق واسع» لم يكن» في جوهره» أكثر من 
شعارات رومانسية جذابة استنبطها الاستشراقيون في الجيش الهندي - البريطاني من 
تجربتهم الاستعمارية في الهندء وتم توظيفها لأجل هدف استعماري وهمي في 
النهاية؛ وأن هذا الهدف على الطبيعة» بات مستحيل التحقق مع تعاظم رفض 
العراقيين للحلول المطبقة في البلاد؛ ومع تفاقم إحساسهم بالضيق من النظر إليهم 
كهنود. إن الجملة الشعبية» ذات الطابع الاستنكاري الساخر والمتداولة حتى اليوم في 
أحاديث العراقيين» والتي تعبر ببلاغة عن مقدار هذا البرم والشعور بالضيق: (قابل 
آني هندي ‏ وهل آنا هندي ؟) ليست سوى رجع صدى لذكريات مريرة. 


إن العراقيين المعاصرين الذين يرددون هذه الجملة» لا يعرفون على وجه الدقة 
جذورها الثقافية؛ ولكن يمكن لهم أن يدركوها حين يمعنون النظر في هذه 
الذكريات ويقلبون صفحاتها. كان الاستشراق السياسي الذي اخترعه الضباط 
البريطانيون والمنظرون الهنود فى وزارة المستعمرات يوشك على الانهيار؛ فالبلاد بدت 
عصية» بأكثر ما تخيل الاستشراقيون» على قطع روابطها ببيئتها العربية التاريخية» أو 
قبول حل آخر عدا الاستقلال. وبالفعل؛ فقد نظر العراقيون بارتياب إلى دعاوى 
الحكم البريطاني المباشر التي نادى بها الرفيعي ثم كاظم كاشف الغطاء الطباطبائي 
ابتداء من العام 1۹1۹ء بوصفها دعوى تبدف بوضوح تام إلى قطع روابط العراق 
بمحيطه العربي ونزع طابعه العربي جزئياً وبالتدريج» تمهيداً لإعادة تركيبه في إطار 
شرق أدنى جديد» تم في الحال استكمال خرائطه بسقوط القدس في العام الأول 
لسقوط بغداد. وهكذا واعتباراً من إعلان الانتداب البريطاني الرسمي على العراق في 
مؤتمر سان ريمو بإيطاليا في نيسان/ أبريل ١47١‏ أتضح أن الانتداب» كما فسره 
الأوروبيون في المؤتمرء قد بات تلخيصاً استشراقياً تبسيطياً لفكرة أن العالم ينقسم إلى 


1۳۲ 


مجتمعين : عالم المجتمعات المتقدمة والمتحضرة وعالم المجتمعات المتوحشة والمتخلفة ؛ 
حيث يمد المجتمع المتقدم حضارياً يده إلى المجتمع المتأخر بثيابه الرئة وأصواته الغريبة 
وذكرياته البدوية؛ فيأخذه من معصمه ويدله على الطريق» مقدماً له المساعدة والعون 
حتى يغدو مجتمعاً متحضراً على الطراز الغري» وقادراً على أن يحكم نفسه بنفسه من 
دون معونة ذوي الأيدي البيضاء”"' بعد مؤتمر سان ريمو أدرك العراقيون أن وعد 
التحرير الذي جاء به الجنرال مود كان وعداً زائفاً إلى النهاية . 

ومع هذا الإدراك» تلاشت أوهام النخبة الثقافية العراقية وتلاشت جاذبية 
الاستشراق . يتضح لنا من مقاربة التاريخ المشترك للكولونيالية في العراق» أن كل ما 
أعاد الخطاب الإمبريالي الجديد إنتاجه فى عصر ما بعد الاستشراق إنما يكاد ينحصر 
في الآتي: بدلا من الموضوعة الرومانسية التي خلبت لَب الكثير من الأوروبيين 
والعرب» والقائلة إن التحرير الأمريكي للعراق يستهدف تخليصهم من «وحشية 
النظام البعثي»ء وأن حماية الشيعة والأكراد من الاضطهاد والظلم هي واجب أوروبا 
الأخلاقي؛ أصبح هناك هدف مركزي آخر: مكافحة الإرهاب والتطرف الإسلامي؛ 
بل وحتى التلويح بوجود خطر شيعي محتمل . 


(۴۴۳) رجاء حسين الخنطاب» «الانتداب البريطانٍ على العراق» » في: المفصّل في تاريخ العراق المعاصر 
(بغداد: بيت الحكمة» «(YY‏ ص ۱۳۹. 


۳ 


(لفصل الرابع 


أوهام النخبة: إخفاق الليبراليات الجديدة . 


«بريطانيا العظمى حررتنا م نالاستيداد . والأم لكل الأم لأن تحررنا م نا جهل» . 


جميل صدقي الزهاوي 
۱1۰٩‏ 


خارج أسوار النجف» حيث تعالى ضجيج المستشرقين الأوائل الغاضبين من 
سلوك العثمانين» حيال رغبات «النصارى الغربيين» في التشبع من عالم الرؤى 
الشيعية الساحرة؛ كان هناك ضجيج من نوع آخر يتعالى في سماء العراق كله . كانت 
الحداثة وأفكار الإصلاح والحرية تتدفق من كل صوب› لتجعل من الشكاوى المريرة 
للا والياة بسب اتريت الشرفين NN‏ 
الحارقة التي استخدمها الاستشراق في الصراع الدائر ضد العثمانيين. قد تكون عبارة 
الزهاوي المذكورة آنفاًء وبروح الحماسة الهوجاء التي تطبعهاء هي التلخيص الأفضل 
والأدق لفكرة أن النخبة الفكرية والثقافية في العراق» ومنذ نهاية القرن الثامن عشرء 
عاشت باستغراق تام في قلب الوهم عن نفسها وعن العالم؛ وذلك عندما تخيلت أن 
التزاحم بالمناكب من حول المنطقة العربية» هو في حقيقته د تزاحم أو تنافس وتسابق 
محموم حول موضوعات التحديث والحرية وقيم الليبرالية التي بشّر بها الغرب. 


لم يكن الغرب لصوصياً في نظر النخبة العراقية» والاستشراق كان أبعد ما 
يكون مسألةً تستحق تستحق الانتباه في إلحاحه على الصور الشيقة والرومانسية؛ والنزاع مع 
رجل أوروبا المريض» تركيا العثمانية الإسلامية» منظوراً إليه من هذه الزاوية 
وحسب» هو تعبير عن صراع ضار بين قيم التحديث والإصلاح التي هبت عبر 
المحيط من جهة. وبين التخلف ومقاومة المدنية من جهة أخرى وليس أي شيء آخر . 
بكلام ثانٍء نُظر إلى محمل هذه القضاياء وإلى الصراع بين تركيا الاستبدادية والغرب 
الليبرالي على أنه تنازع مميت بين الحرية والاستبداد» قد دقت ساعته وحان وقته تماماً. 
بيد أن ما تمناه الزهاوي وهو يشدد على أن بريطانيا أنجزت مهمتها عندما حررت 
العراقيين» أي عندما قامت باحتلال بلادهم» وأن كل ما تبقى أمامها إنما القيام 


1 


بتمديتهم وتبذييبهم وتعليمهم فقط؛ وبالتالي ليس ثمة أطماع استعمارية كما يتوهم 
معارضو الاحتلال» ولا أساس لمزاعمهم أنه ليس تحريراً؛ سوف ينهار بأسرع حتى ما 
توقع الفيلسوف الشاعر . لقد لحقت الهزيمة بالليبرالية الأول مع إخفاق المشروع 
الكولونيالي نفسه» وفي وقت مبكرء في تحقيق وإنجاز أي من الخطط الكبرى 
المتخيلة . عكس هذا التردي المريع في آمال الإصلاح والتحديث والحرية» درجة 
الشعور بخيبة الأمل عند النخب التي راهنت على ربط أحلامها بما أسمته روح 
العصرء وكان لانبيار هذه الأحلام أثره المدمر لا في تبدل المواقف» كما فعل 
الزهاوي ثم تلميذه من بعده الرصافي» عندما تراجعا عن أوهامهما وراحا ينشدان 
غفران الجمهور وبعد وقت قصير فقط من إطلاق النبوءة الكاذبة» وإنما كذلك في 
ظهور نتائج معاكسة» وغير متوقعة» راحت تعتمل في أوساط كثيرة من المجتمع . 
تمئلت هذه النتائج» على الفور» في توطد روح تحررية جديدة في في المجتمع بأسره. 
وهذا وضع فريد في مزاياه؛ إذ بينما كان الليبراليون يقنطون ويشعرون باليأس » 
بفعل تلاشي وعود مَنْ علقوا عليهم الآمال بالتحرير والتحديث؛ كان المجتمع في 
العراق ومصر وسوريا يستيقظ» ويتجه بكل قوة لملاقاة روح تحررية ويصادف قادة 
آخرين في الشارع» يلهمونه المزيد من الأفكار عن الاستقلال والحرية . 


لقد تحطمت الآمال» كل الآمال التي علقها الفيلسوف الشاعر على البريطانيين؛ 
فهم لم يحرروا مجتمعه من الاستبداد كما تخاذلوا عن تحريره من الجهل» ولكن الإخفاق 
جلب معه» ومن حيث لم يتوقع المصلحون قط ميولا ونزعات تحررية متعاظمة 
ولكن في اتجاه مغاير. فمع تعاظم أشكال الاضطهاد والمهانات اليومية التي يتعرض 
٠‏ لها السكان» صار بالوسع رؤية مطالب أخرى غير «الحرية» التي وعد بها 
«المحررون». إن مأساة هذا الرعيل من الليبراليين الذين استقبلوا الجنرال البريطاني 
مود في بغداد بالهتافات» والجنرال الفرنسي غورو في دمشق برفع الرسائل 
والمطالبات» والجنرال البريطاني اللنبي في القدس «بأن تهب لندن لمد يد العون 
للفلسطينيين؟ تبدو أكثر شبها با مآسي الشكسبيرية» التي غالباً ما تقع في الفصل الثاني 
من كل مسرحية ثم تبلغ ذروتها في الفصل الثالث. ولأن المأساة هي في الحق» من 
هذا النوع وليس من أي نوع آخر؛ فإنها احتفظت بقابليتها المدهشة على التكرار مع 
كل استعمار جديد كما سترى» وذلك حين ستخيب وبسرعة آمال ليبراليين آخرين 
عاثلين ومشابهبين قدموا أنفسهم للمجتمع العراقي مع سقوط بغداد عام ۲٠٠۳‏ 
كممثلين لليبرالية الثانية . 

كان جميل صدقي الزهاوي بمكانته الأدبية والفكرية الرفيعة ودرجة تأثيرهء 
والهالة المدهشة من القدسية التي أحاطه بها مريدوه وتلامذته والمعجبون به مفعماً 


1۳۸ 


بالإيمان والثقة بأن الغرب قادم لا محالة من أجل تخليص الأمة العربية من استبداد 
العثمانيين» لينقلها دفعة واحدة إلى مصاف الأمم الراقية. بيد أن الأيمان وحده لم 
يكن كافياً لأجل حدوث المعجزة. ما يجب أن يلفت انتباهناء على وجه التحديد» في 
هذا الرهان المتكرر اليوم» أن النخب الفكرية العراقية لم تقدم قط أي مساهمة ذات 
قيمة في بناء أسس النهضة العربية أو فكر التنوير. 


كان ممثلو النخبة العراقية قية أقل مهابة في أفكارهم ونصوصهم الأدبية» من 
زملائهم في حلب وبيروت والقاهرة ودمشق . وكانت للم يهم ؛ بدلا من الأفكار 
والرؤى والتصورات عن الإصلاح والحرية والتحديث» بضع نصوص حالة مفعمة 
بالخيال . إن مراجعتي لدور النخبة الفكرية العراقية ودورها المفترض في حركة 
التنوير» تكشف من دون لبسءٍ ضعفاً مأسوياً في قيمة المساهمات الفكرية؛ إذ ل 
يشاهد العراقيون «كواكبى عراقياً» يعيد صياغة معادلة الحرية والاستبداد على النحو 
ذاته الذي صاغه الكواكبي في حلب . كان الليبرالي العراقي» طوال الوقت» قادراً عل 
رؤية نفسه في صورة بطل در نفسه لتخرين جتمعه 6 ولكته بطل في تعقيقية :وتام 
كما رآه إدوارد سعید '©؛ على غرار المستشرق الذي يعتقد أن أبحاثه «أعادت بناء لغات 
الشرق الضائعة وعاداته» بل حتى عقلياته كما أعاد شامبليون بناء الهيروغليفية من 
حجر رشيدا . بينما يكشف الواقع أن هذا الدور الافتراضي كان أقل أهمية ما تصوره 
البطل» وأن جمهور النظّارة قد لا يعرف الكثير عن أفكار بطلهء أو أنه كثير التشكيك 
في قيمتها وصدقيتها؛ وفي النهاية قد توضح مقاربة تفصيلية وضرورية أن الكثير من 
توثموا القيام بهذا الدور البطوليء كانوا في الحقيقة أكثر عزلة عن المتفرجين . 


وفي هذا الجانب من العزلةء ربماء يكمن شطر من المأساة . سأوضح أمراً 

تفصيلياً مهمأ وضرورياً آخر في هذا التمهيد : إن الليبرالية الأولى» كما يُقصد فيهاء 
في هذا الكتاب» وكما سوف يتبين لاحقاًء تضم خليطاً من متنورين ودعاة إصلاح 
سياسي واجتماعي وشعراء ساخطين على الأوضاع المزرية» كما تضم آخرين من 
الوطنيين الخالمين » وكمّاباً ومبشرين بقيم المدنية ممن اعتادت ثقافتنا العربية المعاصرة 
على تسميتهم بدعاة النهضة . لقد كان هؤلاء جميعاً يشكلون حركة» ناظمها الأهم» 
الدعوة إلى قيم الحرية والمدنية» ولكن هؤلاء الدعاة قَلّما انتبهوا إلى الفارق الجوهري 
بين صورة الغرب التي عملوا على إنشائها وتكريسها في كتاباتهمء والمشكلات التي 
كانت تثيرها سياسة الغرب نفسه ومفاهيمه المرائية . إن هذا الفصل مكرس بالكامل 


٤ ادوارد سعيدء الاستشراق: المعرفة» السلطةء الإنشاءء نقله إلى العربية كمال أبو ديب» ط‎ )١( 
.1۹۸٤ وقد صدرت الطبعة الأولى عام ١1۹۸ء والثانية عام‎ .)١446 (بيروت : مؤسسة الأبحاث العربيةء‎ 


۱۳4۹ 


من أجل رؤية الاستشراق الأدبي في العراق» وهو موظف. إجالاًء لغرض رسم 
صورة أشمل خارج عالم الحوزة في النجف» وبحيث يمكن بناء صورة متماسكة عن 
الأدوار الى تسيا وجال الدين والنتقون في عمر الات" ستشراق الكلاسيكي . ولئن 
بدت النجف» كمكان ديني الوك لجوه أبصنان المستشرقين» ميداناً خصباً لتصارع 
الأفكار والرؤى ؛ فإن النخب الثقافية والفكرية العراقية التي لم تكن بمنأى عن تأثير 
الاستشراق في مستوى تلقي الأفكار الأولى عن الإصلاح» بدت وكأنها الأداة التي 
شارك المجتمع بواسطتها في هذا الصراع . ولأن رؤية التأثيرات الفعلية لأفكار 
الليبرالية والإصلاح في العراق» تكاد تكون متعذرة من الناحية الموضوعية؛ من دون 
ربطها بحركة النهضة العربية الصاعدة في هذا الوقت؛ فقد كان لزاماً علينا رسم 
الإطار العربي الذي دارت فيه هذه الأفكار والرؤى . وينبغي أن يُلاحظ» في هذا 
الإطارء أن النخبة الثقافية العربية وتحت تأثير الاستشراق» قامت» بما يمكن 
تسميته » الرحلات الأولى المعاكسة من أجل اكتشاف الغرب . وبكل تأكيد تركت هذه 
الرحلات أثرهاء تالياًء في النخبة الثقافية العراقية . 


أولاً: فشل الليبرالية الأولى 


«فقال له المقل: اخبري ما هذه الظاه رالت يأشاهدها؟ فأجابه احق إن هذا العرض 
النتصب هو عرش الإنسانية» وهذا الرج لا جالس عليه هو ملك التمدن» وهذء الأنوار 
النبعثة ه يأنوا را حكمة . فاطرق العقل برهة ث مقال: ولاذا ينفرد هذا ا للك العظيم عن 
ملكته؟ . فقال ا حمق إن هذا ا للك ل يتملك » قطء عل علكة . فانذه ل العقل من هذا 
ا جواب » وأجاب عل الفور» كيف لاء وك ل مالك اليش رتنادي باسمه وعارب لجده؟ 
فقال ا حق إن في ذلك لكر وخداعاء والذي حك مالآن على البشر هو ملك التوحش» 
وا جميع يتوصو ن أنهم حكومون من ملك التمدن» وما ذاك إلا لأن ملك التوح شأمكنه 
أن يتزيا بزي ملك التمدن ويحكم جي عالأرض بمساعدة أعوانه» الرياء» والنفاق» 
والسيادة والتعصب؟ . 


595 5 222 
فر سيس مراس 


عندما كان الزهاوي يكتب» في الآستانة» قصيدته الشهيرة» «ولاء الإنكليز؛ 
عام 1847 والتي ضمّنها رهانه الإصلاحي الشخصي على الغرب» ومن دون أدنى 
تحفظ› أو نقد» كما يلاحظ» مثلما ضمّنها دعوته الصريحة إلى استسلام العرب 


(۲) فرنسيس مراش» «سياحة العقل ٠»‏ الجنان (نيسان/ أبريل .)۱۸۷١‏ 


1١٠ 


والأتراك «للقدر الأوروبي» الذي كانت أطيافه تحوم من حول المنطقة؛ كان الكوكبي 
٤‏ _۔ ۱۹۰۲ يثير من حلب» بعد نحو عامين» فقط › من قصيدة الزهاوي ذائعة 
الصيت هذه وتحديداً في عام 484 عاصفة من الجدل حول أفكاره التنويرية 
الجريئة» ويوجه نقداً لاذعا للسلطنة العثمانية» ثم يغادر حلب إلى مصر نبائياً بعد 
تجربة قصيرة مع السجن. في هذا الوقت كان العراقيون لا يزالون أقل جرأة من 
زملائهم السوريين والمصريين على ابتكار أفكارهم التنويرية الخا ا 

إن النقد الأهم الذي وجهته النخب الفكرية العربية التنويرية للسلطنة العثمانيةء 
منذ عصر الأنوار» أو ما يعرف بعصر النهضة في القرن التاسع عشرء ومن حيث 
محتواه المباشر ووضوحه وقيمه الفكرية» التي تخص في الصميم مشكلات 
الديمقراطيةء والعقد الاجتماعي» والإصلاح الديني» والأخلاق والحريات العامة» 
أو مسائل التمدين الاجتماعي» والتقدم واللحاق بركب المدنيات الحديثة؛ هو الذي 
قدمه الكواكبي في مساهمته الفكرية الكبرى طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ثم في 
أم القرى وسواها من الكتابات أن لوقت بق ی كان ونس وراش ن 
من حلب» حوار العقل والحق هذاء منبهاً إلى حقيقة أنه وإ كان يرى في الغرب 


العظيم رمزاً للعقل ؛ فإنه يظل قادراً على رؤية فاتح جبار ومتوحشء وقد جلبب في 
جلباب المدنية . 


إن الفارق الجوهري بين خطاب الكواكبي والخطاب السائد في العراق والعالم 
العربي في هذه الأونة من تطور الحركة الإصلاحية؛ ربما باستثناء حلقات حلب 
التي تميزت» كما برهنت دراسة محمد جمال باروت بجلاء“»ء بأنها لعبت» عل 
الأرجحء دوراً منتظماً في نشر وتقديم فهم مبكر وعميق للموضوعات المثارة؛ 
يكمن في أن الكواكبي انعطف انعطافة كيرى من المرجعية التراثية الإسلامية إلى 
المرجعية المستوحاة من الفكر الحديث الليبرالي والديمقراطي ا ولكن 


(۳) يلاحظ أن أفكار التجديد العراقية تكاد تنحصر في حقل الأدب بأكثر مما تبدت في حقل الفكر 
الاجتماعي والسياسي. إن حلقات التنوير الكبرى في العالم العربي نتوزع بين بيروت والقاهرة وحلب؛ بيئما 
اكتفت بغداد بنشاط سياسي خالل تقريباً من أي محاولات جادة لتأطيرها في فكر سياسي أو اجتماعي. وباستثتاء 
حركات التجديد الأدبي التي انبئقت في العراق وعمت العالم العريء فإن الباحث لا يكاد يد أدلة راسخة 
وقوية على نشاط فكري حقيقي ومنظم. 

(4) محمد جمال باروت حركة التنوير العربية في القرن التاسع (حلقة حلب)» قضايا وحوارات النهضة 
العربية؛ ۱۷ (دمشق: وزارة الثقافة» 1995). 

(0) انظر: شكيب أرسلان. لاذا تأخر المسلمون؟ ولاذا تقدم غيرهم؟ ([القاهرة]: عيسى البابي الحلبي» 
[)؛. محمد كرد علي» الإسلام والحضارة العربية» ۲ ج (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية» 19174 
7 ؛ مصطفى الغلايينيء الإسلام روح المدنية : أو الدين الإسلامي واللورد كرومر؛ رفيق العظمء البيان ‏ 


1١١ 


من دون قطع مع مرجعيته العربية الإسلامية. فيما بدا أن الآخرين استلهموا من 
الاستشراق استنباطاته واستنتاجاته» وتشبعوا بمنظومة قيمه إلى الدرجة التي 
أظهرتهم في صورة «المثقف المنبهرة والمسحورء والذي لم يعد قادراً على رؤية أي 
شيء نافع ذ فى التراث والتاريخ خ الوطنيين. . وفي هذه الانعطافة» وبفضل سيلها 
الحارف› سلط الكواكبى عر ين المطلقة» وحددهاء كمصدر للشرور 
الاجتماعية» واقترح إصلاحاً شديد التوافق والقابلية على أن يتوطن» كمطالب 
داخلية ووطنية تقطع مع الرهان على الغرب . وهو رهان تجلى بصوره المتطرفة في 
كثرة من الأعمال 80 الأدبية العراقية التي اتسمت بالجزع الشديد من 
استبداد الأتراك العثمانيين . 


ولكن. وحتى في تشنيعه على «الأتراك» وتنديده مهم » وهو أمر أثار عند 
دارسيه شيئاً من الالتباس» فاعتقدوا خطأ أنه كان ينطلق من منظومة الخطاب القومى 
العربية الصاعدة في هذه الآونة» بشكل متصادم وعدائي مع العشمانيين؛ فإن 
الكواكبي أظهر بوضوح كاف قدرته على إعلان انحيازه وتحالفه مع «أتراك متنورين» 
ضد «أتراك استبداديين4» وفى الآن نفسه أظهر قدرة فذةٌ على رؤية الغرب على 
حقيقته #دخل الفرنساويون الجزائر منذ سبعين عاماً ولم يسمحوا بجريدة واحدة تقرأ. 
إنه غرب «لصوصي» وامادي» و«الغرب مهما مكث في الشرق لا يخرج عن انه 
تاجر؛ «وهو إلى هذا كله غرب» لا دين له غير الكسب» فيما تظاهرّه مع بعضنا 
بالإخاء الديني إلا خادعة وكذباً”" . 


كان التحالف مع التنويريين السمة الغالية» والطاغية تقريباً» في تفكير معظم 
مثلي النخبة الإصلاحية في العراق وسوريا وصولاً إلى إيران . ولم يكن بوسع النخب 
الإصلاحية في العالم العربي والإسلامي» بطبيعة الحال» تخطي مسألة التحالف 
الفكري» أو تأييد الحركة الإصلاحية التي بزغت من قلب الإمبراطورية المريضة . لقد 
كانت ترمي بكل ظلالها الوارفة على شعوب السلطنة. بيد أن الانبهار بالغرب كما 
عند فرنسيس مراش في رحلة باريس» لم يكن ليمنعه. » تالياً من أن يرى في العرب 


= في التمدن وأسباب العمران؛ محمد فريد وجدي» المدنية والإسلام ([القاهرة]: المطبعة الرحانيةء 1957)» 
وعبد القادر المغري؛ الإصلاح الإسلامي. هذه المصادر وسواها ثما تركه الرعيل الأول من المصلحين سارت 
جميعاً في اتجاه واحد تقريباً. وانظر العرض الذي قدمه محمد سعيد طالب عن مساتمات المفكرين العرب» في: 
محمد سعيد طالب الحدائة العربية: مواقف وأفكار : (الفكر العربي بين وعي الذات وهيمنة الآخر) (دمشق: 
الأهالي للنشر» .)50١‏ 

()ياروت؛ المصدر نفسهء نقلاً عن: فرنسيس مراش» رحلة باريس (بيروت: المطيعة الشرقية» 
«(YAY‏ ص ۸۱. 


1۲ 


والإفرنج أن الغرب ليس سوى «لص» استعماري”" . وكما ارتأى جال باروت فقد 
بدا مراش في أحيانٍ كثيرة وكأنه «يعارض الشرق بالغرب ويتلمس أهمية الرابطة 
الشرقية في مواجهة التوسع الغري:0) . انه «لص» و«طاغوت» ودلا صديق له سوى 
النضار والفضة» وهلا وفاء ولا عهد ولا ذمم لها . وأن الغرب :لم يمد مساعدته إلى 
البلاد العثمانية إلا مبدف نهبها»" ٠‏ ولا يمد يداً للغوث إلا مبدف السلب والنهب . 
هذا النقد اللاذع للغرب كان من شأنه أن يشكل في فكر الحلقات التنويرية في 
حلب» صورة موازية وشديدة النمطية لصورة الشرق» كما استنيطها المستشرقون» 
ولكنه من جانب ثانٍ يكشف عن أن هؤلاء لم يكونوا ليقايضوا إيمانهم بضرورة 
الإصلاح بنوع من الاستسلام لسحر الغرب؛ وعلى العكس من ذلك كانت هناك 
قدرة عالية على التمييز بين الغرب اللصوصي الاستعماري من جهةء وإمكانيات 
استيعاب الغرب العقلاني بفتوحاته العلمية الجبارة وتشريعاته الاجتماعية””" . 


هذا الغرب العظيم تراءى في مرآة الشرق» مع ذلك» أقل مهابة ونفوذاً في 
الجانب الأخلاقي من صورته التي برت الأبصارء وكان يمكن لعدد متزايد من 
التنويريين ودعاة الإصلاح الذين يشتعلون غيظاً من أوضاع السلطنة العثمانية» أن 
يروا في هذا الجانب غير الساطع من صورة الغرب المكتشف» دليلاً کافياً» للتريث 
في الاستسلام أمام إغراء الرهان على مساعدته المتوقعة» وأن ينقلواء من دون أن 
يتركوا شيئاً خافياًعلى أسماع جمهورهم أو أن يتورطوا في خداعه بالحماسات غير 
ا "كل ما أمكن لقم غيله ور الي أن زاح تمن ذلك اخلط النظيع 
الذي ميز الغرب في هذه اللحظة من التاريخ ؛ ؛ فهو غرب متوحش بمقدار ما يبدو 
غرباً عقلانياًء وهو مخادع ومراء بمقدار ما يبدي من امتعاض إزاء الأوضاع المزرية في 
البلدان المتخلفة . 


كان حضور الغرب كاملا لا تنقصه. على الأقل» سوى تلك التفاصيل 
الفلسفية المحيّرة ذ في الحوار المتخيل بين العقل والحق» تماماًء كما سطرها قلم فرنسيس 
مراش . لست هنا بصدد القيام بمقاربة منهجية بين أفكار الزهاوي والكواكبي اللذين 
عاشا في وقت واحد في حلب والاستانة» وكانا على صلة مباشرة بحركة تركيا الفتاة. 
والتنويريين الأتراك العظام» ولكنني بصدد أمر آخرء بكل تأكيد» يتصل بنوع ودرجة 

(۷) المصدر نفسه. 

(۸) المصدر نفسه. 


(۹) باروت» المصدر نفسهء نقلاً عن: فرتسيس مراشء العرب والإفرنج ([د. م.: د. ن.ء ۱۹۷؟]). 
)٠١(‏ المصدر نفسه. 


1۳ 


التمايزات التي انبثقت داخل النخبة الإصلاحية العربية» بفعل التنازع المرير مع 
الاستبداد 97 ؟ ففي الاستقصاء الذي قام به مال باروت عن 0 
الكواكبي الفكرية نلاحظه» أنه» وبخلاف ما يشاع» لم يكن مبتكراً في أفكاره 
الإصلاحية حتى في أشهر أعماله طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد إذ استمدء كما 
ارتأى ألبرت حوراني» إطار كتابه هذا من كتاب المفكر الإيطالي فيكتور ألفييري 
180-17 أكثر التنويريين الطليان نفوذاً وأهمِيةٌ" . 


لكن النقطة الجديرة بالإنتباه فى هذا الصددء وعلى خلاف ما يعتقد باروت 
وحوراني» لا تتعلق برأينا في المرجعيات الفكرية للكواكبي أو مراش» فهذا ما لا 
قيمة له في النقاش الفكري» ذلك أن تاريخ الأفكار هو في خاتمة المطاف» تاريخ 
ابتكار وتنويع متواصل وغير منقطع . ولا يكاد يوجد مفكر واحد في أي عصرء 
ابتكر فكراً متكاملاً من دون تواصل» أو تنويع على أفكار مفكرين سابقين عليه أو 
معاصرين له؛ وإنما بدرجة أكبر من ذلك في ما أثاره هذا التلاقي بين أفكار 
الإصلاحيين العرب وأفكار المستشرقين في الموضوعات المطرو و11 مين فضانا 
ومشكلات ربمالم تكن بالحسبان . كان هذا التلاقي محتوماً في الواقع» فمامن 
إمكانية فعلية لتفاديه» وما من إمكانية أو وسائل وأدوات عملية في أيدي النخب 
النهضوية والتنويرية؛ قادرة على تخطي نتائجه ا 
جمعت فكر هذا المفكر الإصلاحي الإسلامي بذاك التنويري الغربي» أو المستشرق 
الإيطالي أو الفرنسي؛ بل يتعلق أولاً وأخيراً بوجود بنى الا ستشراق الراسخة التي 
كات حا سين :تر فارضةً منهجها في البحث والتفكير في عموم الشرق الذي 
جاءت للتبشير فيه بقيمها وصورها ورؤاها. 

لقد أحدثت» روح الاستشراق القديمء نوعاً من الخلخلة في النظرات السائدة 
للثقافة العربية القديمة وللمجتمع . وكانت من القوة والنفوذ بحيث أنها انتقلت 
تلقائياً» فى هذا الوقت» بتقنيات البحث الحديثة والكشوف الساطعة وقوة الاستقصاء 
الذي تملكهء من حقل الدراسات والبحوث حول التاريخ العربي القديم» التراثي ثم 
الإسلامي ‏ وحيث أعاد المستشرقون اكتشاف التراث العربي» وقدموا معالجات 
اتسمت في الغالب الاعم بقدر فاضح من التعسف» وكذلك بقدر من التأويل المتسرع 
للكثير من الظاهرات الاجتماعية والأدبية؛ ولكن بفتوحات وكشوفات هائلة أيضاً - 
إلى حقل الفكر الاجتماعي والسياسي» وإلى الدرجة التي بدا فيها الاستشراق نفسه 


.۱۲۹ باروت» المصدر نفسهء» ص‎ )١( 
طالب» الحداثة العربية: مواقف وأفكار : (الفكر العربي بين وعي الذات وهيمنة الآخر).‎ )١1( 


1 


وكأنه بات أكثر تماساً واحتكاكاً بحساسيات المجتمع العربي الثقافية والروحية؛ وأكثر 
تحدياً لمنظوماته التقليدية والأخلاقية. لم تكن هيمنة الاستشراق تعبيراً عن ضعف 
الثقافة العربية فى مواجهة ثقافة الآخرء بمقدار ما كانت تعبيراً بوسائل ثقافية عن 
هيمنة عالم جديد على العرب والمسلمين؛ وهيمنة عصر فاجأهم وباغتهم بتحديات 
كبرى هي مزيج من المعارف المتقدمة والتقنيات والأطماع والنزعات الكولونيالية . 
وهذا ما تنبه إليه الكواكبي مبكراً في نص نادر وغير معروف (صفحات ضائعة من 
كتاب طبائع الاستبداد عثر عليها باروت ونشرها كملحق ضمن كتابه)”'2 حين 
لاحظ أن قرة الغرب تكمن في قوة ذلك الزيج من الكشوف العلمية والاجتماعية 
على حد سواء: 

«وكأني ي بسائلكم يسألني تاريخ التغالب بين الشرق والغرب» فأجيب بأنا كنا 
أرقى من الغرب علمأ فنظاماً فقوة» فكنا له أسياداً. ثم جاء حين من الدهر لحق بنا 
الغرب فصارت مزاحة الحياة بيننا سجالا . إن فقناه شجاعة فاقنا عددا وإنْ فقناه ثروة 
فاقنا باجتماع كلمته» ثم جاء الزمن الأخير ترفى فيه الغرب علماً فنظاماً فقوة وانضم 
إلى ذلك أولا: قوة اجتماعه شعوبا كثيرة» ثانياً قوة البارود حيث أبطل الشجاعة 
وجعل العبرة للعدد» وثالثاً 5 قوة كشفه أسرار الكيمياء والميكانيك, ورابعاً قوة ة الفحم 
الذي أهدته الطبيعة» خامساً قوة النشاط بكسره قيود الاستبداد» . 


في هذا النص الساطع في أفكاره وتساؤلاته الدقيقة» يربط الكواكبي بين تقدم 
الغرب التقني وقوته العسكرية وأطماعه› ونجاحه في «كسر قيود الاستبدادهء أي 
نجاحه في النهاية في بناء مجتمع ديمقراطي تم استكماله بسلسلة من القوانين الناظمة 
لحيأة سياسية ليبرالية فاعلة. الحلقة الخامسة في تقدم الغرب هي التي تنبه إليها 
الكواكبي ورأى فيها ميدان عمله الفكري: كسر الاستبداد. لم تكن الأفكار التي عبر 
عنها دعاة النهضة والتنوير والإصلاح وحدهاء ومن دون «قوة النشاط لكسر 
الاستبداد على الأرض والانتظام في حلقات سرية لمقاومة السلطة الاستبدادية؛ 
بقادرة على إنجاز وتحقيق أحلام التجديث. كما لم يكن بالوسع» في ظل التقلص 
والتلاشي التدريجي لفرص التفاهم مع الإصلاحيين العرب عل حدود الإصلاح 
وأشكال تطبيقه؛ لا تفادي طرح المطالب» ولا الدفاع عنهاء حتى وإِنَّ بدت رجع 
صدى للاستشراقء أو أن تبدو وكأنها الصدى المفزع لمطالبٍ الغرب نفسه من 
العثمانيين» وقد تردد في أرجاء سلطنتهم . . وهذا حقيقي» تماماً بالأمس» كما هو 
حقيقي اليوم. فسلوك السلطة والنخب التقليدية والمحافظة ورجال الدين الرجعيين» 


.۲۲۰ باروت. المصدر نفسهء ص‎ )١1( 


وشكل وطبيعة تفاعلهم مع فكرة التحديث» كان يقدم عملياً أكبر عون للنظرات 
الاستشراقية» التي رأت في المجتمع العربي الإسلامي كمجتمع سكوني معاند 
للإصلاح ومقاوم له غريزياً. . اليوم ومع ترسخ بنى ما بعد الاستشراق في عالم عربي 
بات نبا ومرتعاً للأطماع والتدخلات المكشوفة من جانب الغرب» تصبح المطالب 
القديمة التي يتصدى لها جيل جديد من الإصلاحيين العرب» والمثيرة لفزع النخب 
الحاكمة والجماعات التقليدية والمحافظة في المجتمع؛ وكأنبا استطراد في التدخل 
السافر والقديم للغرب» وليس استطراداً في المشكلات التي تنم المجتمع من قبل عن 
مواجهتهاء أو أحبطت آماله في إنجاز حلول حقيقية لها. اليوم يتوجب الاعتراف 
بأن النخب الحداثية (الليبرالية» والإصلاحية الجديدة) تفتقر إلى الأدوات والوسائل 
الفكرية والعملية للبرهنة على أن مطالبها ليست» ٠‏ تمامء وبالضبط» رجع صدى 
للضغوط الغربية على العرب» وأا ليست مرتبطة بالمشروع الأمريكي تحديداء 
وليست من أدواته» وأنبا شيء منفصل › > في رؤاه ومطالبه» عن رؤى الغرب ومطالبه 
ومطامعه. 


ولأن النخب تفتقر إلى مثل هذه الوسائل الفكرية والثقافية» فقد وجدت نفسها 
اليوم» كما بالأمسء أمام الاتبام القديم ذاته؛ فهي إما ماسونية (بالأمس كان 
لدان مهما ج١١‏ أو (مربطة لامر يكبي كما عر ال الرى E‏ 
إبراهيم الليبرالي المصري؛ وهي تهمة لا معنى لها). ولكن» وبصرف النظر عن 
الاتهبامات الجارحة التي جوبه ہا دعاة الإصلاح الأوائل» كما هو الحال» مئل مع 
جمال الدين الأفغاني الذي اتهم بالماسونية والكفر؛ فإن فشل وإخفاق هؤلاء في تبديد 
المخاوف الشعبية عند الأغلبية من السكان» والتى كانت تتغذى من تحذيرات ونقد 
رجال الدين والنخب المحافظة والتقليدية؛ وهذه جرى استغلالها على نطاق واسع في 
ادعاء وجود رابطة من نوع ما بين أفكار الإصلاح وأطماع الغرب؛ قد ساهم إلى حد 
بعيد في شيوع وتكريس سلسلة من الالتباسات في المفاهيم . لقد سارع المثقفون 
التقليديون ورجال الدين» لا إلى ترديد اتبامات قاسية بحق الإصلاحيين» وإنما إلى 
التذكير بأن دعاومهم تنطلق من المنظور الاستشراقي نفسه . 

إن الدعوة إلى الإصلاح الديني التي طرحها دعاة الإصلاح في الماضي» وأثارت 
المخاوف عند المحافظين والتقليديين ورجال الدين بسبب تمائل منطلقاتبا مع منطلقات 
ثورة الإصلاح الديني (البروتستانتية) ليست بعيدة الشبه عن الدعوة 0 الإصلاح 
الديني المثارة اليوم» والتي ولّدت ولا تزال تولّد في أوساط مختلفة من المجتمع رد 
فعل عميق الأثر . كان السجال حول الإصلاح يدور بالفعل في نطاق الاستشراق. 
مع الاستشراق انتقلت عدوى التخيّل إلى النخب . في العراق» مثلاء وبعد أن سقط 


١55 


حكم الأتراك وحدث الاحتلال البريطاني لم يعد البريطانيون وحدهم من يقوم بتخيّل 
الآخرين المُستَعمرين في صورة محَرّرين؛ بل أصبح الآخرون» وهم في الأصل 
موضوع ومادة التخيل الأولية والخام؛ قوة التخيل الجديدة التي سوف تتولى بالنيابة 
عن البريطانيين تسويق وهم التحرير والحداثة ووعود الإصلاح في مجتمعها. ستقوم 
النخبة ونيابة عن الإنكليز بتخيّل العراق على أنه عراق متحرر وجديد طالع من 
الجلباب العثماني» ولتقوم منذئظٍ بتسويق أوهامها في المجتمع . 


ولإعطاء تصور دقيق عن حالة النخبة العراقية فى هذه السنوات» فسوف نتوقف 
قليلاً عند ظاهرة فريدة ميزت حالة النخب . كانت النخبة الثقافية والفكرية العراقية 
تنشطر إلى شطرين» أحدهما تقليدي والآخر حداثي؛ وقد توزعا فى طبقتين (بالمعنى 
الحصري لكلمة طبقة): طبقة المتعلمين في مدارس حديثة ومن المثقفين المتمدنين الذين 
يرتدون الأزياء الأوروبية» وبعضهم درس في الآستانة وزار أوروبا (فهمي المدرس 
مثلاً) وطبقة أخرى هي مزيج من رجال الدين والأدباء. وهؤلاء في الغالب الأعم 
كانوا من أبناء النجف والحلة» حيث الموطن التاريخى للمؤسسة الدينية الشيعية (التي 
انتقلت مؤقتاً من النجف إلى الحلة» فى وقت ما من الأوقات» لعنشأ هناك مدارس 
دينية شيعية تضاهي أهميتها إلى حدٌ ما أهمية مدارس النجف). وكانوا لا يزالون 
يظهرون في المحافل العامة بعمائمهم البيضاء وجلابيبهم الدينية المميزة. وفي الواقع لم 
يقع تعارض له قيمة بين الطبقتين . ومن النادر رؤية أي نوع من التناقض في صفوفهم 
على أساس الاختلاف والتمايز في نوع التعليم أو الثياب. وعلى العكس من ذلك 
نشأت بينهم صداقات أدبية وشخصية سجلوها في مراسلات وقصائد وجدانية حارة. 
لكنهم افترقوا عند مفترق طرق الصدام مع الغرب . في إحدى الحالات جرى نوع من 
الصراع حول مسالة السفور فانشطرت النخبة بين سفوريين وحجابيين“" . ولكن في 
الحالة النموذجية للصراع؛ فإن الافتراق حدث حين انحاز الحداثيون إلى الغرب وقيمه 
ونظرياته ومدنيته ولما كان يدعى أيضاً روح العصر”*''. بينما وقف المثقفون التقليديون 
موقفاً مناوثاً ومعارضاً وفي بعض ال حالات متصادماً مع أكثر القضايا حساسية . 


كان المثقفون التقليديون مزيجاً فريداً وغير مألوف» في الثقافات الأخرى» حيث 


)١4(‏ تعبيران كانا يُطلقان في العراق على فريقينء أحدهما يساند تحرير المرأة من الثياب القديمة (العباءة) 
وهؤلاء هم السفوريون (من أسفر الوجه أي كشفه) والآخر من معارضي التحديث وهؤلاء هم التقليديون 
(الحجابیون ۔ من الحجاب). 


)٠١(‏ التعبير الرائج في هذا الوقت. 


E۷ 


الغزل» والنوادر الترائية بالطرائف الاجتماعية» وكان لهذا المزيج الخلاق» بفضل 
ذلك» حساسية خاصة مفرطة بعض الشىء.ء إزاء جملة من القضايا العامة» أهمها 
مسألة الموقف من الحرب ضد السلطنة العشمانية . إنهم المثقفون التقليديون الذين 
سوف يسارعون» مع سقوط البصرة» وبقيادة الشيخ محمد سعيد الحبوبي» إلى قيادة 
القتال بأنفسهم ضد البريطانيين؛ بينما على الطرف الآخر أظهر الحداثيون تردداً 
مکشوفاًء أو حتى انحيازاً سافراً إلى الاحتلال في بعض الحالات» فقد سارع عدد 
كبير من الكتاب والمفكرين الحداثيين» منذ سقوط البصرة فى ۱۹٠١‏ وبالضد من 
موقف كثرة من المثقفين التقليديين» أي بالضد من موقف رجال الدين الشعراء الذين 
هالهم الزحف العسكري البريطاتي من الجنوب وهبُوا لقتاله. وفي مقدمهم رجال دين 
شيعة» بينهم شعراء وخطباء وأئمة مساجدء للتبشير باقتراب الخلاص من الاستبداد 
العثماني وانبلاج فجر المدنية والحرية. 


كان الحداثيون يؤمنون بعمق» ولكن بقدر قليل من الإدراك الحصيف». أن 
الأوروبيين سوف يفتحون أمام مجتمعهم صندوق الغرب السحري؛ وأنهم لهذا 
يربطون مصير أفكارهم» وحتى أقدارهم الشخصية» بالرهان على تحقق الوعود 
المقطوعة. ثم تجلت اكبر أوهام النخب الفكرية والثقافية العراقية» وفي أنصع 
الصورء حين استقبل عدد منهم بالترحاب والتهليل فاتح بغداد""" الجنرال مود في 
آذار/ مارس ۱۹۱۷ كما فعل الرصافي» مثلا في قصيدته الشهيرة «فاتح بغداد». مَثَل 
الرصافي الذي كان يتتبع الزهاوي مسحوراً «بفلسفته الشعرية» وجرأته التي بلغت 
أحياناً درجة الوقاحة والاستفزازء ومن دون أن تكون لديه الفرصة لعقد صداقة مع 
الرجل الذي أحبه وأعجب فيه» وهذه تمكن من الحصول عليهاء تالياً؛ نموذجاً 
موازياً اللتقف قلق آخر؛ ارتعشت روحه أمام الخطى الجبارة لفكرة الحداثة» ولكن من 
دون أن تكون لديه القدرة على موازنة الأمور موازنة صحيحة. وتجلت أعظم 
أخطائه» حين زج بنفسه في حقل السياسة اليومية» وراح يعقب على الأحداث 
«شعرياً» وكأنه يقوم بذلك بمهمة مقدسةء في ترويجه لأفكار بدت في نظر نقاده 
وكأنها تكرار لأفكار ماسونية كانت مألوفة في هذا الوقت. كان يرى في نفسه 
وبحكم كونه شاعراً أحق من الآخرين بالدعوة إلى الإصلاح وقيادة معاركه”"" . 
ولكن الرصافي ما لبث أن كشف عن حقيقة مروعة: كان وعيه السياسي للأحداث 


(١‏ ممدوح حقي» معروف الرصاقي: دراسة وتحليل (بيروت: منشورات دار اليقظة العربية للتأليف 
والترجمة والنشرء [د. ت.]). 
(۱۷) المصدر نفسه. 


١4 


يتدنى ویتسطح أمام جاذبية أفكار وأحلام الإصلاح» بينما يتصاعد وعيه للعالم 
ااشعرياً؛ وإلى الحد الذي لم يعد بالوسع التمييز بين ما يبدو خيالاً صافياً وخالياً من أي 
اثر للواقع؛ وما هو واقع ومتشابك ومعقد لا يترك للمرء أدنى قدر من الحلم 
والخيال. وعندما عاد من الأستانة خائباً بعد إخفافه في إصدار مطبوعة إصلاحية 
بالتعاون مع التنويريين الأتراك» وعلى أثر تبلور معاداته للسلطان عبد الحميد كلياً على 
أيدي هؤلاء» وجد نفسه يردد فكرة ملتبسة عن «الإخاء الديني». في هذه الفكرة 
ومن خلالها تجلت بعض أوهامه عن التحول الهائل فى العصر . كان يؤمن أن العصر 
الحديد؛ وزوال الاستبداد العثماني» أهم معاله واس هو عالم «إخاء؟؛ من نوع لد 
سايق له بين البشر. 

على أثر سقوط القدس في يد الجنرال اللتبي بر جامد ري ار 
فلسطين «وصل هربرت صموثيل» أبرز القادة الصهاينة» فوقف الرصافي مييه من 
بغداد بقصيدة كال له نقاده بسببها أقذع التهم : 


خطاب وذا قددعاناإلىي الفكر ‏ وذكرنامانحن فيه عل ذكر 
لدى محفلٍ في القدس بالقوم حافل تبوأههرير صموئيل في الصدر 
دعاهم رئيس القدس ذو الفضل راغب إليه فلبُوادعوةّمن فتىئى حر 


2 5 ۰ ٠ 
فأمسوا وفي ليل المحاق اجتماعهم يحمون من هربر صموئيل بالبدر‎ 


تراءى احتلال فلسطين في حى الدعوة إلى التحديث والإصلاح ؛ كما لو کان 
استطراداً في نضال «الفتى العربي الحره من أجل الحرية» ليقف هذاء مستجيباً للوهم 
ولروح التحدي الزائفة» محارباً الاستبداد بلا هوادة ومستسلماً لقدره» تعتمل في 
روحه بسالة عربي وجد نفسه في الميدان ولا سبيل أمامه سوى القتال حتى الموت؛ 
ولكن من دون كثير إدراك بأنه يخوض معركة «آخرين» لا معركته . وسرعان ما وجد 
الرصافي نفسهء وبعد قليل فقط من الوقت» وتسارع الوقائع على الأرض» وظهور 
أدلة جديدة كذلك» برهنت له على أنه ضحية خداع لا مثيل لهء ليحذر العرب 
' والعراقيين «من مكائد الاستعمار» . كان الرصافى نموذجاًء قلما صادفه المرء فى 
التاريخ الأدبي للعرب» الشاعر الذي تجرفه الأحداث من دون تبصرء أو مقاومة. ٠‏ 

كان إغراء الاستشراق طاغياًء بحيث صوّر احتلال فلسطين من قبل البريطانيين 
كما لو كان» هو أيضاًء استطراداً فى العمل الشاق نفسه من أجل الحرية. فى تلك 
اللحظات الطويلة والفاصلةء أيضاًء تراءى مود في مرآة الاستشراق بصورة فاتح 


14 


عظيم» وهي صورة سرعان ما تلقفها الحدائيون» وراحوا يروجونها في شعرهم. 
كانت الموجة الأولى من الأفكار الليبرالية قد انطلقت لتتشكل عندئدٍ ما يمكن اعتبارها 
الملامح الأولى لتيار ليبرالي ينادي بالإصلاح والحرية الفكرية . ولكنه بالرغم من كل 
حماسته ظل تياراً نخبوياً معزولاء يتكلم بنوع من الرطانة عن موضوعات لا تعرف» 
عنها الغالبية في المجتمع شبه الأمي» أي شيء له قيمة أو تأثير في حياتهم اليومية؛ 
بينما على الطرف الآخر بدا الكتاب والشعراء التقليديون أكثر تماساً وقرباً من 
الموضوعات ال خارة . 

انتهت الليبرالية الأول إلى الفشل والهزيمة الماحقة حقة لأفكارهاء مع فشل وسقوط 
الحلول الاستشراقية التلفيقية وتحول الفاتحين العظام إلى مستبدين عظام . كانت نياتهم 
حسنة» ولكن ألسنتهم كانت طويلة» حتى أن بعضهم لم يكن ليتردد عن تبرير جرائم 
الاحتلال البريطاني والدفاع عن منطق الحلول الاستشراقية» كما فعل الأب أنستانس 
الكرملي في صحيفته (العرب) التي أصدرها فور سقوط بغداد وبناة على طلب من 
الجنرال مود نفسهء وكانت مهمتها تبرير السياسة البريطانية والدفاع عنها“'. 


ولذلك رأينا الزهاوي يعلن ندمهء وبعد وقت قصير من اندلاع الثورة وتعرض 
قادتها للبطش» على تسرعه وطيشه في تأييد البريطانيين"' . ويبدو أن قسوة الإنكليز 
وبطشهم بثورة ۱۹۲١‏ كانت من بين أكثر العوامل التي دفعته إلى الشعور بالخيبة . 
وكما لاحظ إبراهيم الوائلي” ' "© فقد هزت الزهاوي» ومن الأعماق؛ سلسلة المأسي 
التي تعرض لها الثائرون» وشعر أنه وبعد أن تخل عن الثورة وناهضهاء واعتبرها 
تمرداً ضد روح العصرء قد أصبح ضحية سخط وغضب شعبيين» ولذا أبدى» في 
وقت لاحق» شيئاً من الندم على مواقفه المتسرعة هذه. 


إن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أن الزهاوي كان نموذجاً للشاعر والفيلسوف 
القلق'''' الذي لم يكن راغباً ولا مستعداً لتصديق دعاوى المثقفين التقليديين القائلة : 
إن الغرب لن يسمحء في النهاية وبقطع النظر عن شعاراته» للشعوب الضعيفة 
بمشاركته في قيم الحرية والمدنية أو التقدم. إن فشل وإخفاق ثم تلاشي جاذبية أفكار 


(۱۸) انظر: يوسف عز الدينء» الزهاوي الشاعر القلق (بغداد: [د. ن.» د. ت.])ء ومناقشة عبد الرزاق 
الهلالي» في : عبد الرزاق الهلالي» تاريخ التعليم في العراق في عهد الاحتلال البريطاني» 1۹۲1-4 
(بغداد: مطيعة المعارف» 6/ا9١).‏ 

() المصدران نفسهما. 

(١)انظر:‏ إبراهيم الوائلي» ثورة العشرين في الشعر العراقي (بغداد: مطبعة الإيمان» »)۱۹١۹۸‏ 
ص ۱1١‏ والهلالي» المصدر نقسه. 

()عز الدين» المصدر نفسه. 


10۰ 


الليبرالية الأولى في العراق والمنطقة» ناجم بالدرجة الرئيسة عن ذلك القدر المريع من 
التناقض المستعصي على التفكيك» بين الحاجة إلى الإصلاح والحرية والتحديث» 
وارتباط هذه الحاجة بالضغط الخارجي القوي الذي سلطته أوروبا على العثمانيين. لم 
تتمكن النخبة الفكرية العراقية من تقديم مقاربة بناءة تعيد فك الارتباط بين مطالب 
الإصلاح والخطر الخارجي الذي استغل هذه الحاجةء أو على الأقل أن تقوم بتحويل 
مطالب الإصلاح إلى مطالب ذات مضمون وطني (محلي) وفي الآن ذاته مشاركة 
GOEL O‏ ل 
تنك تنتشر في البلاد طولاً وعرضاً وتم ختلف الشرائح 

كان استبداد العثمانيين» يبدوء بالنسبة إلى ا غير قابل للمقايضة وبرهاناً 
غامضاً وغير حسوب على العامل الخارجي» الذي استثمر » بدهاء» مخاوف العثمانيين 
من الإصلاح ليرمي بكل ثقله خلف شعارات التحرير من الاستبداد ويجعل منها مطلباً 
وطنياً (حلياً) . بكلام اخر مواز؛ فإن من قام بفك الارتباط وتوطين هذه المطالب» 
ومن ثم تحويلها إلى قوة ضغط فاعلة كسبت جمهوراً واسعاً إلى جانبهاء وبخاصة في 
أوساط المقهورين من البسطاء وعامة الناس المتطلعين إلى الخلاص بأي ثمن»؛ حتى 
وإِنْ كان احتلالاً آخر» إنما هو الخارج نفسه الذي حوّك أساطيله وجيوشه لدك آخر 
إمبراطورية إسلامية . ليست جماعات الاصلاح التي أخفقت حتى على مستوى 
تحليلاتها للظروف» هي من قدم هذه المقاربةء وليست الليبرالية الأولى هي من قام 
بفك الارتباط ؛ بل المستعمرون أنفسهم» وذلك حين قاموا بتقديم شعار التحرير على 
شعار الاحتلال» وراحوا يغدقون الوعود بالحداثة والرخاء. 

تجلت أكثر أوهام النخب الفكرية والثقافية تضليلاء في هذه النقطة وفي الترويج 
غير المتبصر لفكرة أن البريطانيين فكوا عملياً ‏ الارتباط بين مخاوف العراقيين من 
الاحتلال وبين تطلعهم للخلاص من الاستبداد. على هذا النحو راجت في أوساط 
النخبة» وبقوة لا مثيل لهاء مزاعم عن أن البريطانيين جاءوا بالفعل كمحررين لا 
مستعمرين» وأن الإصلاح على أيديهم هو الخيار الوحيد الممكن والقادم لا عحالة؛ وأن 
لا وسيلة لوقفه» أو اعتراضه . وبالتالي لا سبيل لتفادي موجة التغيير الهائلة التي تعم 
العام مهما كانت درجة المقاومة التي سوف يبديها المذعورون من المدنية والتحرر. لقد 
هبت رياح التغيير مع موجة الفتوحات الاستعمارية. وهذا قدر لا مفر منه؛ كما لا 
تنبغي مواجهته. هكذا كانوا يعتقدون. 

ولذاء جرى وبشكل غير منسق من جانب النخب» تقديم مطالب الإصلاح 
وعرضها على المجتمع» كما لو أنها نتاج الوقوع في سحر الغرب وغرامه» على 
الطرف الآخر. وبينما كان الحدائيون ينغمسون في الترويج لأوهامهم» عبّر رجل 


10١ 


الدين الشيعي والشاعر الثائر محمد باقر الشبيبي ببلاغة نادرة عن خيية أمل النخب 

إزاء وعود الحداثة» في قصيدة شهيرة نشرها عبد الرزاق الهلالي» وخاطب فيها المستر 
(r)‏ 2 

كراين 5 


هتفوالتحرير الشعوب وم يكن لهتاقهمإلا الصدى يتردد 
وَعدّوا على الشعب المهيض وشأنهم في كل مطلع نهمضة أن يعتدوا 
ظنواالعراق الهندأوهومثلها كذبت ظنومْمُ» وخاب المقصد 


كان انيار الحل الهندي وإخفاق وعود الحداثة وتعاظم درجة البطش والقسوة 
على أيدي ضباط الاحتلال البريطاني» من بين أكثر الدلائل على أن النخب الحدائية 
والليبرالية العراقية كانت في وضع يفضي بها إلى أن تتقاسم الفشل عاجلاً أم آجلاً 
مع مَنْ تخيلتهم محررين ثابتي الخطى. وليس من دون معنى أن مؤرخي الأدب 
العراقي توقفوا ملياًء تنتابهم الحيرة أمام سلوك أبرز ممثلي النخبة الفكرية من الذين 
امتدحوا الإنكليز ونصحوا العرب (لا العراقيين وحدهم) بالالتجاء إلى هؤلاء 
المخلصين» وترك حكومة الأتراك 290 والمضي على طريق وعودهم» نعني الشاعر 
الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي» حتى ثارت سجالات ونقاشات استمرت وقتأ 
طويلاً (ما بعد الاستقلال) . ا 


نشر الزهاوي أشهر قصائده على الإطلاق» يوم كان لا يزال في مقتبل العمرء 
يعيش في الآستانة» نحو العام ۱۸۹١‏ - 1۸۹۷ حسب أفضل تقديرات مؤرخي 
سيرته الأدبية» وقد وضع لها عنواناً مثيراً واستفزازياً: (ولاء الإنكليز) ثم نشرها في 
ديوانه الكلم المظلوم. استبق الزهاوي المفتون بفكرة الحداثة دخول البريطانيين إلى 
بغداد (واستبق خطاب الجنرال مود عن التحرير) بأكثر من عشرين عاماً» ليعلن ولاءه 
للغرب وإصلاحاته» وأنه كان وما يزال مؤمناً إيماناً عميقاً بأن روح العصر تعني 
الإيمان بالتقدم على أيدي الأوروبيين. يوم كتب القصيدة» كان الشاعر يقيم في 
الآستانة عاصمة العثمانيين حيث اختلط هناك بالشباب التركي المتطلع إلى سقوط 
السلطان عبد الحميد. ولذلك ذهب شوطاً أبعد ما ينيغى فى إعلان عدائه هو أيضاً 
للعثمانيين الأتراك» بحيث بات مستعداً أكثر فأكثر للتخلي عن أسلوبه القديم في نشر 


(۲۲) انظر قصيدة محمد باقر الشبيبي» تحية إلى مستر كراين» منشورة في: الهلالي» المصدر نفسه. 
0 انظر النقاش حول هذه المسألة» في : عبد الرزاق الهلالي» دراسات وتراجم عراقية (بيروت: 
مكتبة النهضة. .)]1١9197[‏ 


1١6 


القصائد بأسماء مستعارة في الصحف المصرية» وراح يجاهر علناً بمديح الإنكليزء 
مشجعا قبول معونتهم من أجل الدستور الذي كان الحزب المناوئ لعبد الحميد يطالب 
فيه (وكنتٌ قد نظمت لهذه الغاية قصيدة امدحُ فيها الإنكليز وأشيدُ بقوة أسطولهم . 
وإلى اليوم يعيبني ناقدوني ‏ نقادي ‏ على هذه القصيدة)". هكذا كتب الزهاوي 
وهو يترنم بمطالع قصيدته: 
تبصرأبهاالعربيواترك ولاء (البعض) من قوم اللثام 
ووال الإنكليزرجال عدل وصدق في الفعال وفي الكلام 


لم يكن مستر كراين موضوع المديح» شخصاً عادلاً يستحق هذا القدر من الثناء؛ 
وما كان الضباط الإنكليز رجال صدق يستحقون كل هذا الاحتفاء بوعودهم المقطوعة 
للعراقيين . وذلك ما سيقوله الزهاوي بنفسه بعد سنوات من الأوهام. ففي عام 
7 وجد نفسه مضطرا لإبداء مشاعر مغايرة إزاء الإنكليز» وراح يبدي قدرا من 
التعاطف مع الأتراك وبخاصة مع وصول أنور باشا إلى بغداد في أيار / مايو من العام 
نقسه . لقد وقف يبجو البريطانيين هجاء مقذعا: 


نحارب حتى نأمن الغدر منهم متى يبصروا وهنا من الشعب يغدروا 
إلى أن يول الإنكليز بنفسهم نعم نحن أخطأنا السياسة فاعذروا 


ومع هذا ظل الزهاوي متشبثاً بموقفه الأول الذي سبق له وأن عبر عنه: الولاء 
لبريطانيا؟ حتى بعد اندلاع ثورة 147١‏ التي راح يندد بها علناً وبصورة استفزازية 
البت عليه جمهورا واسعا. إن النموذجين المتصارعين (نموذج الشبيبي ونموذج 
الزهاوي) يمكن لهما أن يقدما صورة دقيقة وملخصة عن موقف النخبة العراقية فى 
هذا الوقت» فبينما كان الشاعر التقليدي (رجل الدين الشيعى الثائر) محمد باقر 
الشبيبي يتخذ موقفاً راديكالياً من الاستعمار البريطاني بالرغم من مشاعره المجروحة 
من العثمانيين» ويعارض سياسة (التهنيد) بشدة» ويرى فيها تلفيقاً استشراقياً» كان 
الفيلسوف والشاعر الحداثي جميل صدقي الزهاوي يتخذ موقفاً مضاداً على طول الخط 
للثورة والاحتجاج على القمع؛ بل ويدعو الليبراليين العراقيين» صراحة: إلى عدم 
التردد في الاستسلام؛ من دون قيد أو شرط لمن بدوا في نظره محررين. كانت 
التقليدية والحداثة في لحظة تعارض تاريخية فاصلة في حقل السياسةء وإزاء الموضوع 


(۴) المصدر نفسهء ص 115 


1١0 


عتابهم في الوقت ذاته الذي كان فيه البريطانيون يستعدون للغزو: 


أماصفحناعن الاضي لأعينكم 2 أماأديلت لكمأيامنا الأول 
Ce)‏ 
بالله لا تجرحواأكبادناودعوا جراح (برقة) و(البلقان) تندمل 


كان وضع النخبة التقليدية من هذا المنظور ‏ والتي ظل موقفها مادة لنقد 
الحداثيين الذين كالوا لها الاتهام بالتراخي عن دعم مطالب الإصلاح ‏ يتسم بتعقد 
الظروف وتشوش المواقف السياسية من حولهاء ولكنه قلما اتسم بالعجز عن إنجاز 
نوع من فك الارتباط بين الموقف من الاستبداد العثماني والموقف من الخطر الأوروي 
(البريطاني تحديداً) . وكان بوسع رجال دين شعراء ينادون بالإصلاح والحرية. أن 
يظهروا ما يكفي العزم على معارضة مساعي الغرب الاستعمارية . إجماشيئان 
منفصلاً لا ينبغي اخلط بينهما أو تبرير أحدهما بالآخر» فالجزع من الاستبداد يجب أن 
لا يؤدي إلى القبول بالحل الخارجي . وحين اختبر التياران» على الطبيعة» كل هذه 
ا مواقف والأفكار والأوهام؛ اتضح أن أهداف البريطانيين كانت أكبر من شعار 
التحرير. بعد نحو خمسة أشهر من اندلاع الثورة وتحديداً في ١١‏ 7 تشرين الأول/ 
أكتوبر *'" أثار الزهاوي ضجة كبيرة ة في المجتمع بأسره حين قام باستفزاز مشاعر 
العراقيين» وهو يلقي خطبة عصماء ء في احتفال أعد لاستقبال برسي كوكس في محطة 
القطار. لقد حل للتو محل الضابط العنصري ولسن. ولم يكتف الزهاوي بالتهليل 
لمقدم كوكس» بل خاطبه بقصيدة مثيرة قال في مطلعها : 


عدللعراق وأصلح منه مافسدا وابثث به العدل وامنح أهله الرغدا 
ا فیمایکون كما أنْ كان معتمدا 


كانت الثورة في نظره قلاقل» ما (ثار ثائرها في الأطراف إلا من سوء التفاهمء 
وأن المتفكرين في الأمة قد ذموها)"". وأن بريطانيا هي حزب الحق : 


أتى الله حزب الحق نصراً فحرروا وراء انتصار في الحروب شعوبا 
وأعطوامن العدل العراق نصيبه يسرون من أهل العراق قلويا 


(۲۵) انظر : المصدر نفسهء والعراق» 147١/١1/١7‏ 
(5؟) الهلالي» المصدر نفسه. 


10٤ 


إذا ما وضعنا حوارية فرنسيس مرّاش في هذا الإطار بين الحق والعقل» فسوف 
نلاحظ كيف أن النخبة العراقية رأت في الغرب العظيم» وبالمقلوب» رمزاً للحق» 
بينما كان يمكن بقليل من التبصر والنزاهة أن ترى فيه رمزاً لتلك الشخصية المتنكرة 
والمقئّعة التي تسترت على روح التوحش في أعماقهاء حين أبدت وبخلاف ما هو 
حقيقي» مقداراً مذهلاً من الرياء والخداع . لم يكن الغرب العظيم حزباً للحق كما 
ارتأى الزهاوي المنبهر بفتوحاته وأساطيله إلا بمقدار ما أظهر هذا الغرب من طاقة 
على التمويه. على هذا النحو أصبح تخيل العراق وظيفة المحرّرين الذين تم تحريرهم 
في الحال من استبداد العثمانيين لا وظيفة المستعمرين الغاطسين في وحول الريف 
العراقي ومشكلاته العويصة. لقد استلهم هؤلاء قيم الاستشراق وآمنوا بتصورات 
الضباط الاستشراقيين ورؤاهم» وأضحوا منذ الآن على الأقلء أسراهم المكبلين 
بأغلال المفاهيم الملتبسة والغامضة. وإ كانوا ينطقون بالنيابة عنهم . وبخلاف 
مواقف المجتمع ورغباته وتطلعاته» رأى هؤلاء في استبداد البريطانيين عدلاً أو نوعاً 
من عدل. وفي حلولهم الترقيعية الاستشراقية نوعاً مُلهماً من العلاج لمجتمع الرجل 
المريض في أوروبا. ولكن؛ إذا كان الزهاوي استبق الاحتلال البريطاني بنحو عشرين 
عاماً حيث جاهر بوقوعه في غرام (قوة أسطولهم الحربي) ومدنيتهم العالية؛ فإن من 
الصعب الزعم أن تياراً ليبرالياً قد تشكل في العراق في هذا الوقت» والأدق أن 
الليبرالية الأولى في صورتها الأكثر نضجاًء ولدت مع تفجر المعركة حول 
الدستور(الثورة المشروطية .)۱۹٠۸ ٠۹٠١‏ ومهما يكن من أمر فمن المؤكد أن 
الليبرالية الأولى كانت ضحية الاستشراق بالقدر نفسه الذي بدت فيه وكأنها صنيعته . 


ثانياً: فشل الليبرالية الثانية 
القد جعل الرئيس بوش من تشجي عالديمقراطية ونعزيزها الهدف الركزي لسياسته 
ا خارجية» وريط هذه الديمقراطية بمتطلبات الأمن الأمريكي وتبنى حجة الحافظين 
ا جدد القائلة : إن أم نأمريكا من الإرهاب ا خارجي» يتوقف عل ىحوي لالعال م العري إلى 
منطقة ديمقراطية» حتى ول وتم ذلك بالقوة» وكان من الفرو ض أن يكون العراق 
نموذجا للإصلاح في النطقة قب لأن يغرق في العنف والفوضى» . 


باتريك ا 


إذا كانت ليبرالية عصر الاستشراق الأولى» تعرضت لنكسات قاتلة ومتتالية 
نتيجة انبيار دعاوى وصور الاستشراق نفسه» الذي تلبّست روحه الفتية والوثابة 


(۷) باتريك سيل» في: الحياق ۹/۴/ ۲۰۰۵. 


100 


أفكار التحرر من الاستبداد» على أيدي خررين مغامرين يقطعون البحار والمحيطات» 
فتقمصتها واندجت فيها؛ ثم فشلت وأخفقت» تالياء في تخطي عثرات الاستشر شراق» 
أو تعديل تصوراته النمطية وإنْ على استحياء» تماماء مثلما فشلت في فهم ضرورات 
فك الارتباط» بين حاجة المجتمع إلى الحرية والتقدم والمدنية والتحديث» والمخاوف 
الحقيقية في اللجتمع نفسه من وجود خطر خارجي يتهدده» وهي مخاوف كان يتوجب 
رؤيتها كشيء غير قابل للتعمية أو التلاعب؛ فإن موت الليبرالية الأولى كان يكمن» 
بدرجة موازية وأقل رياء من نظرات بعض الليبراليين أنفسهم لوقائع التاريخ» في 
إخفاقها المريع وعجزها عن فهم حدود التناقض غير القابل للحل الذي فجرته في 
المستعمرات. 


وعلى طول الط ؛ بدا هذا التناقض المشحون بكل عناصر التفجرء في 
المجتمعات الشرقية المستعمرة» نوعاً من امتداد طبيعي لتناقضات ذات طابع أخلاقي» 
عاشتها أوروبا الديمقراطية وصارعتها؛ بين كونها ديمقراطية فى الداخل وإزاء 
شعويهاء وكونها في الآن ذاته استعمارية في الخارج وإزاء الشعوب الأخرى. وهذا 
أمر تجلى في أنصع ما يكون في تصاعد الحركات المناهضة للاستعمار والتي كانت 
تستمد العزيمة عبر المحيط الأطلسي من النفوذ المتزايد الذي حققته وثيقة الرئيس 
الأمريكي ودرو ويلسون (حق تقرير المصير للأمم والقوميات )١14114‏ التي ألهمت 
شعوب العالم . وإذا ما كان المرء قادراً في حدود استطاعته» على إدراك هذا البعد 
الشائك من تأثير الاسد ستشراق السياسي ودرجة نفوذه» فإنه سيرى من خلاله معنى 
فشل النخبة وعجزها عن تفهم حقيقة أن أوروبا هذه إنما كانت في الأساس نتاجاً 
وتجسيداً في الآن ذاته» للتناقض البنيوي الصارخ في نظامهاء فهي لا تستطيع بحكم 
الأشواط التي قطعتها في التطور السياسي » وبفضل بنية التشريعات الليبرالية كذلك» 
إلا أن تكون ديمقراطية فى الداخل وإزاء مواطنيها بالدرجة الأولى» واستعمارية في 
الخارج وإزاء الشعوب المضطهدة» وأن الأمر برمته» من هذا المنظور المزدوج» قد 
يكون أبعد من مجرد تناقض قابل للحل . 

لم تكن أوروباء والحال هذه ضحية التناقض بالقدر الذي كانت فيه تجسيداً 
للحظة تاريخية من صنعها هي » أصبحت فيها وبفضلها وكأنها كائن خرافي من ألف 
ليلة وليلة» يفكر بحل الألغاز بواسطة رأسين» ولكنه هو يحاور الأميرة الشرقية 
الضائعة يكتشف أنه عاشقها وقاتلها فى الوقت عينه . وبالتالي؛ فقد تكشف الرهان 
على أن أوروبا يمكن أن تتصرف. بالمقلوب» وفي هذه اللحظة بالذات حين كانت 
أساطيلها تخر عباب البحر في الشرق» أو أن تتخلى عن ميولها ونزعاتها 
الاستعمارية» وفي ذروة عصر الفتوحات وبزوغ الاستشراق؛ إنما هو رهان خاسرء 


١5 


وأنه سيبدو إلى النهاية» ضرباً من الخيال والعبث . وبالفعل فقد تخيّل الحداثيون 
المتحمسون لأفكار الديمقراطية والحرية والتمدين» كما تلقوها منذ مطلع القرن 
الماضي ؛ أن القوة العسكرية الهائلة التى عبرت المحيطات واجتازت البحار بأساطيلها 
واتجهت صوبهم؛ هي أوروبا الديمقراطية ليس إلاء وأن أوروبا الاستعمارية الأخرى 
سوف تتوارى عن الأنظار حالما تبدي الشعوب الُستعمرة قدراً من الولاء. 


وفي الحق؛ فإن أوروبا الاستعمارية لم تكن قد اختفت» أو تلاشت» تمام» من 
المشهد. حين كان الجنرال مود يذيع خطابه عن التحريرء فيما ضباطه الذين أصبحوا 
حكاماً سياسيين في كل الأقاليم العراقية» يضعون الخطط النظرية الأولى لتهنيد 
العراق. مالم يكن موجوداً على المسرح إذ ذاك» إنما هو أوروبا الديمقراطية التي 
ظلت قابعة في قارتبهاء ولم تتحرك قيد أنملة إلى الأمام» تاركة العمل كله في يد 
صنوها وغريمتها أوروبا الاستعمارية. وكانت تلك واحدة من أكثر الأحلام بؤساً 
وأكثر الخدع دهاء. لقد استقبل العالم العربي الديمقراطية» كما لاحظ عزمي 
بشارة“» جاهزة يعناصرها المكونة الأساسيةء وذلك بعد أن ارتبطت أو تصالحت 
مع الليبرالية» وبعد أن أنشأت مفهوم المواطنة الشاملة Citizenship)‏ اددىهتمنا) الذي 
يجسد تقاطع الديمقراطية والليبرالية0* "2 ولكن العالم العربي نادراً ما شهد دلائل قوية 
على وجود فهم خلاق لهذا الترابط في الفكر السياسي الذي ظل يجادل الغرب» 
خلال حقبة النضال التحرري الوطني» بالحقوق الوطنية حول الديمقراطية بشكل 
أداتي” ٠‏ أي من أجل المحاججة والسجال مع الثقافة الاستعمارية باستخدام حجة 
الديمقراطية : «ما دمتم تتحدثون عن الديمقراطية» فلماذا لا تعطونا شيئاً منهاء . 


كانت تلك» وبتكثيف شديد ومهذب. الفكرة العمومية تقريباً لفحوى السجال 
بطبيعته اللاستجداثية المقيتة ضد الثقافة الاستعمارية› وهذا ما يتجلى بوضوح ساطع 
في أفكار الليبراليين الأوائل الذين اشتركوا فعلياً مع التقليديين والتقدميين 
(اليساريين) في تذكير الغرب الأوروبي بديمقراطيته الداخلية» وآمنوا أن هذا النوع 





.)7١١7 عزمي بشارة» طروحات عن النهضة المعاقة (بيروت: رياض الريس»‎ (A) 

(۲۹) حول هذه الفكرة» انظر : «التحول الديمقراطي : التدين الشعبي» نمط التدين الجماهيري» »2 في : 
المصدر نفسه. 

)١(‏ حول هذه الفكرةء انظر: السجالات التي دارت في عصر النهضة وما ورد في مذكرات السياسيين 
العرب والعراقيين» مثلا: عبد الرحمن الشهبتدرء مذكرات وخطب [الأعمال الكاملة]ء تحقيق وتقديم محمد 
كامل الخطيب (دمشق : وزارة الثقافة» ۱۹۹۳)ء ومذكرات السيد حسن أبو طبيخ؛ 1450-4٠‏ : خسون 
عاماً من تاريخ العراق السياسي الحديث» جمع وتحقيق جميل أبو طبيخ (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات 
والنشرء لم 


\o¥ 


من السجال يمكن» في ظروف مؤاتية أخرى» أن يثمرء أو أن يساهم على الأقل» 
في إحراج الغرب وجدانياًء أو أن يحمله على التخلي عن مستعمراته طوعا بحيث يبيب 
الشرق بعضاً من تقدمه الديمقراطي وإنجازاته الليبرالية . إن كون الغرب ديمقراطيا 
واستعمارياً في الآن ذاته (ديمقراطياً مع شعوبه واستعمارياً مع الشعوب الأخرى) 
ليس أمراً ناجماً عن افتقاده القدرة على فك هذا الترابط المزعج؛ بل عن طبيعة التجربة 
الكولونيالية التي لا تزال مستمرة حتى اللحظةء طبيعة فاعلة وديناميكية» مع عودة 
الروح الكولونيالية إلى أوروبا واستيقاظها؛ بل وحتى تأهبها للانخراط في تحالف 
رباعي يتوج عصر ما بعد الاستشراق» بحيث يضمها إلى الولايات المتحدة الأمريكية 
وروسيا والصين كما ارتأى سمير أمين!" . 


إن فكرة العودة الظافرة إلى مستعمرات الشرق الساحر» تستمد زحمها اليوم في 
أوروبا لا من شبكة المصالح الاستراتيجية فقط؛ وإنما كذلك من تراث ميثولوجي 
ضخم تراكم على امتداد عصور من الصراع» وعلى نحو أخص من نزوع تورات 
متأصل إلى العودة الظافرة إلى أورشليم الأولى. وبالنسبة لليبراليين الجدد كما 
نشاهدهم اليوم؛ فإن روح هذا السجال لا تزال تطل من حين لآخر وعلى استحياءء 
وفي ما يشبه نوعاً مقلوباً من الشعور بالإحراج. لقد باتوا هم مَنْ يشعر بالحرج جراء 
إلحاحهم على أفكار الإصلاح» من دون نقد جذري لتجربة الغرب نفسه؛ ومن دون 
قدرة على التشكيك في أن الديمقراطية التي يتحدث عنها الرئيس الأمريكي بوش» 
هي ديمقراطية مصممة لحماية الأمن القومي الأمريكي» وليس لحماية شعوب 
الشرق. 

ولذا راحوا كلما تعرضت مواقفهم للنقد من جانب المجتمع؛ أو من جانب 
خصومهم اليساريين التقليديين والأصوليين المشككين» يضمنون أفكارهم وسجالاتهم 
عن الإصلاح والحقوق المدنية وقضايا حقوق الإنسان» تذكيراً شبيهاً بتذكير أسلافهم 
من الليبراليين الأوائل» بأن الغرب الديمقراطي أقوى» من حيث ميوله الإصلاحية 
في الخارج» من ميوله الكولونيالية في مستعمراته الشرقية . وفحوى هذا التذكير» في 
خاتمة المطاف» يفيد بأمهم وإنْ كانوا يراهنون على قوة الخارج في فرض الإصلاحات 
الداخلية؛ إلا أنهم يفعلون ذلك وهم يدركون أن النظام العربي الراهن لم يترك من 
فرصة أخرى أو خيارا آخر» لا أمامهم ولا أمام مجتمعاتهم» سوى خيار القبول بحل 
القوة الذي يقترحه بوش . هذا التحجج بانعدام فرص الإصلاح الداخلي» من دون 


)۳١(‏ سمير أمين» «جيوسياسة الإمبريالية المعاصرةء» المستقبل العري» السنة ۰۲۷ العدد ۳٠۳‏ (أيار/ 
مايو .)56١5‏ 


10۸ 


معونة الغرب غير المباشرة» وحتى بواسطة التدخل العسكري كما حدث في العراق 
(حين نادى الليبراليون العراقيون صراحة بالحرب كوسيلة لفرض الديمقراطية) ناجم 
عن درجة مريعة من الفهم السطحي لطبيعة التحول في سياسات الغرب الذي يعود 
اليوم» كما لاحظ سمير أمين""" وهو على حقء إلى نوع من التكتل الكولونيالي 
العالمي لتقاسم النفوذ والثروةء في المستعمرات القديمة التي خرج منها إبان حقبة 
الاستقلال والتحرر الوطني . 

إن صيحات بعض الليبراليين العراقيين النجولة والمرئية ضد الولايات المتحدة 
الأمريكية؛ عن التجاوزات والانتهاكات اللاأخلاقية المريعة فى سجون «أبو غريب» 
وبوكا والجادرية وساحة النسور ومعتقل العدالة فى الكاظمية» والمداهمات المرعبة فى 
المناطق السنية المتواصلة بعد ثلاث سنوات من الاحتلال الفاشل» تكاد تكون نسخة 
طبق الأصل عن صيحات الليبراليين الأوائل» عن حقوق الإنسان فى المستعمرات . 
فهل وجدت الليبرالية الثانية نفسها أمام القدر ذاته الذي واجهته الليبرالية الأولى؟ 
ولماذا يُكال لها الاتبام نفسه؟ لا بد أن ثمة أسباباً عميقة أكثر رسوخاً في الوجدان 
الشعبي الممتليء بالمخاوف من الغرب؛ وليس مجرد تكرار عرضي لا معنى له لأخطاء 
مرتكبة في الماضي» من جانب أشخاص متهورين لا يتورعون عن إطلاق الأحكام 
القاسية؟ سوف تجد الليبرالية الثانية نفسهاء كما حدث فى الأمس البعيد» مرغمة على 
التلاقي مع اتبام كريه لطالما تردد في القرن التاسع عشرء بأن أفكارها استطراد في 
ضغط الغرب اللصوصي على العالم العربي» وأنها محض أداة في تحقيق مآربه. وما 
دامت عاجزة عن تقديم برهان» قد يستحيل تقديمه من دون إحداث قطيعة فكرية 
حقيقية مع الرهانات الزائفة والأوهامء بأن مطالبها شيء. ومطالب الغرب وضغوطه 
شيء آخر؛ فإن الاتهام سوف يلاحقها حتى بعد سنوات من زوالها وتلاشيها عن 
المسرح . 


إن المصدر الحقيقي للالتباس في مواقف الليبراليين العرب والعراقيين بشكل 
أخص والذي يتعين التوقف عنده بجرأة بالنسبة لممثلي النخبةء يكمن في أوهام 
الإصلاح الذي جاء الغرب لفرضه على العثمانيين الاستبداديين بالأمس» واليوم على 
(الرجعيين والتقدميين والثوريين الاستبداديين» على حد سواء؛ بينما لا يصدق 
المجتمع بأسره هذه الدعاوى. ویری بالضد من هذاء أن أطماع الغرب ليست وها 
تنسجه المخاوف» وليست تعبيراً عن الترددء أو الفشل في فهم حاجات الإصلاح . 
والأدق أن المجتمع بأسره وبخلاف مواقف النخب يرى أن الغرب عائد من جديد 


(۳۲) المصدر نفسه. 


ليفرض ما فرضه في الماضي » a‏ بامتحياء واستخاال CE‏ لبها 40 قد 
تكون أفكار النخبة الثقافية في عصر ما بعد الاستشراق عن الديمقراطية والإصلاح» 
وبالصورة التي جرى فيها الترويج لهذه الأفكار والسياسات المقترحة؛ وبالطرق 
والأساليب المتبعة حتى الآن لتسويقهاء وهي نالت بالطبع» الكثير ما تستحق من 
عدم الرضا والنقد بسبب طابعها الانفعالي؛ تكراراً» أو رجع صدى للرهانات 
القديمة» بأن الغرب الديمقراطي عائد إلى الشرق من أجل ترميم جنة عدن وجعلها 
صالحة للعيش . ولكن وبدلاً من أن تؤدي عودة الغرب هذه» إلى مساعدة المجتمع 
العربي على لعب دور فاعل في رسم خياراته ومستقبله؛ فقد أدت من خلال النموذج 
العراقي إلى إزالة المجتمع من الوجود وتفكيكه إلى طوائف وجماعات متصادمة . مم 
تتمكن النخب الحداثية ثية في خطابها الراهن» من أن تلاحظ أن الغرب لم يقم بأي نوع 

من الفصل بين الحاجة إلى الديمقراطية كأساس للحداثة المنشودة» وكونها متطلباً امنياً 
أمريكياً تفرضهء وبإلحاح. هستيريا الأمن القومي . 


وعلى العكس من ذلك»› قام الغرب بأسره بتصعيد المخاوف الجنونية من 
الإرهاب الشرقي. ومن المحتمل أن هذا التوتر لن يظل محصوراً بين نخبة محتجة 
وساخطة» وحكومات عربية معاندة وحسب» وإنما مع الغالبية من المجتمع 
والجماعات التقليدية في العالم العربي التي ترفع من شأن خطر الغرب بأكثر ما يفعل 
الليبراليون . ذلك لا يعني أن الأغلبية لا تريد الإصلاحء أو لا ترغب فيه؛ بل يعني 
على العكس أن الأغلبية في المجتمع العربي ترغب فيه وتريده» ولكن بأقل الأثمان» 
ومن دون أن يثير فيها الفزع . وربما يكون من سوء طالع العراق أنه وجد نفسهء من 
دون إرادته» وقد أصبح مختبراً لتجربة نظريات المحافظين الجدد في الديمقراطية» 
بوصفها متطلباً امنيا أمريكياً أكثر ما هي حاجة مجتمعية في العام العربي . لقد برهتت 
الاختبارات الأولى أن النموذج المقترح كان نموذجاً ما بعد ا ستشراقي بصورة لا 
تطاق . 


في الا ستشراق الكلاسيكي كانت الديمقراطية المفروضة بالقوة من الخارج سبيلاً 
لإنشاء امتداد كولونيالي . أما في ما بعد الاستشراق» فإن الديمقراطية ستغدو» ومن 
دون لبس » امتداداً لمتطلبات الأمن القومي للغرب» أي أنها ستتحول إلى متطلبات 
خارجية وحاجات غير ديمقراطية» يبدو الغرب بأمس الحاجة إليها . إن ما ينزع عن 
هذه الديمقراطية كل إغراء محتمل فيهاء مثلما ينزع من صورها أي تعبير عن الأبهة 
الزائفة؛ هذه التي ينمقها الإعلام كل يوم ومن دون جدوى» هو أنبا ديمقراطية» 
مُصممة في الأصل لتلبية احتياجات الخارج نفسه الذي جاء لفرضهاء وليس لتلبية 
. احتياجات الداخل العربي. وهذا ما لا يريد الليبراليون رؤيتهء أو أمعان الفكر فيهء 


11۰ 


وإلى الحد الذي تصبح فيه تنظيمات وقوى الليبرالية الثانية أكثر عنادأعلى أيديهم من 
الحكومات العربية الاستبدادية نفسها. وكما لاحظ ريتشارد بولك فى نقده نظرية 
بوش عن الديمقراطية خلال الندوة الدولية التى نظمها المعهد الفرنسى للسياسات 
الدولية فى باريس (حزيران/ يونيو )5٠١0‏ فإن الولايات المنحدة الأمريكية 
«استخدمت الحديث المدمق عن الديمقراطية لكنها مارست الهيمنة» وهى حتى زمن 
غير بعيد» كانت تعتقد بأن أفضل وسيلة لحماية مصالحها إنما يكون من خلال دعم 
الأنظمة الاستبدادية . وأما «تحولها إلى مؤيد للديمقراطية العربية فليس سوى أداة 
للهيمنة على المنطقة بالاشتراك مع إسرائيل»"" . 

كان النموذج العراقي حاضراً بقوة في كل هذه السجالات والمناورات 
الكلامية؛ الدائرة حول الإصلاح ومسألة الديمقراطية طوال خمسة عشر عاماً سابقة 
على احتلال بغداد ۱۹۹۱ - .۲٠٠۳‏ هل الرهان على الولايات المتحدة الأمريكية من 
أجل إسقاط أنظمة الحكم الاستبدادية في الوطن العربي وفرض الإصلاح بالقوة هو 
خيار صحيح ومقبول أم لا؟ هل يجب أن تسقط بغداد الاستبدادية بالقصف 
الصاروخي المروع» من أجل أن تنهض على أنقاضها وبقايا عظام سكانها «بغداد 
أخرى ديمقراطية»؟ و«ماذا يخسر العرب بالفعل من سقوط بغداد»!*:؟ . 

عندما سقطت بغداد كتب ليبرالي متعجرف (كان يسارياً متعجرفاً في الماضي) 
قائلاً وبلهجة تشفب مريعة وخالية من الحس الإنساني: «كان يجب أن تسقط بغداد ولو 
. أا م تسقط لكان ذلك عاراً»!*" . ولكن النقاش اتخذ منحى آخر مع فشل الغزو 
الأمريكي وانبياره في العراق الذي غطس في وحل الفوضى والخراب بدلا من 
الغوص في أنهار السمن والعسل . منذ هذه اللحظة أصبح النقاش محصوراً في تبرير 
الفشل الأمريكيء بينما استمر الرهان على نجاح التجربة «الديمقراطية العراقية؛ 
الوليدة. لقد علق بعض الإصلاحيين كل آمالهم على نجاح تجربة الغزو الأمريكي» 
حتى أن جماعة يسارية إصلاحية سوريا صغيرة» تصدر مجلة نظرية من بيروت» هللت 
في افتتاحية صاخبة للأمريكيين الذين أطاحوا الطاغية . ولكنها سلطت عليهم سيف 
نقدها اليساري فكتبت تقول" : «يبدو أن الإدارة الأمريكية بارعة في مضاعفة 


(۴۳) وليام بولك» «الواقع والخنيارات في حرب العراق»» المستقبل العري» السنة ۲۷ء العدد 71١‏ 
(كانون الثاني/ ناير »)7٠ ٠6‏ وباتريك سيل» في : الحياة. ۲۰۰۵/۹/۳ 

(4") من مقالة صاخبة للكاتب السوري عبد الرزاق عيد. كان عيد شيوعياً متزمتاً ثم أصبح ليبرالياً شديد 
التزمت. : 
(FY‏ الديمقراطي العربي (حزب العمال الثوري العريء» سوریا)» العددان ۷ - ۸ (أيار/ مايو )2 


۱ 


الكراهية لها عن طريق الإمعان فى المزيد من الأخطاء»ء وبسبب هذه الأخطاء بدد 
الأمريكيون سريعاً أهم العوامل التي كان من شانها أن تساعدهم على سرعة استيعاب 
العراق؛. وتضيف الافتتاحية التي تحمل توقيع حزب العمال الثوري بلهجة 
واثقة : «كما أن كثيراً من العراقيين كانوا على استعداد لتحمل مرحلة انتقالية صعبة من 
أجل نظام وطني جديد». ولأن الأمريكيين بحسب هذا المنطق الأعوج للعماليين 
الثوريين العرب في سورياء بددوا بأخطائهم فرصة ثمينة لنجاح الديمقراطية في 
العراق» فقد تبددت مع أخطائهم وفي الريح فرصة قيام نظام وطني جديد. 


وهكذا يصبح «الرهان الأمريكي» رهاناً لا على الديمقراطية والإصلاح والحداثة 
وحسب» وإنما كذلك على قيام أنظمة وطنية جديدة. يلخص هذا المنهج في التعامل 
مع خطر الخارج» بوصفه فرصة ثمينة» وإلى حد بعيد طبيعة المأزق الذي صادف 
الليبراليين الجدد في سوريا أثناء سيرهم على طريق الإصلاح . وتماما كما حدث في 
الماضي عندما تراءت الأوهام أمام الليبراليين الأوائل في صورة أحلام واقعية حين 
راهنوا على التحرير البريطاني في العراق» فقد أبدت جماعات إصلاحية عربية في 
مناسبات مختلفة» وبوسائل تعبير مختلفة أيضاًء رضاها وقبولها بالضغوط الأمريكية 
على النظام العربي بدعاوى الام الديمقراطي والحرية والحداثة. خلق هذا الرهان 
الذي كان مكشوفاً ومرئياً ول ية يتستر عليه أصحابه في الكثير من الأحيان» حتى مع 
فشل الأمريكيين في بناء النموذج الديمقراطي في بغداد» سلسلة جديدة من 
التعقيدات في مواقفهم . كانوا في الواقع مشوشين إزاء الواقع المعقدء ولكنهم كانوا 
مسلحين بجزع لا حدود له من النظام الاستبدادي العربي» وهم على حق بكل تأكيد» 
ويستحقون كل تأييد وتضامن في هذا الجانب من مشاعرهم الصادقة إزاء النظام 
العربي . بيد أن الجزع وحده ليس جواباً على الموضوعات والأسئلة المطروحة. 


لقد اغتقدوا بكل جزارخهم أن واشنطن سوف تفرض في النهاية » ومهما كانت 
مقاومة النظام العربي الرسمي» الإصلاحات المنشودةء وأنهم سوف يقطفون» في فى 
خاتمة المطافء» ثمرة نضالهم من أجل الإصلاح بسرعة غير متوقعة . لکن شيئاً من 
هذا كله لم يكن يلوح في الأفق أبداً . | تتمكن من التجاوب بسبب مخاوف الدول 
والمجتمعات من أطماع الغرب الاستعمارية» وهي مخاوف حقيقية وليست أوهاماً . 
وبينما هي لم تتجاوب مع هذه المخاوف» أو على الأقل رؤيتها كأمر حقيقي» وبالتالي» 
ومن أجل بناء جسور حقيقية مع المجتمع ؛ المسارعة إلى طمأنته بأن الإصلاح ليس 
رهناً «بالخيار الأمريكي»؛ فإنها بالغت في نكران وجود هذه المخاوف» واعتبرتها 
مبررات واهية غير جديرة بالنقاش . بالضد من ذلك» صعّدت بأشكال ختلفة» 
وبدرجات تعبير متفاوتة في حدتها ووضوحهاء من سقوف وحدود الرهان على 


۱1۲ 


المشروع الأمريكي للإصلاح» الذي كانت واشنطن تضغط من أجل فرضه على العالم 
العربي في إطار ما سمي «الشرق الأوسط الكبير الديمقراطي؟. وبالطبع فقد أهملت 
كلياً درجة الغضب إلذي يشتعل في نفوس العرب والمسلمين من السياسات الأمريكية 
المرائية والمنحازة لإسرائيل؛ وبالتالي» فشلت في قيادة حركة النضال ضد الخطر 
الخارجي بالتلازم مع النضال من أجل الإصلاح والحداثة . بكلام آخرء تركت مهمة 
اللعب على مسألة مواجهة الخطر الخارجي كلياً في يد النخب الحاكمة نفسها . وهذه 
راحت بكل دهاء تتلاعب بمشاعر المواطنين الذين كانواء بخلاف النخب» يغلبون 
في أحاديشهم اليومية واهتماماتهم مشاعر الخوف على مصير بلدهم ؛ وعلى مسائل 
الديمقراطية وتداول السلطة؛ لا لأنهم لا يريدون الديمقراطية» بل لأنهم ربطوا 
تلقائياً بينها وبين الضغط الخارجي والأطماع الاستعمارية. وكان هذا ذروة سوء 
الفهم لأكبر مهمة من مهام الإصلاحيين . 


أما في مصر فقد حدد الإصلاحيون الليبراليون العوامل التي تعيق عملية 
الإضلاع والانتتال إل التتحديت في ثلاث رامل كبري افراعات»؛ حين راحوا 
يرو جود, 2 أن «طغاة الداخل» ممائلون «لطغاة الخارج؛ حسب تعبير سعد الدين 
إبراهيم"" فقد تراءى آنئذٍ العدو الحقيقي للإصلاح :إنه الحركة الإسلامية» 
والسلام مع إسرائيل» والذعر من أفكار الإصلاح نفسها. إن العوامل الثلاثة الكبرى 
هذه جديرة بالتأمل لأا وعلى النسق الاستشراقي تمتلك صورة غرائبية هي صورة 
ثلاث «فزّاعات كبرى؛ حسب تعبير إبراهيم تواجه النظام العربي وتعيقه عن التقدم 
نحو الإصلاح : 


- تنامي وصعود «الأصولية الإسلامية» 


عد دعاة الإصلاح تنامي وصعود أدوار الحركات الإسلامية أمراً مصمماً في 
أهدافه ضد مشروعاتهم الإصلاحية . وعبروا في هذا الإطار. كما في تونس مثلاء 
عن فكرة تقول بأن الإسلام عامل إعاقة أمام التحديث . بينما انقسم دعاة الإصلاح 
في مصر إلى تيارين رئيسيين في النظرة إلى الحركات الأصوليةء تيار يرى فيها على 
غرار ما فعل سعد الدين إبراهيم» خصماً لا يطاق وجوده حياً في الميدان؛ وتيار رأى 
في بعض تعبيرات الأصولية المعتدلة (الإخوان المسلمون مثلاً) شريكاً في النضال 
الدستوري . كما جرى التعبير وبأشكال متفاوتة من القوة (وفي غالب الأحيان 


(۳۷) من مقابلة في حطة الجزيرة ضمن برنامج «من واشنطن؛ الذي يعذه الإعلامي المصري حافظ 
الميرازي » حلقة 1/4 كن 


11۳ 


باستخدام لغة مرائية تدعوء من جهة» إلى مقاومة انتهاك حقوق الإنسان أينما حدث» 
وتحت أي ظرف» ومن جهة أخرى تتغاضى عن حالات انتهاك أوضاع إسلاميين 
بعينهم» تمّ اعتقالهم وتعذيبهم أو حرمانهم من أبسط الحقوق) عن الرغبة في انخراط 
الأصوليين الإسلاميين في اللعبة السياسية» وفي بعض الأحيان نظروا إلى الحركات 
الإسلامية كعدو . وباستثناء تجربة الإصلاحيين في سوريا الذين تحالفوا مع الإخوان 
المسلمين سياسياً وتبنوا خطابهم نا مع السجارب الاحرى ا وما من 
العداء أو الصدام بين الإسلاميين والإصلاحيين. 


إن تنامي قوة الإسلام السياسي في مصر وسوريا وتونس والخليج العربي» 
مثلاء وبدلاً من النظر إليها كظاهرة ذات طابع إقليمي» وربما عالمي» له صلة عضوية 
بما يمكن اعتباره رد فعل تلقائي على سياسة اضطهادٍ و«ملاحقة للإسلام» صممت 
الولايات المتحدة والغرب على أتباعها تحت ستار #الخرب على الإرهاب4» جرى النظر 
إلى الإسلاميين بشكل عام من منظار الغرب» وباستخدام أساليبه وحتى لغته. وبذلك 
بات بعض الإصلاحيين شركاء في حرب لا يقودونها ولم يخططوا لها. وريما أصبحوا 
في نظر التقليديين والمحافظين ذ في المجتمع جزءاً عضوياً من العدوء امتداداً له في 
الداخل . وهذا ما تعكسه بدقة جملة الاتهامات التي جوبه فيها الإصلاحيون . وبالطبع 
فهي اتبامات باطلة ولا أساس لها. كان صعود أدوار الأصولية الإسلامية في العام 
العربي مرتبطاً ومتلازماً مع المأزق السياسي الذي وصل إليه النظام العربي الرسمي» 
ولجملة تطورات وظاهرات وتفاعلات داخل المجتمع ناجمة. بدورهاء عن إخفاق 
سياسات التنمية في العالم العربي؛ مثلما هي خلاصة سياسات مزدوجة مدمرة ومخيفة 
اتبعها هذا النظام مع الحركات الإسلامية» راوحت بين المهادنةء أو محاولات 
الاحتواءء وبين القمع والإقصاء السياسي والحرمان من أي شكل من أشكال المشاركة 
في الحياة السياسية . 


وثمة عوامل أخرى متراكبة ومعقدة تتصل بالسياسة التي اتبعتها الولايات 
ا متحدة الأمريكية والغرب عموماً مع العرب والإسلام. إن الإهانات التي يتلقاها 
الزعماء العرب من الأمريكيين وخنوعهم وإذعاهم للشروط والأوامر الأمريكية» 
كانت على الدوام من أهم المواد التي أشعلت غضب جماعات متزايدة من الشباب 
المسلمء لم تجد مناصاً من الانخراط في المجموعات الأصولية أو الانضمام إلى 
خطابها ونشاطاتها. كانت السياسة بالنسبة ليل جديد من الشباب المسلم في العام 
العربي مزجا من مشاعر متفجرة بالغضب على سياسات الغرب» والحنق على خنوع 
النخب العربية الحاكمة. فى هذا السياق كان ما بعد الاستشراق» وليس الاستشراق 
القديم» لاعباً قوياً في تشكيل ونمو وتطور الأصولية. لقد لعب «منظرو الإسلام» 


15 


الجدد في الولايات المتحدة الأمريكيةء وتحت تأثير برنار لويس (الذي نقده إدوارد 
سعيد بطريقة جذرية وهشمء تاماء الأوهام التي تشيعها أعماله المعادية للعرب)040 
وعلى خطاه دانييل بايبس الذي تعتمل في أعماقه كراهية من نوع مرضي للإسلام» 
وريتشارد بيرل المهووس بالعراق؛ والاكثر غطرسة بين كل المحافظين اليمينيين» 
وبال حمال طاقم ماعة معهد السلام الأمريكي )Middle East Forum)‏ في معظمه 
تقريباً دوراً خيفاً في إنشاء صور زائفة عن الإسلام» كما في كتاب برنار لويس أزمة 
)۳۹( 
الإسلام 5 


إنه موضوعهم التنظيري المفضل الذي انهمكوا في دراسته «فقهياً وتقليب أركانه 
من كل الأوجهء من أجل تحويل الإسلام نفسه إلى «عدو محتمل» للغرب . وبذلك؛ 
ومن خلال عمل منظم إلى حد بعيدء أشاعوا النظرات المعادية للعرب» وكراهية 
المسلمين بالطبع» إلى الحد الذي طبع بطابعه السياسة الخارجية الأمريكية خلال ولاية 
بوش الابن الأولى» وإلى الحد الذي أصبحت فيه هذه المشاعر موضوعاً تنافسياً؛ 
ونظمت لهذا الغرض حملات ملاحقة وضغط وتحريض لم يعرفها التاريخ من قبل . 
كان المحور الرئيس في «الحرب المقدسة» تشكيل خلطة جديدة من مشاعر الكراهية 
والخوف من شرور الإسلام والعرب» وإعادة تعميمها خارج العالم غير الأمريكي» 
وفي المقابل تكوين صورة جديدة ما بعد استشراقية عن «المسلم» الذي خرج من 
الصحراء «معلناً الجهاد؛ على حضارة الغرب . وكان من المنطقى أن هذا الإنشاء 
الجديد للشرق ما بعد الشرقي» سيترافق مع حملة عنف موجهة صوب الأقليات 
والجاليات المسلمة التي تعيش في الغرب» قبل أن تنطلق شظاياها لتصيب المسلمين 
فى كل مكان. وبذلك تشكل الغرب في وعي الجماعات الإسلامية الأصوليةء 
كمصمم ومشرع لسياسة «اضطهاد الإسلام» ولم يعد هو الغرب نفسه . 


إنه غرب آخر انخرط في الحرب العالمية على ما ي يسمى الحرب على الإرهاب في 
العالم كلهء أو بكلام ثانٍ. انخرط كلياً في السياسة التي يمارسها الأمريكيون في 
العراق» والإسرائيليون في فلسطين . وهذه موضوعات حارة تحتل في وجدان العربي 
المسلم أولوية حقيقية لا ينبغي الاستهانة بها . ما من عربي إلا ويدمى قلبه لمناظر القتل 


(۳۸) انظر: سعيدء الاستشراق: المعرفة» السلطةء الإنشاء. في الكتاب نقد جذري من طراز رفيع 
لأعمال لويس الذي سوف تبتز مكانته في المجتمع الأكاديمي الأمريكي بعد صدور «الاستشراق». برهن سعيد 
أن أعمال لويس عن الإسلام لا تتمتع بأي قيمة علمية. 

(۳۹) برنار لويس هو مستشرق بريطاني بودي له كتاب شهير بعنوان كيف حدث الخلل. أصدر تلميذه 
دانييل بايبس» مستلهماً أفكاره وعلى خطاه» كتاباً بعنوان أزمة الإسلام (عام .)۲٠٠۲‏ حقق الكتاب أعلى 
المبيعات في الولايات المتحدة الأمريكية بفضل استغلاله أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمير. 


110 


التي تجري لأخوته العرب والمسلمين في العراق وفلسطين وأفغانستان يومياً ومن دون 
أن يكون عضواً فى «شبكة القاعدة» . إن اعتبار بعض الليبراليين الإصلاحيين فى 
مصرء الحركة الأصولية الإسلامية» من دون تصنيف. أو تحديد» عدواً مخيفاً لا سبيل 
إلى التفاهم معه» وذلك من خلال استلهام أفكار ومصطلحات «المنظرين الجدد 
للإسلام» غير الإسلامي في الولايات المححدة» أي الإسلام الذي يصدر فقهه عن 
متدربين مسيحيين يخطون خطواتهم الأولى على طريق فهمه كديانة» أو معتقدات شبه 
آرية» بالمفهوم الذي نقده إدوارد سعيد؛ أدى في المقابل إلى اعتبار هذه الحركات 
موضوعاً من موضوعات الليبراليين الإصلاحيين ونضالهم وكتاباتهم . 


لقد وضعوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام خصم قوي قرروا مواجهته من دون 
تعقل . على الطرف الآخرء راح هؤلاءء الذين اختاروا عدوهم وصنعوه على غرار ما 
فعل المحافظون الجدد» يحرضون النظام العربي القمعي والاستبدادي (الذي يعيبون 
عليه عقليته الاستبدادية وروحه القمعية)على مواجهة الأصولية الإسلامية وقمعها 
وضربها. كانوا يدعون النظام العربي المتهم بالعجز والتردد» إلى التخلص من «ذعره 
الإسلامي» وتخطي هذا الحاجز والانخراط في المعركة العالمية ضد الإرهاب . لقد 
حددوا مصدر إعاقة الإصلاح في مجتمعهم: إنه النظام العربي الخائف من 
الإسلاميين. وكان هذا ذروة التماهي مع فكر ما بعد الاستشراق. يكتب مأمون 
فندي» احد أبرز الليبراليين المصريين بلهجة متعجرفة قل نظيرهاء أن «الإسلامويين 
أقلية» قائلة9' ؟ : 


«في أربع دول عربية زرتها مؤخراًء هي السعودية ومصر والكويت ولبنان» بات 
والتيمال أ لانو «أقلية: وهذا لا يعني إنهم ليسوا بأغلبية في أعمدة 
الصحف وعلى شاشة التلفزة . لكن أغلبيتهم الفضائية والإعلامية هي دليل وهن لا 
دليل قوة» هي زفرة الملحتضر الأخيرة في ظل مطاردة من الخارج ورفض من 
الداخل؟. 

لا نود ع لا وات ec‏ 
ا سوق عيك لسرن الاسلافيونة في صور: 


الإسلامويين؟» أي كشيء معيب ومرضي» كما يصورٌ الحوف من نفوذهم في 
المجتمعات العربية الأربعة مصر ولبتان والكويت والسعودية؛ وهواخوف جرى 


(40) مأمون فندي» «الإسلامويون أقلية» » الشرق الأوسط› و للك 


الكل 


استغلاله بأشكال مختلفة من جانب الحكومات الغربية للضغط على حكومات هذه 
البلدانء ومن دون مراعاة للحقائق؛ في هيئة «احتضار» و«زفرة أخيرة». أما تعبير 
«إسلاميون) فهو بلا مراء تعبير استعلائى تحقيري . هذا التلاعب اللغوي المهين 
باللغة» من خلال إعادة بناء كلمة «الإسلام»» واشتقاق تعبير تحقيري» منها 
«إسلاموي» قصد توجيه إهانة متعمدة للخصوم»› ليس مفاجئا؛ فالوظيفة الحقيقية لما 
بعد الاستشراق هي» في بعض جوانبهاء وظيفة اشتقاق أكبر قدر ممكن من 
الاصطلاحات المهينة والمحتقرة لموضوع الاستشراق نفسه؛ أي للإسلام الذي يُعاد ' 
اكتشافه على يد نخبة ليبرالية جديدة» لا تعرف أي شىء حقيقى عن الشريعة والفقه» 
ولاتملك أي معارف معتبرة عن التدين الشعبي . لفل بحست 
الكاتب» ليست سوى «أغلبية إعلامية» بمعنى «أغلبية في الهواء»؛ فإن الاستنتاج 
الذي يهب أن يخرج به المرءء في هذه الحالة» ” سيفيد أن كل الضجيج حول «خطر 
الإسلامويين» في الغرب لا معنى له. إنه ذعر من الوهم» ومن كابوس ليس هو في 
حقيقته سوى أضغاث ث أحلام عابرة؛ وأن الغرب» في هذه الحالة» أيضاًء هو مريض 
ب «الإسلام» إنه بكلام أدق «مريض الوهم؟ المولييري الذي اشتكى منه الغربيون 
أنفسهم . لكننا سنكتشف مقدار التزييف في هذا النص حين نتعقب أشكال وطرق 
إنشائه للحقائق : 


«في مصر يتحدثون ب «الاحتقار؛ نفسه عن أجندة الإسلامويين» يقارنونها 
بالدول التي قاموا عليها مثل إمارة طالبان ودولة الترابي في السودان. أما في السعودية 
ففيها حالة استنفار لعامة المسلمين ضد القلة من الظلاميين والإسلامويين الذين 
يحاولون زعزعة استقرار بلد أسس على أن الإسلام عقيدته. (. . ) أما في حالة لبنان 
فإن بقاء الإسلامويين أقلية فيه إنقاذ للبنان كله» . 


في عالم ما بعد الاستشراق» يجب دائما: أن يكون «الإسلاميون» أقلية» وأن 
يتحدث الناس عنهم أو ينظروا إليهم بنفس «الاحتقاره. هذا هو المنطوق النهائي لهذا 
النص التحليلي الذي يقدمه أحد ممثلي النخبة الليبرالية الجديدة. إن إنشاء هذا النوع 
من المترادفات في الثقافة العربية المعاصرة» وبشكل متتابع » ذهني وتلقائي وبحيث 
تؤدي كلمة أقلية معنى «جماعة محتقرة1» وكلمة إسلاموي معنى اشخص ممحتقرا» 
بينما وفى الاتجاه نفسه. يجب أن تفيد كلمة «محتقر» وبصورة عفوية معنى «أقلية1› 
«شخص إسلاموي»» أصوليء ظلامي؛ إنما هو إنشاء من نوع جديد وغير مألوف 
في أفكار الليبراليين العرب الواقع . لن يعود الواقع هو ما نراه؛ بل الواقع هو ما 
نرغب في رؤيته . . بالضد من نموذج الليبرالية المصريةء أبدى الليبراليون السوريوان 
تفهماً مقلوباً : بدلا من مواجهة الإسلاميين يجب التحالف معهم ضد النظام القائم . 


1¥ 


۲ - مسألة السلام مع إسرائيل 
يتجلى الوهم الأكبر في ثقافة وفكر بعض ممثلي النخبة الليبرالية المصرية» 
(والسورية إلى حد ما والعراقية واللبنانية والفلسطينية إلى حد بعيد) وفي هذا النطاق 
يبدو علي سالم أكثر تمثيلية وتعبيراً عنها؛ في الرهان غير المبرر أو المفهوم كلياًء على 
السلام مع إسرائيل كمصدر أساسي من مصادر الاستقرار والازدهار في المنطقة. 
كانوا في كتاباتهم ومناظراتهم يعيبون على النظام العربي «خوفه المزمن من السلام مع 
إسرائيل؟ ؛ تردده وعجزه عن القيام بخطوة جريئة» قفزة إلى الأمام تقود العالم إلى 
الأمان والازدهار الروحي. عامل الخوف هذاء حيث يربط السلام الشامل مع 
إسرائيل مع الإصلاح الداخلي ربطاً تعسفياًء سرعان ما تحول في تفكير النخبة إلى 
مصدر من مصادر العجز عن الإصلاح الرسمي عند الطبقات الحاكمة؛ فكان لا بده 
لتخطيه وتجاوزه بسرعة» أن يكثف الليبراليون من نقدهم في هذا الميدان» وأن 
يواصلوا الدعوة إلى مصالحة تاريخية . 
ولذلك أصبحواء وخلال الفترات التى شهدت جهوداً مكثفة لعقد اتفاقية كمب 
ديفيد أخرى مع ياسر عرفات» أثناء ولاية الرئيس الأمريكي كلينتون» في وضع 
يمكنهم من اعتبار «العامل الإسرائيل»؛ مصدراً جديداً من مصادر الفشل في تحقيق 
الإصلاحات المنشودة؛ وأن التعجيل بالقبول بالصيغ المطروحة للتسوية» هو السبيل 
للدفع بالإصلاح إلى أبعد مدى بمكن. ترتب على هذا الاعتبار» مع تزايد أشكال 
المعارضة حتى الرسمية منهاء وتصاعد التحذيرات من هنا وهناك بوجه عرفات» من 
عقد اتفاقية مذلة جديدة يضيع معها ما تبقى من حقوق العرب في القدس؛ أن كثرة 
من ملي الليبرالية الثانية أصبحوا فعلياًء في الخندق ذاته مع الطبقات الحاكمة التي 
يكن لها المواطن العادي الكثير من مشاعر الاحتقار والكراهية في الموضوع 
و ا HE‏ اکا 
موضوع الرهان على الخارج لفرض الإصلاحات» تجلت أكبر أوهام النخبة الليبرالية 
العربية . 
في الواقع ل تكن هناك قط› في أي وقت» ولا في أي من عهود الإدارات 
الأمريكية المتعاقبة منذ مبادرة روجرز التي قبلها عبد الناصر اولك أي تسوية 
مطروحة من جانب الأمريكيين أو الإسرائيليين. كان هناك «وهم تسوية» يلوح به 
الأمريكيون والإسرائيليون في وجه طبقات حاكبة مذعورة وخائفة على عروشها 
بأكثر مما هي خائفة من التاريخ أو الشعوب» وكانت الاستراتيجية الأمريكية في 
المنطقة تقوم على دفع العرب إلى العيش في ظل هذا الوهم» وانتظار حدوث معجزة 


A 


السلام مع إسرائيل. وبالفعل؛ فإن السلام مع إسرائيل يحتاج إلى معجزة. لم ينظر 
الليبراليون في موجتهم الثانية إلى أن مسألة السلام مع إسرائيل ليست مسألة موقف 
من العرب» بمقدار ما هو موقف إسرائيلي يستحيل عليها أن تتقدم نحوه» في أي 
وقت سابق ولا في أي وقت لاحق. لقد نشأت إسرائيل في الأصل كمجتمع 
استشراقي. وبوصف أدق» ولدت كأول نموذج استيطاني صافٍ وخالٍ من أي 
شوائب عرقية أو ثقافية . 


إنه نموذج «الوطن القومي» كما تخيله الاستشراق» تقوم فيه الكولونياليات 
البيض خارج العالم الغربي بعد ولادة أمريكا واستراليا؛ ولكن ليتم من خلاله» 
وبخلاف التجربتين الأمريكية والاسترالية» تجربة إمكانية تطبيق الأفكار الاستشراقية 
على بلد عربي بواسطة قوة التخيل. لم يعرف التاريخ من قبل تجربة استيطانية صافية 
من هذا النوع قط؛ ولم يحدث في التاريخ الكولونيالي» مطلقاًء أن تمكنت أي قوى 
هيمنة وبواسطة نظام صارم من التخيل» أن تفرض على شعب أخر» رواية عن تاريخه 
الوطني القديم تفرد فيها مساحة شاسعة من الغموض والتشوشء تطاول وبتركيز 
شديد مسألة جذور هذا الشعب» وبحيث يتمكن السارد الاستعماري الجديد للتاريخ 
من أن يزعم وجود «تاريخ» آخر ضائع لدولة أخرى كانت موجودة هنا فوق هذه 
الأرض» وأنه جاء لينقب عنها ويبرهن على وجودها؟ هذا هو الوضع الحقيقي 
لإسرائيل قبل ولادتهاء وحين كانت تتشكل فى الغربء منذ القرن الثامن عشرء 
الجمعيات والمنتديات الاستعمارية تحت غطاء «جمعيات آثار» حمل الكثير منها اسم 
فلسطين» مثل جمعية «آثار فلسطين» التي أسسها بعض أثرياء بريطانيا. 

لقد فرضت الكولونياليات البيض رواية عن شعب آخرهء مفادها أنه شعب 
غريب وطاريء جاء من جزيرة كريت اليونانية» وانه قام بطرد سكانها الأصليين 
اليهود. إن التاريخ لا يعرف» قطء مثل هذه الواقعة الاستشراقية التي لا يوجد لها 
أي سند لا في علم الآثار ولا في الروايات التاريخية . والمحزن في الأمر أن هذه 
الرواية لقيت هوى خاصاً عند علماء وكتاب التاريخ العرب» بحيث أنهم صاروا 
يرددونها من دون تعقل . 

كانت رواية الأصل الكريتى للفلسطينيين ذات جاذبية ضعيفة وباهتة» حتى 
بالنسبة لساردي التاريخ من التيار التوراتي؛ لأن هؤلاءء وبالرغم من حماستهم 
لإضفاء بعد غير شرعي» غير تاريخي على السكان الأصليين المعاصرين في فلسطين؛ 
فإنهم كانوا بحاجة أكيدة لكمية ضخمة من الأدلة لدعم روايتهم المستقاة من التوراة. 
ثم جرى سرد الرواية برطانة لا مثيل لها في علم الاثار» ومن جانب ساردين مخياليين 
مهووسين بالشرق . كل ذلك» قصد الاستيلاء على الأرض وطرد السكان الأصليين 


156 


المعاصرين ؛ لإحلال سكان «أصليين» مزعومين؟ تم تخيلهم» وقيل إنهم أحفاد سكان 
أصليين كانوا يعيشون فوق هذه الأرض. 


ذلك ١‏ تود إببرائيز وي للتططةة اكه قال الور E E‏ 
وحسب؛ بل ولدت من خيال استشراقي سقيم» ومن كذبة كبرى تسببت في جريمة 
00 أو نسيانها؛ لتعيش قدرها المحتوم كنموذج لمجتمع 
ستشراقي سينمو ويترعرع روحياً وثقافياً بقوة التخيل وحده. على هذا النحو تم 
0 خم قديم لإسرائيل قديمة في فلسطين . إن هذا وحده ما يفسر لنا لاذا 
صرخ المؤرخون احدد في إسرائيل؛ وهم مصدومون من كتاب إدوارد سعيد 
الاستشراق: يا إلهي . إننا حقاً نعيش في مجتمع استشراقي”'*؟. ولأن هذا المج 
تام ونا ركز حل ا تيل آنا ولي ا عو لي لصتل ر ا 
مكان آخر؛ فقد بنى كل اعتباراته في السلام مع العرب على أساس أنه لن يتزحزح 
عن الأرض التي استولى عليها جنرالاته وعصاباته في عام ۸٤1۹ء‏ وعلى أساس أن 
أي تسوية ممكنة لن تشمل الانسحاب من القدسء أو عودة اللاجئين. وهذه هي 
أوطأ السقوف المحتملة لأي تسوية محتملة . 


تاريخياً؛ نشأت إسرائيل بفضل قوة التخيل الاستشراقي (الاستعماري للشرق) . 
وبدرجة أكبر من ذلك» بفعل قوة تخيل فلسطين في الكتابات الاستشراقية كوطن 
تاريخي لليهود ضاع من أيديهم» وآن الأوان لاسترجاعه وتحويل قضية استرداده إلى 
قضية حركة تحرر وطني» لا قضية احتلال أرض شعب آخر. وفي هذا النطاق تجلى 
مفهوم التحرير الملتبس الذي سبق للبريطانيين أن روجوا له منذ خطاب الجنرال مود . 
عندما سقطت القدس فى يد البريطانيين (الجنرال اللنبى) بعد أشهر معدودات فقط 
على سقوط بغداد في يد الجنرال مود (1411) ل يكن ثمة ما يدعو إلى التساؤل عن 
دوافع وبواعث هذه المصادفة؛ إذ كانت النخية الفكرية الليبرالية والإصلاحية والنخب 
السياسية المتطلعة إلى التعاون مع البريطانيين لتحكم بلاداً غنية انتزعت من أيدي 


(41) بني موريس مؤرخ إسرائيلي يندمي إلى عائلة إنكليزية هاجرت إلى إسرائيلء مؤلف كتاب ولادة 
مشكلة اللاجئين الفلسطيئيين في عام ٠۹٤۸‏ . تراجع عن مواقفه النقدية من الرواية الإسرائيلية التي تزعم أن 
الفلسطينيين لم يطردوا من أراضيهم » إنما خرجوا منها طوعاً وهي رواية رسمية لا تزال مهيمنة في الفكر ما بعد 
الاستشراقي. انظر لقاء أجري معه في: : ملحق هآرتس (4 كانون الأول/ ديسمبر ٠٤‏ ۰) حيث قال بني 
موريس إنه كان دائماً صهيونياً وأن العداء الفلسطيني والإسلامي وعموماً العداء العري لليهود سيؤدي بإسرائيل 
إلى الدمار» وأن المجتمع الفلسطيني مجتمع مريض نفسياًء وأن بن غوريون ارتكب خطأ تاريخياً لأنه لم يطرد جميع 
العرب من فلسطين كلها. 

)٤۲(‏ سعيد» الاستشراق: المعرفة. السلطة› الإنشاء. 


۷۰ 


العثمانيين؛ مشغولة جميعاً بالثرثرة حول التحديث الذي وعد فيه البريطانيون. 
ولکن› ومع أولى الإشارات المتسربة من الغرف المغلقة في لندن» حيث كان يدور 
نقاش صاخب عن ردية بغدادء أتضح أن وعد بلفور قد أصبح جاهزاً . تطلب تخيل 
فلسطين على أنها إسرائيل القديمةء جهوداً مضنية من جيش عرمرم» قوامه بضعة 
آلاف من الباحثين والكتاب الاستشراقيين وعلماء الآثار التوراتيين والرحالةء الذين 
سهروا الليالي وهم ينقبون عن تاريخ إسرائيل الضائع 


كانت الماكيئة الاستشراقية تعمل بكل طاقتها للبرهنة على أن فلسطين الراهنة 
هي إسرائيل القديمةء وأن ثمة خطأ من نوع ما حدث في مجرى التاريخ نجم عنه 
تلف أو ضياع لفافات ووثائق» تثبت هذا التاريخ وتؤيد وجوده. وبلغ التخيل 
الاستشراقي ذروته مع ظهور عشرات المؤلفات التي تبرهن أن الأسماء الواردة في 
التوراة للمدن إنما هى ذاتها الأسماء الحالية للمدن الفلسطينية . هذه المطابقة الماكرة 

بين الأسماء الواردة في جغرافية النص التوراتي وجغرافية فلسطين» والتي نقدها 
0 كمال صليبيء ولكن من دون أن يتوصل بدقة إلى تصور يقطع بحقيقة 
أصلها الاستشراقي» تما" . 


وهكذا تحول اسم (ءفرة بالعبرية) إلى (الفرات) وتم الترويج لأسطورة أن داود 
عبر الفرات العراقي لقتال الإرميين (الآراميين) كما تحول تل حاصور الفلسطيني 
قرب القدس إلى جبل حصور. مع سقوط القدس» سجل الا ستشراق ألمع وأغى 
انتصاراته الخيالية في الشرق» وأضحى منذنذٍ قادراً عل فرض تصوراته النمطية في 
كل شيء» وعن كل شيء. ثم حصلت إسرائيل مع التقسيم على فرصة كبرى لتنمو 
OS‏ «ديمقراطية» خاصة به» من دون كل الأقليات 
E a E‏ 
0 مسيحيون » مسلمون). 


ولذلك بدت الديمقراطية الإسرائيلية» على الدوام» امتداداً لديمقراطية أخرى 
في بلد آخرء وفي الآن نفسه» امتداداً كولونيالياً لدولة أخرى. إنها نموذج فريد 
للدولة الاستشراقية التي بزغت للوجود بفضل قوة التخيل الاستعماري. ولأن هذا 


() انظر : كمال الصليبي ؛ التوراة جاءت من جزيرة العرب. ترجمة عفيف الرزاز (بيروت: مؤسسة 
الأبحاث العربية» 4 ,؛ وفاضل الربيعي» قصة حب في أورشليم: ترجمة جديدة عن النض العبري لنشيد 
الإنشاد (دمشق: دار الفرقد. .)٠٠٠٠١‏ والكتاب الثاني جزء من أطروحة كبيرة الحجم بعنوان «فلسطين 
المتخيّلة : أرض التوراة ذ في الشعر الجاهلٍ؟ وفيها مناقشة معمقة» استناداً إلى نصوص التوراة بلغتها العبرية 
لفكرة الأصل الكريتي المزعوم للفلسطينيين. 


1۷1 


المجتمع قام على الانغلاق داخل أساطيره وعقيدته الروحية ومعتقداته القديمة؛ خائفاً 
طوال الوقت من محيط عربي إجرامي سيرميه» في أي لحظة» في البحر» خالقاً 
أسطورته الخاصة عن «ذعره؛ الخاص من البحرء الذي ليس سؤى خطر الخارج» 
الذي بدوره لم يكن سوى عالم عربي ممزق ومفككك؛ فقد انكمش على ذاته وراح 
يسلح نفسه بكل فكرة مكنة عن مقاوم هذا «الخارج» المعادي. وبكل تأكيد فقد كان 
مثل هذا المجتمع محكوماً بشروط الانغلاق» بوصفها شروطه الحياتية الوحيدة التي قام 
عليها. وتماماء» كما حدث مع كل المجتمعات والكيانات والقوى والجماعات» وحتى 
الأحزاب المغلقة التي تعيش داخل «مجتمعات صغيرة عقائدية»؛ فإن أي انفتاح على 
الخارج وأفكاره ومتطلباته» إنما سيكون تفكيكاً وتدميراً لشروط الانغلاق» أي 
لشروط حياته التي تأسس عليها. 


ما يواجه إسرائيل اليوم ليس تحدي السلام الذي يعجز عنه الحكام العرب؛ بل 
ثمة تَحدٍ تاريخي وحقيقي أكثر من السلام المتخيل» يتمثل في وجود «ثلاث فزاعات 
كبرى»ء أيضاًء أحالت حياة الإسرائيليين جحيماً. لنلاحظ» وقبل كل شيءء أن 
إسرائيل الاستشراقية التي قامت على أساس تخيل نفسها في صورة فلسطين» استردت 
لأجل بناء صورة تنتسب إلى الماضي المقدس والأسطوري وتتواصل معه؛ أسطورة 
توراتية عن البحر الذي واجه بأخطاره ذات يوم شعب إسرائيل الصغير قبل أن يظهر 
موسى المخلص فيجتاز بهم هذا البحر إلى اليابسة . 


كانت أسطورة الخوف من رمي اليهود في البحر؛ وبالضد مما يزعم أنه تبديد 
ورد على لسان أحمد الشقيري» أول رئيس لنظمة التحرير الفلسطينية في الستينيات 
من القرن الماضي؛ وبجلاء» ومن دون تحفظء أسطورة من خلق خيال استشراقي 
قرأ قصص التوراة واستخلص منها صورة ملائمة شديدة الرمزية للخطر الذي يبدد 
إسرائيل الوليدة. إنه البحر ذاته الذي ابتلع المخلص يوم كان طفلاء وهو البحر 
ذاته الذي واجه الإسرائيليين كالقدر في رحلة الخروج من مصر المزعومة. ولأن 
إسرائيل قامت على عقيدة الذعر من «الخارج6. كما عاش العرب الذعر نفسه 
مقلوباً (بالنسبة إلى إسرائيل فإن الخارج هو العرب» بينما الخارج بالنسبة إلى العرب 
هو إسرائيل نفسها والولايات المتحدة والغرب الكولونيالي؟) فقد عاشت باستغراق 
تام وجداني وأخلاقي وثقافي بوصفها مجتمعاً حكوماً بالانغلاق» وأي محاولة منها 
للانفتاح على هذا الخارج سوف يؤدي بها إلى الفناء والدمار. ولذلك» فالسلام 
الذي يعده الليبراليون الجدد في العام العربي مشكلة النظام أي فزّاعته الكبرى» هو 
في حقيقته فزاعة إسرائيل . 


17 


أ- تعريف إسرائيل لنفسها 


إن التحدي الأكبر في حياة الإسرائيليين المعاصرين يكمن في فشلهم في تعريف 
دولتهم . هل هي دولة ديمقراطية أم دولة يبودية؟ إسرائيل الصغيرة المذعورة هذه» 
هي البلد الوحيد في العام الذي لا يملك دستوراً ولا تعريفاً لهويته . إذا كانت 
ا الا اي حقيقى لا متخيل؛ فعليها 

يم البرهات من خلال دور يعرف الدولة #ذولة ديمقراطية لا دولة عيوديةة . يعني 
ا 00 وفي حال تم الاتفاق على مضمون العبارة (أن إسرائيل دولة 
كل مواطنيها). وهذا أمر مستحيل نظرياً وفعلياً؛ إذ لا تستطيع إسرائيل أن تكون 
«دولة كل مواطنيها» . مثل هذا المبدأ الدستوري ينسف من الأساس كل الحجج 
والمزاعم التي قامت عليها بهودية إسرائيل» وهو مبدأ يتيح» نظرياً على الأقل» الحق 
لفلسطينيي عام ٤۸‏ وهم مواطنون | إسرائيليون؛ أن يختاروا عزمي بشارة» مثلاٌ 
رئيساً لوزراء إسرائيل بدلاً من أرييل شارون؟ في انتخابات حرة ونزيهة ومن دون 
تلاعب في الحق الانتخابي لنحو أربعة ملايين فلسطيني» وأن ينطبق عليهم قانون 
«حق العودة» الإسرائيلي » الذي يسمح لليهود فقط بالعودة إلى إسرائيل“ ٠‏ وبحيث 
يشمل الفلسطينيين» تلقائياً» ليتمكنوا من العودة إلى قراهم ومدنهم في مناطق ٤۸‏ . 


ولكن؛ إذا ما ثبّت الإسرائيليون في دستورهم» على العكس من ذلك» فكرة 
مضادة تقول «إن إسرائيل دولة مبودية» وليست «ديمقراطية» وقاموا بتعريفها على هذا 
الأساس الثيوقراطى ‏ الدينى ؛ ففى هذه الحالة ستكون إسرائيل قد هشمّت» بيدها لا 
بيد عمروء أكبر ركن من أركانها كدولة وكيان؛ إذ يتعين عليها بموجب هذا البندء 
فوراً وطوعاًء التخلي عن الشطر الأكبر من فلسطين التاريخية» حيث تعيش أغلبية 
فلسطينية مسلمة تحمل الجنسية الإسرائيلية» وبالتالي أن تطلق حرية نحو ثلاثة إلى أربعة 
ملايين مواطن يشكلون الجزء الأكبر من السكان؛ والذين لا ينطبق عليهم التعريف 
القانوني الجديد للدولة بوصفها دولة ببودية . هذه هي الفزاعة الأولى الكبرى التي 
ستمنع أي إمكانية للتقدم بمشروع سلام مع العرب من جانب إسرائيل . إن إسرائيل 
هذه هي التي تعيش في ظلال فرّاعة الخوف من السلام ومن الديمقراطية . 


ب علمانيون ومتدينون 

الإشكالية الكبرى الثانية في النموذج الاستيطاني الإسرائيلي (الاستشراقي) 
والتي تعوق وتمنع أي إمكانية لتحقيق السلام» أو الانفتاح على «الخارج"؛ انه مجتمع 

( ) انظر حول هذه النقطة النقاشات التي دارت بين المؤرخين الحدد في إسرائيل. 


1Y۳ 


قلب المجتمع لا تعيش إسرائيل اليهودية القديمة التي تم نفض غبار التاريخ عنهاء 
بفضل الاستشراق (الرحالة والعسكريين الاستعماريين وعلماء الآثار وبارونات الال 
في أمريكا وأوروبا) وإنما هناك إسرائيل أخرى أوروبية ‏ أمريكية هي امتداد 
كولونيالي للغرب الذي هاجرت منه. إنهما إسرائيلان : إسرائيل العلمانية وإسرائيل 
المتدينين المتشددين «الأصوليين اليهودة. ولذلك لن يجري الصراع المكشوف بين 
العلمانيين والأصوليين على بكر ذاته الذي يجري في العالم العربي» بين الحداثيين 
والأصوليين؛ بل على قاعدة مد مختلفة» قاماً. 


إنه صراع ضار لا هوادة فيه بين نزعتين مجتمعيتين . ومن غير شك؛ فإن انحدار 
المجتمع الإسرائيلي وانزلاقه نحو اليمين المتطرف» وإلى الدرجة التي يصبح فيها مجرم 
مثل شارون رجلا معتدلاً قياساً بمجرم مثل ليبرمان؛ يعكس بدقة متناهية طبيعة 
الصراع الضاري بين الفريقين في مجتمع غدا مجتمع يمينيين. هذه هي الفزاعة الكبرى 
الثانية التي تعيش إسرائيل المعاصرة في ظلالها. وبخلاف مزاعم ما بعد الاستشراق؛ 
فليس العرب هم الأمة التي تنتج العنف والتطرف في المنطقة والعالم (بسبب تعاليم 
الإسلام). ثمة «أمة٠‏ أخرى من تلفيق الاستشراق الكلاسيكي» ومن ثماره الحربية» 
تقوم بتهشيم كل إمكانية لانتصار العدالة. 


ج - أشكيناز وسفارديم 


أما الفزّاعة الثالئة الكبرى» فهي فزاعة الصراع بين اليهود الغربيين 
والشرقيينء وهو صراع حقيقي يجري بين كتلتين في المجتمع الإسرائيلٍ المعاصر؛ 
تتجاذبان السياسة الداخلية والخارجية ولا تستخدمان» في صراعهماء الذخيرة 
نفسها التى يستخدمها «الديمقراطيون» ضد «اليهود؛ ولا «العلمانيون1 ضد 
«المحدينين»؛ بل تنطلقان من ثنائية موازيةء «اليهودي الشرقي» ضد «اليهودي 
الغربي». أي بين نوعين بهوديين يمتلكان كل أسباب التنافر. ولان إسرائيل امتداد 
ثقافي و«روحي» للغرب؛ وكانت إلى النهاية نتاج الاستشراق ومن ثماره» ولأنها 
محكومة بشروط الانغلاق التى نشأت عليها؛ فإن مسألة انفتاحها على الآاخرء 
ستكون ضرباً من الخداع . كل انفتاح على «الخارج ‏ أي على الجيران العرب» يمكن 
أن تبادر إسرائيل إليه» يعني موت ودمار المجتمع المغلق وتفكك شروطه التاريخية 
التي قام على أساسها. 

إن واحدة من أوهام النخبة العربية تتجلى في هذا النطاق. من هذا المنظور 
سوف تبدو الليبرالية الثانية في العام العربي» وبسبب أوهامها عن نفسها ومجتمعهاء 


7و1 


محكومة هي الأخرى بالفشل» فلقد تراءت الولايات المتحدة الأمريكية في أنظار 
النخب الحداثية العربية» بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي (السابق) 
كقوة ديمقراطية داخلية هائلة مشذبة من التاريخ الاستعماري . كما تراءت الولايات 
المتحدة (مثلما تراءت بريطانيا من قبل في عيني الزهاوي) قوة متحررة من عُقد 
أوروبا «الصليبية» وآثامها وجرائمها في الشرق المسلم» وقابلة فوق ذلك تلقائياًء لأن 
تفيض خارج حدودها وحدود العام غير الأمريكي» بفضل جاذبية نموذجها 
الليبرالي. على الضد من ذلك كانت هناك دلائل متزايدة على أن هذه القوة 
الديمقراطية الداخلية» كانت تتجه بقوة نحو نمط من توتاليتارية القوة العظمى» 
ويتحول نظامها الليبرالي الجذاب إلى نظام شمولي في الداخل» كولونيالي في الخارج؛ 
بينما يغدو امتداده في الشرق العربي» نعني نموذجه الاستيطاني الاستشراقي (أي 
إسرائيل) أكثر فأكثر» متوحشاً وعدوانياً ومحكوماً بشروط الانغلاق. 


إذا كانت الليبرالية الشانية (في طبعتها العراقية) تتسم بدرجة عالية من 
التطرف» بسبب طبيعة مطالبها وتصوراتها وحلولها المقترحة للمشكلات المستعصية ؛ 
وحتى بتمسك بعض ممثليها بفكرة الخلاص (بواسطة الخارج) فإن إلحاحها غير 
العقلاني على القبول بشروط الإصلاحء المفروضة من الخارج أصلاء هو الذي سوف 
يعطي المبررات لوصمها بالتطرف . ومع ذلك؛ فإن هذه النزعات المتطرفة عند بعض 
علي النخبة بأفكار ومطالب الإصلاح» ستظل أقل شبهاً وتماثلاً مع الليبرالية الأول 
من حيث درجة المبالغة والحماسة غير المتيصرة» التي طبعت سلوك وأفكار الليبراليين 
الأوائل مطلع القرن الماضي (الولاء العلني والوقح للغرب بدعاوى الانتصار الحتمي 
لروح العصر في العالم). إنهاء بدرجة أقل من ذلك بكثير» تتم يما هو أشد تعبيراً 
عن تمايزها الحقيقي عن الليبرالية الأولى: إن نزعاتها «المتطرفة» هذه لم تولد من 
الحماسة العفوية لأفكار الغرب ولا من إيمان حقيقي» حتى وإن كان أعمى» بأن 
قيم الحرية قادرة على التغلب في النهاية على الاستبداد؛ بل ولدت من رحم تطرف 
من نوع آخر في الغرب نفسه . ذلك هو ما يميز الليبرالية الثانية بالفعل» 00 
في لحظة افتراق عن الليبرالية الأولى: إنها تنطلق من بيئة فكرية متطرفة ترى إلى 
فرض قيم الغخرب» ونمط حياته وثقافته» على العالم العربي» واجباً أخلاقياً على 
الغرب . 


إن أبرز تناقض يطبع بطابعه الموجة الليبرالية الجديدة في العالم العربي» يكمن 
في أنها انتقلت من مرحلة الترويج السلمي لباديء الحرية والعدالة والدفاع عن 
حقوق الإنسانء وهذه أفكار لا جدال فيهاء إلى الدعوة للقبول بالحرب كوسيلة 
لنشر الديمقراطية. إن المصدر الحقيقي للمزاعم الرائجة عن «تطرف» نزعات 


1١و‎ 


الليبرالية الثانية ولاعقلانيتها يكمن هنا: أنها بررت للغرب فكرته اللاأخلاقية عن 
الغزو العسكري كوسيلة لنشر الديمقراطية. هذا النمط من التطرف غير المألوف» 
يتجلى كنوع من العصاب الثقافي ينبني على خليط من الأوهام عن الآخر. كان 
الآخر في الاستشراق الكلاسيكي» هو آخر متوحش وبدائي واستبدادي وخالٍ من 
المدنية . 


لذا كانت الحرب وسيلة وأداة الكولونيالية من أجل أن تنفخ #روح العصر» فيهء 
ومن أجل حسم مسألة انتقاله» نبائياً» إلى المدنية الحديثة؛ فيما الآخر اليوم هو آخر 
شرير ومخيف ومسلح بالأصولية الإسلامية. إنه آخر موجود في صورة خطر إسلامي 
عنيف وأخطبوطي وغير مرئي يبدد مدنية العام الخربي» أو في هيئة أسلحة تدمير 
شامل يمكن أن تقع» بواسطة تحالف وتعاون» أو عن طريق المصادفةء في أيدي 
جماعات مارقة تكره الغرب . 


ولذلك؛ ومع تصاعد هستيريا الحرب ضد الأصولية الإسلامية» وتطورها 
لاحقاً إلى حرب كونية ضد الإرهاب» بدت الليبرالية الثانية (في العراق بشكل 
خاص) وكأنها تولد كحركة متطرفة وغير عقلانية تقوم بنفسهاء وبواسطة ترويجها غير 
المتحسب للأوهام عن الآخرء بانتهاك القواعد والمباديء التي تنطلق منها وتؤمن بها 
أصلا . إنها تقوم بالدعاية لأفكار وقيم الديمقراطية الليبرالية وفي الآن ذاته تقوم 
بانتهاكهاء من خلال الترويج الدعائي والحماسة الزائفة للسياسات المتبعة في الغرب 
بعامة» وفي الولايات المتحدة بخاصةء وإزاء قضايا العالم العربي والعالم الثالث . 
لعبت الليبرالية العراقية الحديدة» منذ البدايةء دوراً مزدوجاً في الواقع» فقد نصّبت 
من نفسها مدافعاً شرساً عن القيم والمثل الديمقراطيةء ولكنها قامت في الوقت نفسه 
عملياً بمساعدة الآخر أو تسهيل مهمته في انتهاك حقوق أفراد ودول وماعات» 
بحجة تشكيلهم خطراً مزعوماً على العام . 


إن التركيبة الغريبة لليبرالية العراقية» تطرح أمام الباحث أسئلة محيرة» فهي 
مؤلفة› بوجه العموم. من جماعات دينية كبرى» مثل حزب الدعوة الإسلامية» 
والمجلس الإسلامي الأعلى» وهما جماعتان شيعيتان أبعد ما تكونان عن قيم ومثل 
الليبرالية» أو الديمقراطية» ومن جماعات قومية وماركسية» ومن شخصيات ليبرالية» 
ومن عسكريين سابقين لم يسبق لهم الدخول في عالم السياسة . لقد كان قسم كبيير من 
هؤلاء من أشرس الدعاة لمحارية #الإرهاب الإسلامي؟؛ ولكن من منطلقات مذهبية 
سقيمةء لا من منطلقات ديمقراطية ؛ فالمتطرفون الإسلاميون الإرهابيون بالنسبة 
إليهم. من «الجماعات السنية6 الوهابية . 


۱۷٦ 


لقد امتزجت الدوافع السياسية المصلحية والانتهازية المرائية» بالبعد المذهبي 
الطائفي «الأيقوني4» وبات من المستحيل تصديق الدوافع التي تحرك القسم الأكبر من 
هؤلاء, ما داموا يخلطون. في خطابهم السياسي ٠‏ بين الليبرالية والطائفية . 


سوف تتفكك» ربما بأسرع ما نظن» الأسس والشروط الفكرية والسياسية 
والظروف كذلك؛ التي جعت هذا الخليط غير المتجانس من الليبراليين الجدد في 
العراق. لقد رهنوا مشروعهم السياسي برمته» لا بالتحالف مع المتطرفين في 
الولايات المتحدة الأمريكية وحسب» وإنما كذلك» بسلوكهم المرائي حتى إزاء قضية 
أخلاقية مثل فضيحة سجن «أبو غريب“ وتحولهم فعلياً إلى (فرع حلي) في 
منظومة الحرب العالمية على ما يدعى الإرهاب . ولئن أخفقت النخب الحداثية 
والليبرالية العربية» لا العراقية وحدهاء في رؤية المشهد العالمي بالقدر المطلوب من 
الحصافة والوضوح؛ فإنها أخفقت بشكل مأساوي في إنشاء تصورات فكرية متماسكة 
عن مطالبها ورؤاها المستقبلية لمجتمعاتها. وفي حين كانت أوروبا القديمة 
الاستعمارية تتحول» بالفعل إلى قوة ديمقراطية» في ظل علاقات القوة القائمة بين 
شرق اشتراكي وغرب رأسمالي» وتغدو بالفعل محط أنظار المتعطشين إلى الحرية ؛ 
كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتحولء بالمقلوب» مع اخبيار الاتحاد السوفيتي 
السابقء من قوة ديمقراطية هائلة إلى قوة استعمارية هائلة . 

مع هذا الانقلاب في علاقات القوة» راحت أنظار الليبراليين العرب تتجه نحو 
الولايات المنحدة؛ بدلاً من رؤية مغزى التحول في العالم المعاصر. لم تكن أمريكا 
التي فتنت الليبراليين العراقيين والعرب وسحرتهم» هي أمريكا ودرو ويلسون 
(ومبادئ حق تقرير المصير )١1914‏ وما كانت قط هي أمريكا لنكولن (التحرير 
والاستقلال) بل غدت منذ الآن» ومع صعود أدوار المحافظين الجدد المتطرفين دعاة 
الحرب المقدسةء وسيطرتمهم شبه المطلقة على مراكز النفوذ والدعاية» أمريكا 
النيوكولونيالية . 

إن مأزق الليبرالية الثانية (ونموذجها العراقي وهو الأفضل في العالم العربي من 
حيث درجة تثيله وتعبيره عن التناقض المزدوج بين الولاء المطلق لثقافة الغرب 
والسجال في الان ذاته مع سياساته) سوف يتجلى في افتضاح درجة النفاق والرياء في 
أفكار ومعتقدات الجيل الجديد من الليبراليين» فطوال سنوات من الترويج لمبادئ 


)٤٥(‏ هناك كم كبير من المقالات التي برر فيها بعض الليبراليين فضيحة السجن. معظم الليبرالين» 
العراقيين استخفوا بما كان ينشر عن الفضيحة في وسائل الإعلام» وكانوا يقارنون بين ما يسمونه «جرائم» 
النظام السابق وبين جرائم الاحتلال الأمريكي قصد تبيان انعدام أي أمية لهذه الانتهاكات. 


YY 


النيمقراطية اللبيرالية وأفضالهاء > ظل الليبراليون العراقيون يصعدون من دعاويهم 
للقبول بفكرة شن الحرب كسبيل وحيد لنشر الديمقراطية؛ بينما كان أبرز قادتهم أحمد 
الجلبي يحضر في طهران لإطلاق تنظيم سياسي جدید» سيعرف» تالياً» ومع احتلال 
بغداد» باسم «البيت الشيعي؟ وهو تكتل سياسي طائفي» أبعد ما يكون عن قيم 

اللييرالية . ليس من دون معنى» ذا أن الجلبي وبعد عام iE‏ 
العراق» أصبح شخصية رئيسة في التجمع السياسي الجديد» ويخوض باسمه 
انتخايات ١7١‏ كانون الثاني/ يناير 6 عن القائمة الشيعية المسماة «الائتلاف الموحد» 
بينما يسافر ليبرالي آخر هو مثال الآلوسي إلى تل أبيب للتنسيق بشأن «علاقات 
المستقبل». هذا التحول من الليبرالية إلى الطائفية» ومن تبني مطالب المجتمع 
بالديمقراطية إلى تحدي مشاعره؛ هو ما يميز ليبرالية ما بعد الاستشراق. وذلك ما 


سنراه في الفصل التالي . 


¥۸ 


(لفصل الخاس 
من الهند القديمة إلى أفغانستان الجديدة: 
عودة الكولونياليات البيضاء 


القد اتجهت نح و العا العرب -الإسلامي منذ شباب في ا جزائر» كملازم ثان»ء حيث 
دعيت إلى ا خدمة في إدارة الشؤون الإسلامية . ومن أن وطئت قدماي الشاطئ الآخر 
للبح رالتوسطء تعرفت إلى وجود «أمة» جزائرية من نظرات ا جزائريين . إن دمي جا جزائر 
بفرنسا كان سيضعف تمنياق» فيما إذا كانت هذه هي رغبة ا جزائريين» . 


ا 
جان بيير شوفینمان 


«منذ سنوات كثيرة وأنا أآخل موقفا ير ىأن خط رالإسلا م التطرف يدعونا بشكل ملزم 
وإجباري إلى التركيز على إجراءاننا الأمنية إزاء السلمين؛ فإذا كان ا لرء يبحث عن الذين 
ينفذون أعمال الاغتصاب ا جنسي بين الذكور؛ فإنه بالقد ر نفسه عليه أن يبحث عن 
الإسلاميين» . 


دانییل al‏ 
رئيس معهد الولايات المتحدة للسلام 
(ستار تیلغرام/ تشرين الأول/ أكتوبر )۲٠٠۴‏ 


أكثر ما يميز ما بعد الاستشراق عن الاستشراق القديم» ويجعل منه علماً قائماً 
بذاته له وظائفه ومهامه ومعاهده و«جامعاته» و«مراكزه البحثية» ودارسوه وطلابه؛ 
ويمكن لنظریه وكتابه ودبلوماسييه ورځالته» أن يجدوا أسباباً قوية» في كل آن» لرؤيته 
كتخط بوسائل أكثر ديناميكية لعالم الاستشراق الكلاسيكي ؛ هو أنه لم يعد يستعين 
بدارسين غربيين وحسب» وإنما كذلك بجيش من الدارسين و«المحللين؟ العرب 
والمسلمين» تكاد تقتصر مهمتهم الكبرى على دعم التصورات الُنتجة عن الإسلام 
والعرب. لقد امتلك ما بعد الاستشراق مالم يمتلكه الاستشراق الكلاسيكي ٠‏ 
الأدوات الشرقية المناسبة لتحليل الشرق ودراسته» والوسائل والظروف التي تمكن 


)١(‏ جان ببير شوفيئمان» حرب الخليج دفعتني للاستقالة » ترحمة أحمد عبد الكريم (دمشق: دار الأهالي» 
5 1). 1 


(۲) دانييل بايبس هو مرشح الرئيس بوش لرئاسة مجلس السلام الأمريكي» وانظر تالياً نا سنكتيه عنه. 


1۸1 


الرّحالة والمستكشفين الجدد من إتمام مهمتهم في تقصي حالة الإسلام المعاصر . هکذا؛ 
وبدلا من الاستعانة بنخب غربية أوروبية وأمريكية» وأطقم من الباحثين والأكاديميين 
المتخصصين والدارسين» كما كان الحال في الرحلات الأولى للاسة ستشراق الكلاسيكي» 

من أجل القيام بمهام ووظائف دراسة عالم العرب والإسلام؛ تمت عملياً الاستعانة 
بأطقم مدربة جيداً من المثقفين والباحثين العرب والمسلمين» وحتى من الفقهاء ورجال 
الدين . ال لالط د ميم ماد عو مد 
وتحقق نوع من التعرف» يتسم إجالاًء بدقة أكبر وبموضوعية أكثر ما فعل الاستشر 
القديم ؛ ؛ وخصوصاً على جبهتي الثقافة والسياسة في الشرق المسلم . 


عملياً تمكن الغرب» بفضل ما بعد الاستشراق» من القيام بنشاط أوسع لإعادة 
دراسة أحوال العرب وتعريف «الشرقيين القدماء» وتشريح نمط عاداتهم الجديدة التي 
اكتسبوها خلال القرنين الماضيين» وحتى تقصي مخاوفهم وغرائزهم ودوافعهم 
ومتطلباتهم ؛ وبالإجمال التعرف على كل ما له صلة بالشرق؛ الذي يتحرق الغرب 
شوق للغودة إليه . كانت استعانة الغرب بنخب «شرقية» وأطقم محلية تنهض بعبء ما 
بعد الاستشراق» AEE‏ تراب قرم . هذا هو الفارق 
الجوهري الحقيقي بين عالمي الاسة ستشراق وما بعد الاستشراق . ثمة فارق جوهري آخر 
لا يقل أهمية؛ فما بعد الاستشراق هو تّاماً ما بعد «الاستعمار القديم». 

إنه تخطٍ بوسائل أخرى لهام ووسائل ووظائف الاستعمار القديم الذي لم يعد 
موجوداً. ولذلك سوف تتلازم عودة الاستعمار إلى الشرق» مع بزوغ عصر 
سراي جد يد هوا في خائة الاك :ما يعد LO‏ بابي وذكري نامل 
يلائم عصر الاستعمار الجديد ود لتحدياته . بهذا المعنى يصبح ما بعد 
الاسد ستشراق وظيفة محلية خالصة؛ عملا داخلياً لا عملاً خارجياً» وإل الحد الذي تغدو 
فيه» أفكاره وصوره النمطية ورؤاه» استنباطاً دراسياً يتمثل القيم والمواد والموضوعات 
المحلية» فنأ مبتكراً يمكن متلقيه من قراءة المواد المحلية من «تحت» لا من «فوق». 


إن #فوقية» الاستشراق القديم» أي استعلائيته وغطرسته التي كانت موضع نقدء 
أصبحت بفضل هذا التحول في الوظائف والمهام» نوعاً من «تحتية» نشطة شبيهة بعلم 
الآثار» حيث يدرس عالم الآثار المتخصص كل كسرة صغيرة وكبيرة وهو يقلب عام 
الشرق المسلم» بحثاً عن كنوزه المدفونة في باطن الأرض طبقة إثر طبقة» وليزيل عنه 
في النهاية وبعناية تامة أكواماً من التراب الفائض عن الحاجة ا 
لاتبدو» مع ذلك» إلا كإعادة إنتاج للفوقية القديمة الاستعلائية المتعجرفة نفسها نفسها 
أي للمركزية الأوروبية بتعبير سمير أمين» وذلك حين يصبح عمل ما بعد الاستشر 
ليس تماماً «البحث YS‏ 9 





18 


يقومون بأعمال «الاغتصاب الجنسي» السياسي من خلال إعلانهم عن الصدام مع 
السياسة الخارجية الأمريكية . وهذا هو المغزى الحقيقي الذي تتأسس عليه محاولات بناء 
نخب ومجموعة سياسية وتسليمها مفاتيح المشروع الإمبريالي الجديد في الشرق» ولكن 
لتعمل من داخل بلدان حركة التحرر الوطني القديمة؛ على تمرير الخوف لا الحرية 
ونشر الترهات لا المعرفة . ١‏ 

إن نخب ما بعد الاستشراق (النخب العربية ‏ الإسلامية ونموذجها فؤاد 
عجمي) ذات منابع ومشارب علمانية يسارية وليبرالية وحتى إسلامية معتدلة بالمفهوم 
الأمريكي للاعتدال. لقد تسلمت مفاتيح العمل في الحقل القديم نفسه» الذي أصبح 
مثيراً لحفيظة العرب والمسلمين بصورة يصعب وصفها. يعني ما بعد الاستشراق من 
هذا المنظورء أن النخب الحداثية المحلية «الوطنية» التي التحق بها يساريون تقليديون 
اكتشفوا أيضاً» وإنْ بشكل متأخر وبشيء من الندم على الماضي النضاليء جاذبية 
أفكار الليبرالية الغربية وحيويتها الفائقة وضرورتها (وبعض مثلي هذه النخب مدرب 
جيداً في الغرب) ستؤدي› منذ الآن وحتى إشعار آخر» دورها كاملاً كمشارك نشط 
في إنشاء الشرق الجديد الذي مفو إليه قلوب المستشرقين الجددء على ما ارتأى إدوارد 
سعيد في دراسته الرائدة ة لدور ووظيفة الاستشراق القديم. 


وهكذا؛ وبدلاً من النخب الغربية التي كانت تضطرء في الماضي وفي غالب 
الأحيان» إلى إنشاء شرق خيالي» لأنها ربما لم تتجول فيه أصلاء كما فعل فولتير 
ولامارتين إلى حدٍ ما؛ اللذان قاما بتلفيق شرق خيالي تم استنباطه من الصور الشائعة 
والمألوفة عن العربي المسلمء أو من خلال إعادة تركيب الشرق ذهنياً؛ ستكون هناك 
نخب عربية قادرة» بفضل التدريب والمهارات المكتسبة» على النهوض بعبء العمل 
جزئياًء ولتباشر عملية تقص منهج لعالم العرب من الداخل ولحساب ما بعد 
الا ران ولك مق أجل أداترسم عورا ا لا فل بجاعة عن ,الصور الي 
رسمها الاستشراق الكلاسيكي . وكما لاحظ ادوارد سعيد بذكاء في مقالته عن 
المفهوم الجديد للا ستشراق في أوساط النخب السياسية والعسكرية الأمر بک قان 
توماس فريدمان وفؤاد عجمى” ““. وهما خبيران بشؤون العالمين العربي والإسلامي 
كما يقدمان نفسيهماء عرضا على الصقور في الإدارة الأمريكية باستمرار «اختلاقات 
فكرية شتيعة» و«تلفيقات نظرية» لا حدود لها عن العرب والمسلمين» وكانا يركزان 


٠٠١/87/5٠ الحياق.‎ )۳( 


(4) فؤاد عجمي هو أستاذ جامعي لبناني الأصل يعمل مديراً مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة جون 
هوبكنز. اشتهر عجمى بعد نشره مقالته المريعة «نهاية العروية» في مجلة الفورن افیرر (کہ ن۸ «واء707). انظر : 
Fouad Ajami, «The End of Pan-arabism,» Foreign Affairs (Winter 1978-1979).‏ 


187 


على ما يسميانه عقلية العرب وعلى «تراجع وأفول الحضارة العربية ‏ الإسلامية» 
المتواصل منذ ما يزيد عن ألف عام» وعلى أن لا حل لهذين العالمين إلا باستخدام 
أمريكا قوتها العسكرية من أجل فرض قيم الديمقراطية . 

من بين أفظع أفكار عجمي التلفيقية الأخرى وأكثرها خطورة» اعتباره غزو 
العراق مقدمة لتطوير المنطقة العربية» وأن العروبة فى العراق كانت نوعاً من التلوث 
في الحياة السياسية» وهي أداة استبداد. ارتأى سعيد في مقالته عن المحافظين الجدد 
ودور ما يسميه «الاستشراق الجديد» أن توماس ديلاوي؛ مثله مثل فؤاد عجمى 
وفريدمان» يقدم صورة عن العرب المعاصرين هي الأقرب إلى صورة جماعة بشرية 
مفككة من «المشردين؟ و«القبائل» التى تتظاهر أن لها ثقافة خاصة . وإلى جانب هؤلاء 
هناك محطة فوكس نيوز ومحطة (10©) وسلسلة متشابكة من الإذاعات التبشيرية 
للمسيحية الصهيونية» التي تركز على ضخ صور جديدة للعرب» تقوم من بين ما 
تقومء على فكرة أن هؤلاء متعصيون» شاذون» يؤمنون بأنهم السكان الأصليون 
لفلسطين» وأن لا وجود لليهود فيها. 

بيد أن ما بعد الاستشراق كان يعتمد مع ذلك» على خبرات وأفكار دارسين 
آخرين أكثر تشدداً حيال العرب» مثل أرون ويلدافسكىء برنارد لويس ومارفن 
اولاسكي «حرب ياردة للقرن الحادي والعشرين» (Cold War for the 218 Century)‏ 
وإرنست غلنر («الأصولية الجزائرية» (1977)) وكليفورد غيرتز الذي ظل ينافح من 
دون كلل بفكرته القائلة أنه لا يوجد مجتمع إسلامي عالمي؛ بل هناك مجتمعات 
إسلامية لا تجمعها سوى رموز ومقدسات. وإلى جانب هؤلاء هناك مايكل ليدين 
صاحب كتاب الفاشية العالمية والموظف في (American Enterprise Institute)‏ الذي / 
يتردد في اكتشاف مزايا الفاشية» ودعاء في دراسات موسعة. إلى تأسيس حركة 
فاشية جديدة على مستوى كوني» من أجل تحرير العام من الأفكار القديمة . فضلاً عن 
هؤلاء» هناك أيضاً جيل کیبل" ونوح فيلدمان والذي سوف یکتب» بناء على طلب 
بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي» مسوّدة الدستور الدائم للعراق الجديد" . في 


Bernard Lewis, «The Roots of Muslim Rage» Aflantic Monthly (September 1990). (6) 
Gilles Kepel: Les Bantieues de Islam: Naissance d'une religion en France, 'epreuve des faits (1) 
(Paris: Editions du Seuil, 1987), et The Prophet and Pharaoh: Muslim Extremism in Egypt, translated by 
Jon Rothschild (London: AI Saqi Books, 1985). 

(۷) نوح فیلدمان («۳۵ ۴۲۱۵ )۸٥۵1‏ هو أستاذ جامعي أمريكي يبودي في جامعة نيويورك» سخر منه 
إدوارد سعيد مراراً واتهمه بالجهل التام في ما يتعلق بكتابة الدساتير وذلك في أعقاب تكليفه من جانب بول 
بريمر كتابة مسودة الدستور العراقي. من مؤلفاته : Noah Feldman, After Jihad: America and the Struggle jor‏ 
Islamic Democracy (New York: Farrar, Straus and Giroux, 2003).‏ 


۱A٤ 


هذه السلسلة الطويلة من الكتب والمؤلفات والدراسات التاريخية والسياسية 
والسوسيولوجية والمواد الإعلامية في المحطات التلفزيونية الأمريكيةء والتي عكف 
عليها دارسون وباحثون في معاهد وجامعات کبری» جرى وضع المخططات النظرية 
الأولى لإسلام خيالي مشحون بالكراهية والعنف والتطرف إزاء الغرب؛ وجرى على 
امتداد العقدين الماضيين تطوير رؤى سياسية وانئروبولوجية للمجتمع العري - 
الإسلامي» مختلفة تامأ عن رؤى عصر الا ستشراق الكلاسيكى . من بين أكثر 
خصائص هذا النوع من المهام التي ينفذها ما بعد الاستشراق؛ أهمية وجدية وربما 
أكثرها مخاطرة» أن النخب المحلية» العربية - الإسلامية هي التي ستقوم بنفسهاء 
وتحت التأثير المباشر وغير المحدود لهذا النوع من الأفكار والتصورات الشاذة 
والغرائبية ؛ بوضع اللمسات الضرورية نيابة عن الاستشراقيين الجدد ولصالحهم» من 
خلال المساهمة في بناء صور عن مجتمعاتها هي» موجهة بالكامل لقارئ غربي متلهف 
لرؤية مثقفين عرب حانقين على مجتمعاتهم و«إسلامهم»» ويتطلعون فوق ذلك إلى 
تغييره تغبيراً جذرياً. على أن الوظيفة الحقيقية لمؤلفات وكتابات النخب العربية العاملة 
في حقل الاستشراق الجديدء هي أن يُعاد من خلالهاء عرض الجتمع:العري 
كموضوع دراسي وتشريحي ء قابل للمعاينة من جانب اختصاصيين آخرين» بوصفه 
مجتمعاً شاذاً وغرائبياً . 


إذا كانت وظيفة الاستشراق القديم دراسة الشرق و«التعرف على الإسلام؛ كما 
هو على الطبيعة؛ فإن وظيفة ما بعد الاستشراق هي» وباستخدام تعبير دانييل 
بايبس”* «البحث عن الإسلاميين؛ لا عن الإسلام؛ والتفتيش عن الإسلاميين 
الممائلين «للذكور الذين يقومون بأعمال الاغتصاب الجنسي». 


هذه المماثلة بين الإسلامي الذي يناصب السياسة الأمريكية العداء ويبادلها 
الكراهية» وبحيث يصبح مشايباً «للذكور الذين يقومون بأعمال الاغتصاب الجنسي» 
هي ممائلة ما بعد استشراقية» بامتياز تقوم من بين ما تقوم به» بإضفاء بعد جديد 
للصراع يصبح الإسلام بفضله موضوعاً جنسياً. بذلك؛ يأخذ التعرف على الإسلام 
هو الآخره اتجاهات لا سابق لها مع ظهور جيل جديد «ما بعد استشراقي» من 


(۸) دائييل بايبس (وعم]8 اءا0) هو واحد من أكثر المفكرين الأمريكيين الذين ساهموا في صناعة المادة 
المريعة الرائجة اليوم: «بغض العرب والمسلمين». رشحه جورج دبيلو. بوش لمنصب رئيس مجلس مؤسسة 
الولايات المتحدة للسلام» وهي مؤسسة فيدرالية يمولها الكونغرس» له كتابان شهيران الإسلام المسلح وأزمة 
الإسلام. أنشأ بايبس وزميله مارتن كريمر (118067 848:118) صاحب كتاب برج عاجي على الرمال: فشل 
دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة الأمربكية موقعاً على شبكة الإنترنت باسم «مراقبة الكابوس» 
لرصد ما يدعى ظاهرة التطرف الإسلامي. 


1A0 


المحللين وأساتذة الجامعات والكتاب الذين ينكبون على دراسة الظاهرات الاجتماعية 
في الشرقء محوّلين اهتمامات القراء والمتابعين إلى جانب غير مرئي من الدين القديم؛ 
فالإسلام مُتضمّن «مادة لزجة» كيماوية التركيب وخلقية» تصاحب ولادة المسلم من 
بطن أمه فتجعله يسلك سلوكاً مشيناً . إنه شبيه ومماثل للمرضى من الذكور الذين 
يمارسون الاغتصاب . 

يمكن للمرء أن يُلاحظ المدى الذي بلغته فعالية هذا النمط من الأفكار 
والتصورات من استطلاع أجرته جامعة كورنيل الأمريكية خريف 7٠٠١‏ . في هذا 
الاستطلاع وافق نصف الجمهور الأمريكي المستطلعة آراؤه تقريباً» على آراء باييس 
هذه» وطاليواء على غرار ما دعا في كتبه ومقالاته اللاحقة قة» السلطات الأمريكية 
بمراقبة مساجد المسلمين لأنها أماكن تجمع الإرهابيين . إن صورة مسجد ما يعد 
الاستشراق» ليست مائلة» قط لمسجد الاستشراق الكلاسيكى» الذي كان يسحر 
الزوار» ويلهب خيال الرحالة والسياح؛ وحتى الضباط الكولونياليين؛ من كانوا 
يجوبون المدن بعد احتلالهاء ولكن من دون أن يفوتوا على أنفسهم متعة التأمل في 
المآذن الشرقية الجميلة التي تنطلق منها أصوات غريبة . 

صورة المسجد الشرقى المحوط بالأسواق والبيوت الطينية الصغيرة فى دمشق 
والقاهرة وبخداذ ومراكش وتونن ونحيث الساء الميلات السمينات والشيقات 
يتبخترن هناك» تكاد تتلاشى تماماً اليوم من خيلة الأمريكي العادي الذي يتلقى هذه 
الصور من خلال سيل جارف من الأفلام والكتب؛ وبذلاً متها حلت صورة أحرئ 
مسجد يعج بالشاذين جنسياً من يتربصون بنا الشر» . هذه الصورة القديمة للمسجد 
شي الآكر بدلا والأككر تعيراء من بين سائر الصور في المخيال الأمريكي الغربي منذ 
الاس ستشراق الكلاسيكي . لم يعد المسجد مكاناً مثيراً للفضول بمعماريته وطقوسه 
ورمزياته» حيث يجثو المصلون على ركبهم» ويتمتمون بأصوات غريبة مبهمة بدلا من 
الغناء. «لأنهم لا ينشدون مثلنا على الطريقة المسيحية». كانت مارسات الجنود 
الأمريكيين ا وانتهاكاتهم التي لا تحصى لأعراض العراقيات في «أبو غريب» 
والفلوجة والرمادي والموصل ومدن الشمال العراقى» وطوال ثلاث سنوات من 
الاحتلال؛ تتغذى من هذا السيل الجارف من الصور المرسومة للإسلام والمسلمات 
المحجبات . 

وبفضل الصور النمطية أيضاًء فقد أصبح المسجد في عصر ما بعد الاستشراة 
موضوعاً جنسياً ولم يعد موضوعاً دينياً. وهذا ما كشفته بالضبط ممارسات الجنود 
الأمريكيين عند اقتحام مدينة الفلوجة العراقية في نيسان/ أبريل 5 27٠٠١‏ حين قاموا 
أولاً بقتل الرجال العزل بدم بارد؛ ثم باغتصاب النساء البدويات داخل 


كما 


المساجد”*؟ . إنه الآن» وفي عالم ما بعد الاستشراق». موضوع أمني يجري التصويت 
عليه في الجامعات: «هل ينبغي علينا مراقبة المساجد لاصطياد الإرهابيين؟ء انعم 
أم لا بلغت هذه الهستيريا ذروتها في مطلع عام 7٠٠١5‏ حين كُشف النقاب في 
الولايات المتحدة الأمريكية عن برنامج سري لراقبة المساجد بحثاً عن «أسلحة 
التدمير الشامل؟ . 


لم يكن المسجد في الاستشراق الكلاسيكي موضوعاً أمنياً أو جنسياً بكل تأكيد؛ 
وعلى العكس من ذلك؛ فإن كتب الرحالة كانت تضمء بالرغم من السيل الجارف من 
الصور الزائفةء فكرة رومانسية خلابة عن معمارية مكان الصلاة العربي كمكان 
مفتوح ومتقشف. إن الصور المرعبة عن اغتصاب النساء المحجبات في مساجد 
الفلوجة أثناء معارك نيسان/ أبريل 5 ٠٠١‏ ثم أثناء معارك شتاء ٠٠٠٠ء‏ وبالطريقة 
التي جرى فيها تحويل المسجد في المخيال الأمريكي إلى فضاء لممارسة أعمال 
الاغتصاب الجنسيء تنبئ عن المغزى الحقيقي لهذا التحول ووظائفه؛ فهو تحول 
مصممء من دون عناء ومشقة البحث عن الذكورء لغرض إهانة الكرامة الشخصية 
والدينية للآخر. وحتى بالنسبة لعمليات «الاعتقال الجماعي «للسكان المحررين فى 
العراق الجديد؛ فإن الأمريكيين ظلوا يمارسونها طوال ثلاثة ثة أعوام متواصلة من غير 
أن تثير أي رد فعل أخلاقى فى الغرب؛ وعلى العكس من ذلك» حظيت بما يشبه 
التأييد الهستيري الصاخب من جائب كتاب وصحافيين وإعلاميين ما بعد 

ستشراقيين » كما فعلت ميشيل مالكين في كتابها دفاعاً عن الاعتقال الجماعي ؛ وهو 
o‏ لا سابق له في الثقافة الأمريكية المعاصرة؛ دافعت فيه المؤلفة 
بشراسة لا نظير لهاء حتى في ذروة عصر الكولونيالية الأوروبية الكلاسيكية» عن 
حق وواجب الولايات المتحدة الأمريكية في الاعتقال الجماعي للعرب والمسلمين ما 
داموا يشكلون خطراً مفترضاً. 


إن دراسة الغزو الأمريكي من منظور أبحاث ودراسات ما بعد الاستشر 
والطريقة التي تم فيها توظيف نتائجهاء ا 
جديداً غير مسبوق؛ فأثناء التحضير لاحتلال العراق» رفي ا ب قظيقة فين 
مكتملة المعالم مع أساليب الكولونياليات الكلاسيكية وحلولها الاستشراقية في 


المنطقة» وبشكل خاص مع النموذج الكولونيالي البريطاني؛ شرع الأمريكيون في 


(4) انظر: فاضل الربيعي» «نساء «أبو غريب1: بزوغ مجتمع اغتصاب نموذجي في العراق الجديد 
(إعادة بناء الرواية الناقصة عن فضيحة سجن أبو غريب)» ؛ المستقبل العربي» السنة ۲۸. العدد ١7‏ (حزيران/ 
پونيو 0( 


AY 


وضع اللمسات الأول على مشروع استشراقي جديد» دعي بالشرق الأوسط الأكبر 
(بدلاً من الكبير لأنه بات يضم أفغانستان) يمكن انطلاقاً من عراق محتل» المباشرة 
ببناء أولى أسسه وقواعده الاقتصادية والسياسية والأخلاقية؛ بل وإعادة صياغته على 
أسس غير مسبوقة أخفقت في نشرها سائر الكولونياليّات السابقة . شكل العراق نقطة 
الارتكاز الكبرى في هذا المشروع أكثر مما كانت عليه حالة أفغانستان. 


لقد أتضح الآنء وبشكل جلي» الدور الذي لعبته «المعلومات» التي قدمتها 
أطراف في المعارضة العراقية عن «مستوى الخطر» الذي يشكله نظام صدام حسين. لم 
تكن هذه المعلومات مجرد معلومات مضللة وثانوية» أو خاطئة» كما هو الخال مع 
معلومة ال 40 دقيقة الل التي أَدت إلى وقوع الإدارة الأمريكية في أخطاء تكتيكية 
فادحة ؟؛ بل كانت جزءاً عضوياً من نظام معلومات متكامل شمل مختلف الفروع › بما 
فيها الإنسانية» مثل دراسة أحوال العشائر و«المجتمعات المحلية4 الصغيرة» وموقف 
الجيش والقوى المتنازعة» وحتى الوضع العائلي الداخلي «السري» للرئيس . 


كان عراق ما بعد الاستشراق يُمسح تقريباًء من أقصاه إلى أقصاه وشبراً 
فشبراً. لم نترك أدنى معلومة» مهما كانت تافهة» إلا وقدمها جامعو المعلومات 
للمحللين «المهووسين بالعراق». هذا الجهد الجبار والهائل طوال سئوات» لم ينهض 
فيه رّحالة» ولا أطباء في مهام إنسانية موجهة صوب الشرق» ولا بعثات تبشيرية» 
ولا كتاب روايات» وشعراء يجوبون عالمه الساحر؛ بل مض فيه طاقم كامل من 
«جامعي المعلومات؛ والمحللين والكتاب والمترجمين والعسكريين وعلماء الاقتصاد 
والأكاديميين» العراقيين والعرب وال مسلمين» من أبرزهم الأمريكي من أصل لبناني 
فؤاد عجمي» والعاجي عمر سيكوباه'' '؟ وحتى من بعض علماء ء الذرة الفارين من 
العراق» فضلاً عن السياسيين المنفيين الذين كانوا يريدون إسقاط النظام بأي ثمن. 
إنهم جيش ما بعد الا ستشراق» الذي تمت تبيئته بكفاءة نادرة» ليقوم وعلى أكمل 
وجى بمهام مسح منهجي للعراق طولاً وعرضاً . لقد كان العراق طوال خمسة 
وثلاثين عاماً بلدا مغلقاً في وجه الغرب» ولم تكن هناك أي «معلومات» دقيقة أو 


)٠١(‏ في مطلع العام ٠ ٠5‏ اعترف إياد علاوي زعيم الوفاق الوطني أنه سرّب معلومة ال٥٤‏ دقيقة 
اللازمة لانطلاق الصواريخ العراقية نحو أوروباء وأن مكتب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير تلقف هذه 
المعلومة وقام بتسريبها إلى الأمريكيين. إن هذا النوع من المعلومات يتسم بكونه نموذجياً في عالم ما بعد 
الاستشراق» الذي تلعب في إطاره نخب سياسية وفكرية عربية دوراً نشطاً في تلفيق المعلومات وصناعتها. 

(۱1) عمر سيكوباه مدير مركز دراسات الوحدة الإسلامية في أبيدجان» ساحل العاج» انظر: عمر 
سيكوباهء «السيستاني والتحدي الدستوري في العراق: مقاربة لتقرير مجموعة الأزمات الدولية:» المعارج. 
العدد 55 ,)5١١06(‏ 


1A۸ 


ذات حساسية عاليةء يمكن أن تتسرب من «ثقب الباب» أو يمكن الحصول عليها 
بواسطة البعثات الدبلوماسية» أو الزوار الأجانبء أو الوفود الرسمية» ولا من 
خلال تقنيات التنصت واستراق السمع. إن النقطة المركزية في عمل ما بعد 
الاستشراق تكمن هنا: استخدام «النخب» المحلية إلى أقصى حد ممكن من الفعاليةء 
من أجل التهيئة وإنشاء الصور المطلوبة. كانت لدى الأمريكيين كل الخطط 
والمبررات لغزو العراق» ولم يكن يلزمهم سوى وجود نخب عراقية وعربية مستعدة 
لتقوم بالدور كاملاء وإلى نهاية الشوط في صناعة الصور ما بعد الاستشراقية» 
وشيطنة العراق بالكامل. أي أن تساهم هي أيضاً في تخيل العراق وإنشائه طبقاً 
للموديل المقترح . وهذا هو الأمر الجديدء تماماء الذي يجعل من ما بعد الاستشراق 
قطيعة» من نوع ماء مع النشاطات الكلاسيكية للاستشراق؛ والتي كانت تعتمد كليا 
على التعرف المباشر من جانب غربيين رومانسيين. إنها القطيعة التي ستبدو ضرورية 
إلى حد لا يوصف؛ بل وأكثر تمثيلية لعصر ما بعد الاستشراق منها إلى الاستشراق 
القديم . 


أولاً: استشراق جديد» شرق أوسط جديد» عراق جديد 


تلازم بزوغ عصر ا ستشراق جديد مع تنامي النزعة العدوانية الأمريكية في العالم 
كله» وصعود دور الولايات المتحدة الأمريكية الإمبراطوري عقب انهيار الاتحاد 
السوفياتي (السابق) ولكنه تلازم» بشكل أوثق» مع طرح مشروع الشرق الأوسط 
الجديد (الكبير ثم الموسع) . وثمة إلى جانب هذا كلهء ترابط وثيق آخر بين ظهور 
مجموعة المحافظين الجدد في إدارة الرئيس بوش » كقوة مهيمنة على سائر مراكز القرار» 
وطرح مشروع غزو العراق الإنشاء عراق جديدة . من الناحية الافتراضية هناك علاقة 
جب بين اا بهن ت . لقد تضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد كما تخيله 
المحافظون الجدد”” ' في إدارة بوش الابن» سلسلة من المخططات النظرية 


)١١7(‏ تضم قائمة المحافظين الجدد أشخاصاً مثل دونالد رامسفيلد وأيليوت ابرامز ووليام بينيث وديك 
تشيني ومايكل ليدين ووليام کریستول وتوماس ديلاي وجيري فالويل وريتشارد بيرل وجيمس وبلزي وبول 
وولفوويتز وجي غارنر (الذي أصبح حاكماً عسكرياً لفترة قصيرة في العراق). كل واحد من هؤلاء هو إما 
رئيس مجلس إدارة أو عضو منتدب في شركة كبرى من شركات السلاح أو النفطء وهم يسيطرون على مراكز 
القرار بشكل تام. أفكارهم تستند إلى نظريات أستاذ الفلسفة في جامعة شيكاغو (في الخمسينيات والستينيات) 
من القرن الماضي ليو شتراوس» وهم يُعرفون ب #الشتراوسيين» نسبة إليه. عمل شتراوس حتى وفاته في أوائل 
السبعينيات في جامعة شيكاغو التي أطلق منها أفكاره المحافظة» التي تقول صراحة إن الديمقراطية لا يمكن أن 
تكون قادرة على التأثير من دون أن تقترن بالقوة العسكرية. يرى شتراوس أيضاً أن أنظمة الحكم يجب أن تكون 
في يد طبقة صغيرة من النخبة الفكرية. كان شتراوس يرفض بشكل قاطع أفكار الحداثةء وهو يفضل ما يسميه = 


۱۸4 


لل 


والتصورات الأولية» هى الأكثر تشبعاً بالخيال من بين كل الخطط الاستعمارية 
السابقة» ومفادها وجود إمكانية نظرية لدمج كيانات سياسة واقتصادية عدة في كيان 
أكبر . كما تضمن نوعاً راديكالياً من أنواع إعادة الإنتاج لاستراتيجيات الاستعمار 
القديمء ولخنططه العسكرية المصحوبة بنمط ممائل من المفاهيم الملتبسة عن التحرير 
والديمقراطية» والتي تم الترويج لها طوال سنوات سابقة على الاحتلال (أكثر من ثلاثة 
عشر عاماً من الحصار الفظيع). ولكن الأمريكيين من جانب آخر موازء وبخلاف ما 
فعل البريطانيون من قبل» بدوا أكثر حرصاً على بناء صورة لعراق ديمقراطي هو امتداد 
«لأفغانستان ديمقراطية» متخطين بذلك حاجز الأخطاءء التي وقع فيها أسلافهم عندما 
تصوروا بلاد ما بين النهرين التاريخية امتدادا كولونياليا للهند . 


إن عراقاً ديمقراطياً يمكن خلقه #فى مصهر الحرب»؛ ليس » تماماء بدعة 
أمريكية ولكنه بدقة أكبر» بدعة عراقية» وعربية أيضاًء ومن صنع النخب الثقافية 
والفكرية. يكتب الناشط السوري أكرم البني""“ في وصف العراق الجديد ما يلي : 
إن الانتخابات العراقية التى جرت فى ۲٠٠٤ /١١ /٠١‏ أحدثت انقلة جديدة ومهمة 
لتحرير الفكر السياسى من الاندفاعات الإيديولوجية العمياء» ومن بعض 
الإختلاطات والتشوهات» فطرحت على بساط البحث حزمة من المفاهيم» ما كان لها 
أن تطرح قبل ذلك» مبذا القدر من الوضوح؟. في هذا المقتطف النموذجي يتكشف 
إلى أي حد ذهبت النخبة الثقافية العربية في «اختلاق عراق جديد؛ وفي تلفيقه. 
أصبحت الانتخابات هى العلامة الفارقة التى يمكن للمرء أن يميزء تفلي بين 
العراق القديم والعراق الجديد. الجميع يعلمون ما الذي مثلته انتخابات الخامس عشر 
من كانون الثاني/ يناير. كانت وببساطة» بمثابة افتتاحية صاخبة لعهد من 
المحاصصات الطائفية المقيتة . 


وفضلاً عن التزوير الفاضح والتلاعب المعلن بالنتائج ؛ فإن العراقيين كانوا 
ملزمين بالتصويت لقوائم لا تحمل أسماء المرشحين» وكان عليهم أن يعطوا أصواتهم 


«المنطق» على «التفكير» في رسم السياسات» ويرى ضرورة استخدام الدين في السيطرة على الجموع. 


واستعمال القوة لكبح الميول العدائية لدى البشرء كما كان يؤمن بضرورة وجود «دولة كابحة». بيد أن أهم 
فكرة في نظريات المحافظين الجدد» تلك التي تدعو إلى إلغاء وحو مفهوم الغرب. وهم يرون أن مفهوم الغرب 
هذا نشأ بفضل الحرب الباردة» حيث انشطر الغرب إلى غرب أوروبي وآخر أمريكي» وإن زوال الحرب 
الباردة يحتم على أمريكا القيام بتفكيك الروابط التي تجعل من هذا المفهوم قائماًء لصالح «غرب موحد أمريكي 


أو تحت الهيمنة الأمريكية. 
)١7(‏ أكرم بنيء (إنهم» مهما قيل» يخسدون العراقيين على الطريقة التي جرت فيها انتخاباتهم» » الحياة» 
الما 


۱4۰ 


لأرقام جرى الاستعانة فيها من أجل تمييز القوائم المتنافسة . إن أكثر ما أثار النقد في 
صحف الغرب كلهء والامتعاض كذلك» في الأوساط السياسية في الولايات المتحدة 
الأمريكية؛ إنماهوء وعلى وجه التحديدء هذا الجانب من تجربة صياغة عراق 
جديد» نعني الانتخابات» فهي جرت من دون حق المصوّت في معرفة أسماء مَنْ 
سيصوت لهم من المرشحين» أو الإطلاع على براجهم الانتخابيةء وذلك بسبب 
الأوضاع الأمنية والخوف من عمليات القتل . 


كما فُرض على العراقيين بواسطة الدعاية الغوغائية» التى شاركت فيها عشرات 
الحطات التلفزيونية والإذاعية» والفضائيات الحكومية» أو التى تمتلكها الأحزاب» 
وبتوجيه التهديدات المباشرة للأفراد» وعن طريق نشر الخوف فى الأوساط الشعبية 
وبخاصة بعد فتوى السيستاني الشهيرة"'؛ التصويت فى انتخابات افتتحوا فيها عهداً 
لا مثيل له من التوزيع الطائفي للحقائب الوزارية . إن المقتطف المذكور آنفاً كاف بحد 
ذاته؛ لتبيان الطريقة التي جرى فيها تخيل العراق حتى بعد احتلاله» ومن جانب 
النخبة الفكرية والثقافية العربية ذاتها التي دافعت عن مشروع الغزو؛ بل وساهمت 
بأشكال لا حصر لها في بناء الصور الشيطانية الأولى للعراق. 

كانت عملية صهر العراق بواسطة «الديمقراطية» بعد صهره بواسطة آلاف 
القنابل الحارقة» تجري وفقاً لتصورات ما بعد استشراقية» سوف تجد طريقها إلى مقالة 
صحافية ركيكة نشرها شاكر النابلسي”*'' أحد أشد الليبراليين العرب عناداً» فى 
صحيفة عراقية تشرف عليها قوات الاحتلال. إنه على غرار زميله السوري يرى: 
«سر النجاح - حرفياً النجاح ‏ الذي يحققه العراق حتى الآن» وبعد ثلاث سنوات من 
الاحتلال» على الرغم من كل السلبيات والتضحيات؛ كان يمكن أن يحقق أضعافهء 
لو أن العرب كفوا أيديهم عن العراق». إذا كان كل هذا الخراب وكل هذه الفوضى 
هي النجاح عينه» فللمرء أن يتخيل على أي نحو جرى فيه تضليل القراء من جانب 
النخب . ولأن النابلسي المغرم بأفكار الليبرالية الغربية» يفترض أن العراقيين سعداء 
ا فقد راح 0ع تلق“ هو الآخر عراقاً تبط من سمائه بركات التاسع 
من نيسان/ أبريل» كما هبط المن والسلوىء ذات يوم» على بني إسرائيل في 
التوراة”“ . ويمكن» لأغراض السجال بالطبع» تخيل السبب الوحيد في تأخر 
العراق الجديد عن إحراز نجاحات اكبر ما هي عليه الآن. . إنه يكمن في وجود عامل 


)١4(‏ انظر حول هذه الفتوى ما سنكتبه في الفصول التالية. 
)٠١(‏ شاكر النابلسي» «العراق شبكة أمان العربء » الصباح (بغداد)ء 7٠١6/11/١‏ 
)١(‏ الكتاب المقدس » #سغقر الخروج». 


۱۹۱ 


التدخل العربي بشؤون العراق . بيد أن هذا العامل» كلياًء هو من تلفيق الأمريكيين» 
لأن النظم العربية التي اصطكت ركبها من منظر دبابات أبرامز» وهي تجوب ساحة 
الفردوس في بغداد» كانت أعجز من أن تقوم بأي شيء له قيمة أو تأثير في الصراع 
الدائر . على هذا النحوء يصبح العراق الجديد بدعة عربية ومن صنع النخب الثقافية 
والفكرية. لا يرى النابلسي الذي يعمل مع أطقم أمريكية في معاهد ما بعد 
الاستشراق» ويساهم معها في رسم الصور الجديدة عن العرب والمسلمين» أنه يكتب 
نصاً مرائياً مشحوناً بكل أنواع التزييف؛ وعلى العكس من ذلك يقدم نصا لا مثيل 
لتحريفيته حتى في أدبيات حركة المؤتمر الوطني العراقي التي يتزعمها أحمد الجلبي؛ . 
إنه يلاحظ ومن دون أن يعطي أي تبرير» أن: 

«كل ما أصاب العرب من خيرات وبركات بعد التاسع من نيسان/ أبريل ٠٠١7"‏ 
من إجراء الانتخابات التشريعية والبلدية التي كانت معطلة» وإعطاء المرأة حقوقها 
السياسية”''' التي كانت مرفوضة منذ سنين طويلة» وبدء عمليات الإصلاح الخ. . . 
كل هذه تشكل شبكة الأمان التي يتمتع بها العرب . لم تكن قبل التاسع من نيسان/ 
أبريل 7٠١‏ وكان سببها قيام العراق الجديد؛ . 

لا شيء يمنع متلقي هذا النوع من النصوص» من أن يرى فيها نموذجاً صارخاً 
جديداً عن ثقافة ما بعد الاستشراق؛ يتكشف من خلاله وبسهولة نوع غير مألوف من 
التحريف» وإلى الدرجة التي تصبح فيها الفوضى التي تضرب هذا البلد التعيس منذ 
ثلاث سنوات» شيئاً مشابهاً ل «شبكة أمان» يستظل فيها العرب كلهم» بينما يغدو 
القتل الطائفي ضرباً من الثمار والخيرات . إنها بركات التاسع من نيسان/ أبريل وثماره 
التي نضجت للتو. بهذا المعنى كان العراق الجديدء وبحق» من «اختراع؟ النخبة 
الثقافية العربية . لقد رسم مثقفون وأكاديميون عرب يعيشون في الولايات المتحدة 
الأمريكية وخارجهاء صورهم الزائفة والمتخيلة عن الوضع الحقيقي في العراق» لا 
من أجل الحقيقة المجردة؛ بل من أجل خدمة أهداف ما بعد الاستشراق الاستعمارية . 
كان العراق الجديد يغوص في الوحل منذ لحظة ولادته» ومع ذلك كانت النخب 
العربية الفكرية والثقافية تواصل» من دون ترددء ابتكار و”تلفيق» صورتها الأثيرة عن 
عراق ديمقراطي مزدهر ولد يوم التاسع من نيسان/ أبريل. 

ثمة ثلاث صور كبرى زائفة استند إليها الأمريكيونء كلياًء في تخيلهم العراق 

(10) في فصل تال سنرى كيف أن هذه النظرة إلى حقوق النساء في العراق القديم هي نظرة ما بعد 
استشراقية» انظر التصريحات التي أدلت بها وفود نسائية أمريكية زارت العراق بعد الاحتلال» وقارن بين 
النظرتين. 


1۹۲ 


القديم بلدا شيطانياً ومغلقاًء وهي قامت بدور استثنائي» خلال عمليات التحضير 
للغزوء في خداع وتضليل الملايين من البشرء داخل وخارج العالم العربي» وفي تبرير 
عملية «صهره». هذه الصور سرعان ما وجدت هوى خاصا عند النخب الليبرالية 
العربية التي بادرت إلى نشرهاء وإعادة إنتاجها . 


إن حازم صاغية؛ مؤلف وداع العروبة”*'2 الذي يكرر فيه بشكل سقيم أفكار 
فؤاد عجمي» وكذلك مقالات وضاح شرارة”؟'؟ بلغتها المفخمة» بشكل مصطنع» 
والتي تعطي متلقيها الانطباع الفوري بأنها متكلفة وجوفاء؛ هي مجرد مثال عن 
الطريقة التي يجري فيهاء بالنسبة لكاتبين يساريين» التنصل من الماضي اليساري» 
ومجرد مثال على التهافت من أجل تقديم الدليل الملموس على الاعتناق الصادق لقيم 
الليبرالية . لقد تم عبر هذا النوع من الكتابات» وداخل عقل النخبة الثقافية العربية 
اليسارية» بشكل خاص» تكريس فكرة أن العراق القديم يشكل بطبيعته» معضلة غير 
قابلة للحل من دون هدم «الدولة الشريرة» فيه. كما جرى تسويق فكرة الحل 
الديمقراطي من الخارج. بوصفها فكرة ساطعة في حيويتها؛ فالعراق بتركيبته 
السكانية والثقافية» يشكل نموذجا لمعضلة غير قابلة للحل من دون إعادة إنشائهء 
بتفكيكه أولاً. وكان العراق يتجلى» كذلك» كمعضلة «قومية» بسبب روابطه الوثيقة 
بالعالم العربي. إن وجوده في محيط عربي متحرق للتغيير» هو مصدر من مصادر إعاقة 
نشر الديمقراطية . وبالتالي؛ فإن التخلص من النظام» حتى وإن تطلب الأمر القيام 
بغزو مدمرء هو الجواب الوحيد المقبول عن تحدي صدام حسين المجتمع الدولي وعن 
تعطش العرب للديمقراطية . تطلب غزو العراق» من هذه الزاوية» استخداما مكثفا 
لهذا النوع من الصور النمطية . وأكثر من ذلك استنباط صور جديدة عن شعبه؛ لا 
تعود معها صورته القديمة والتاريخية مألوفة» قط . إنه شعب منقسم على نفسه» وفيه 
نخب دينية وسياسية مستعدة للتعاون مع الأمريكيين لتحريرهم من الاستبداد. ويبدو 
أن منظري ما بعد الاستشراق وجدوا في الطريقة التي فهم فيها الأمريكيون «عالم 
الشيعة» واحدة من أكثر الركائز الفكرية صلابة في مشروع التحرير. كان «فهم» 
العراق وتحليله يمر لا محالة من خلال عمل محموم لا يبدأ . 

هذه التصورات يمكن تكثيفها في ثلاث صور عامة : 


الأولى, صورة وجود شيعي ضخم مناهض للحكم» يمكن استغلاله كثقل قتالي 
في المرحلة والمبكرة من التحضير للغزو؛ وكثقل سياسي لاحقاء من أجل «دعم 


(18) حازم صاغية » وداع العروبة (لندن: منشورات الساقيء 48 )2 
)١(‏ انظر مقالات وضاح شرارة» في : الحياة بين عامي الاحتلال ٠5 7٠١7‏ لمر 


۱۹۳ 


الاستقرار؛ بعد زعزعة النظام وإسقاطه. كانت صورة الشيعة كجماعة مضطهدة. 
صورة رومانسية خلابة في معظم الصحف والدوريات ونشرات الأخبار في فوكس 
نيوز و(/712©)» استنبط الأمريكيون منها صورهم «الشيعية؛ الخاصة والمفضلة . بينما 
أعادت النخب العربية إنتاجها في الدوريات والصحف ووسائل الأعلام العربية من 


دون توقف . 


وانطلاقاً من منظومة كاملة من أشكال التحريض والترويج الدعائي لقصص 
تبدو رخيصة في غالب الأحيان عن مظالم رهيبة كانت رائجة منذ الثمانينيات من 
القرن الماضى» أمكن إنشاء صورة نموذجية لجماعة شيعية مهددة بالفناء . بدا الشيعة 
في هذا الاستنباط ما بعد الاستشراقي» عالماً منفصلاً عن الدولة والمجتمع والتاريخ 
والثقافة» يواجه وحده خطر الزوال على يد رجل شرير فالت من كل عقاب. وعلى 
امتداد أكثر من عقد من الزمن كانت المؤلفات ما بعد استشراقية تركز بشكل منهجي 
على وجود خطر إبادة جماعي» يتعرض له ما يدعى في الأدبيات السياسية الأمريكية 
«عرب الأهوار». والمثير أن المؤلفات والمقالات التي وضعها مفكرون وكتاب 
وإعلاميون ومحللون عرب» كانت تكرر حرفياً هذا التزييف الجغرافي . 

إن العراق التاريخى والحديث» لا يعرف» قطء جماعة تدعى «عرب الأهوار»؛ 
وإذا ما سألت أي عراقي من الجنوب عن هؤلاء؛ فإنه سوف يبتسم ويتساءل 
مندهشاً: وهل هؤلاء في العراق أم في إيران؟ كانت الأهوار الجنوبية في هذا 
الوقت» والتي تضاهي صورتها في المخيال الغربي صورة فينيسيا شرقية خيالية 
وخلابة» منذ أن زارتها المستشرقة البريطانية ليدي دراور”*' "في الثاني عشر من 
حزيران/ يونيو ۱۹٤١‏ (ثم قام صدام حسين في الثمانينيات من القرن الماضي بتدمير 
بيئتها الطبيعية التاريخية» تاركاً سکانہا العرب يتخبطون في مصير مجهول كما ت تقول 
القصص الأمريكية) تتحول إلى واحدة من أكثر مواد التشهير شعبية ضد الرئيس 


)۲١(‏ توفيت المستشرقة البريطانية ليدي دراور في شباط/ فبراير .1۹۷١‏ اشتهرت بترجمتها النصوص 
المندائية القديمة (ديانة الصابئة العراقيين في الجنوب) إلى اللغة الانكليزية. بدأت ليدي دراور عملها في العراق 
عندما كانت برفقة زوجها الذي شغل منصب مستشار وزارة العدل العراقية في الفترة ما بين 1947-191717. 
زارت منطقة الأهوار وكتبت عنها أشهر محاضراتها في الجمعية الملكية. والمثير أن صحيفة المؤتمر التي يصدرها 
أحمد الجلبى أعادت نشر نص المحاضرة مباشرة بعد احتلال بغداد. انظر: صحيفة المؤتمر. ۲۰۰۳/۹/۱۲ 
وكتب رئيس تحرير الصحيفة مقدمة احتفالية بإعادة نشر المحاضرة من دون أن يهمل الملاحظة التالية «عكست 
المحاضرة روحية ونمط تفكير البريطانيين في تلك اللحظة» عقب انتصار الحلفاء على المانيا النازية. وبالتأكيد 
كان نشاط الوطنيين العراقبين في تربية التلاميذ بروح حب الوطن والعداء للمستعمر البريطاني يمثل تعليماً 
مشوّماً معادياً للأجانب بنظر الغالبية الساحقة من البريطانيين. لكئنا إِنْ أزلنا القشرة الاستعمارية من محاضرة 
دراور نلمس مدى تعلقها بهذا البلد وإعجابها بشعبه». 


1۹٤ 


العراقي بعد حادثة 0 وبعد أسلحة التدمير الشامل :إن خاضن E‏ 
الي الف خيال المستشرقين البريطانيين بفضل السرد الروائي الحميل"" الذي ميز 
النص عن سواه من نصوص المستشرقين البريطانيين» لا تتضمن أي إشارة على وجه 
الإطلاق لما يعرف اليوم «بعرب الأهوار». كما إنها لا تشير قط إلى الشيعة أو (العرب 
الشيعة) في هذا الجزء من العراق . إنها تسمي هؤلاء برجال «العشائر» أو «سكان 
الأهوار» أو «رجال الأهوار؛ أما النساء اللواتي كنّ برفقة ليدي دراور؛ فى الرحلات 
الربيعية داخل المستنقعات المائية الساحرة» فهن «نساء الأهوار؛ وحسب . كانت 
شريفة» بالنسبة إلى الليدي» واحدة من أكثر هؤلاء النساء قرباً. لم تكن شريفة امرأة 
شرقية» أو من نساء الأهوار؛ بل كانت هي نفسها مس والنبرغ» التي كانت تعمل مع 
شقيقتها كورنيليا والنبرغ في حقل رعاية النساء الحوامل بمستشفى البعثة الأمريكية 
في العمارة» وكان أهالي العمارة يعرفونها باسم لاست شريفة» التي ارتبطت بصداقة 
حميمة مع الليدي. وعلى العكس مما يمكن توقعه. تكتب ليدي دراور عن سكان 
الأهوار بوصفهم صابئة (مندائيين) : 


«وهناك في الأهوار تجمعات من هؤلاء الناس المثيرين للاهتمام وعوائل هنا 
وهناك متفرقة» ويعرفون محلياً باسم الصبّة وهم حرفيون ماهرون يصنعون القوارب 
والحلى للعشائر والفالات وصنارات صيد السمك والمساحى والمحاريث وغيرها من 
أدوات . ونشاطهم الآخر هو كتابة الرقى؛ إذ يذهب سكان الأهوار إلى الكهنة 
المندائيين للحصول على تعاويذ باللغة العربية أو المندائية» والأخيرة تعتبر شديدة 
الفاعلية لأنها تكتب بخط ولغة غير معروفين». 


في هذا المقتطف الاستشراقي الكلاسيكي من النص» بكل ما يتضمنه من وضوح 
ودقة» كما في سائر المقاطع الأخرى» ليس ثمة أية إشارة إلى العرب الشيعة أو عرب 
الأهوار. على العكس من ذلك تطلق المستشرقة عليهم الاسم الذي عرفتهم فيه على 
الطبيعة» حين أقامت صداقة حميمة مع النساء» وبخاصة اللواتي تزوجن من رؤوساء 
عشائر مثل فالح الصيهود (صنع له أصدقاؤه الإنكليز بندقية صيد خاصة لا يقوى على 
حملها إلا رجل مثله يزن ١7٠١‏ كيلو غراماً كما صنعوا له دراجة هوائية قادرة على حمل 
رجل له جسد ضخم مثل جسده) . ما اكتشفته ليدي دراور في هذه الرحلة» على وجه 


)١١(‏ حلبجة: قرية كردية صغيرة تعرضت أثناء الحرب العراقية ‏ الإيرانية إلى قصف بالأسلحة الكيماوية 
لايزال موضع جدل. ولكن تقريراً شهيراً لخبير في السي. آي. أيه (18©) نشر في التسعينيات من القرن 
الماضي » برهن أن العراق لا يملك هذا النوع من المواد الكيماوية المستخدمة في الحادث. 


(۲۲) عرفت دراور قبل زواجها من السير دراورء باسم أثل سيسل ستيفنس وكانت كاتبة روائية. 


14۹0 


التحديد» أن مس والنبرغ أصبحت هي نفسها «الست شريفة «وأنها تحولت كلياً إلى 
امرأة شرقية» حتى أنهما حاولتا مع أثناء رحلة بالمشحوف”"'' ‏ للتوغل في عمق 
الهورء أن تحاكيا طريقة «طق الأصابع» على الطريقة العراقية الشهيرة أثناء الغناء: 


«حاولنا» شريفة وأناء إصدار أصوات عن طريق طق السبابة الوسطى » وهم 
يفعلونها هكذاء دون أي نجاح . وبعد أن أرانا قائد المشحوف الذي نقلنا في اليوم 
التالي» كيف يجب أن نعمل» ذكر لنا بأنه من الشين على الرأة طق أصابعها مام 
الرجال. لقد كان عجوزاً قبيحاً . الو فعلت زوجتي ذلك فإني أقطع رقبتها بيدي 
وأشرب من دمها» 

لم تتوقف ليدي دراور أمام هذه الملاحظة وأهملتها تماماً. كل ما أثار اهتمامهاء 
في ملاحظة الرجل القبيح؛ المنزعج من سلوك هاتين الغربيتين» أنهاء لأسباب 
غامضة وغير مفهومة تتعلق «بثقافة هؤلاء الشرقيين الغرباء» لا تستطيع أن تفعل ما 
يفعله الرجال. كانت شريفة تحاول تخطي ذلك الحاجز الشفاف الذي يفصل» 
بالكامل» بين عالها الغري وتحولها نبائياً إلى امرأة من نساء الهور. تبدت درجة 
الاستغراق في عالم الأهوار الساحر بالنسبة لهاء في هذه الاستعارة الرمزية للاسم . 
لقد أصبحت المس والنبرغ نفسها امرأة من نساء الأهوار. أي أا غدت» بحسب 
منطق ما بعد الاستشراق» واحدة من نساء عرب الأهوار» أو «الشيعة». ولم يكن هذا 
الأمر مدهشاً أو باعثاً على التساؤل. ولكن» أثناء الرحلة ومن دون صور زائفة» 
اكتشفت الليدي جماعة صغيرة وقديمة» تعيش في أماكن مبعثرة وداخل عالم سحري 
مثير. إنهم الصابئة. إذ ذاك قررت أن تكرس كل اهتمامها ووقتها لدراسة اللغة 
الغزية اا الأكتر غراية : التدائية» "ول يكن سباك قط أي جماعة أخرى رة 
للاهتمام تدعى العرب الشيعة؟ بهذا المعنى يصبح «العرب الشيعة» في الجنوب أو 
«عرب الأهوار» تلفيقاً ما بعد استشراقي . 


مع تصاعد الشائعات في الغرب» عن تدمير متعمد للبيئة التاريخية في الأهوار 
خلال الحرب مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي (أي بعد نحو أربعين عاماً من 
رحلة درأور) استغرق الأمريكيوت في كتميق هذا النوع من الصصور الجذيدة عن عام 
الأهوار القديم» ا مكتشف والذي مسحه الاستشراق الكلاسيكي مسحاً منتظماً طوال 
سئوات» وجرى تقديمه من جديد إلى وسائل الإعلام» ولكن من أجل البرهنة على 
أن هذا العالم لا يزال يتضمن جماعات غريبة ومثيرة» وأن هذه الجماعات قابلةء تمامأء 


() المشحوف أي القارب. 


147٦ 


لإعادة الاكتشاف ولأن تعاود الظهور بأسماء مختلفة . وكما أن مس والنبرغ في عالم 
الاستشراق الكلاسيكي» تحولت إلى «الست شريفة فقد تحول سكان الأهوار في عالم 
ما بعد الاستشراق إلى «الشيعة العرب؟. 


كانت مسألة تدمير بيئة الأهوارء وهو تدمير مزعوم يُنظر إليه من الناحية الرمزية 
كنوع من تدمير مقصود لصورة الغرب نفسه. الذي تل وجهه ذات يوم في مرآة 
الجنوب العراقي» واكتشف أنه شرقي أكثر نما هم الشرقيون» وأنه على غرار المس 
والنبرغ يمكن أن يصبح «الست شريفة»؛ تتحول هي الأخرى إلى مادة حارقة من 
المواد التي يستخدمها الليبراليون العراقيون والعرب في التشنيع على «نظام صدام 
حسين». على هذا النحو استعاد الأمريكيون فكرة الدمار الذي لحق بالطبيعة» بوصفه 
دليلاً قاطعاً على الخطر الذي يبدد جماعة بشرية بعينهاء وأن من واجب الغرب 
الأخلاقي أن يبب لمساعدتها ويأخذ بيدها خارج الغابة. كانوا بكل تأكيد بحاجة إلى 
نشر صور الأقمار الصناعية لكي يتبين القراء والمشاهدونء عبر العالمء حقيقة التدمير 
الفترض. لم تكن صورة فينيسيا الشرق أي الأهوار المدمرة (بعد عرب الأهوار 
المضطهدين) سوى واحدة من سلسلة صورة استشراقية نموذجية . 

ولأنها كذلك؛ فقد بدت غير واضحة بدقة كافية وكان هناك تساؤل عن معنى 
التدمير . بيد أنها أصبحت» على نحو ماء تنطق بشيء مفهوم عندما تسربت إلى وسائل 
الإعلام صور مأخوذة من الأقمار الصناعية» عن رقعة جغرافية فة '؟اشية شبه جرداء قيل 
إنها الموطن التاريخي لهذه الجماعة المهددة بالفناء . مَنْ يكون هؤلاء؟ في ما بعد سوف 
يتم تطوير المخيال الغربي وتغدو الصورة واضحة: إن عرب الأهوار هؤلاء ليسوا 
سوى جماعة من العرب الشيعة فى الجنوب . سوف تختفى الجماعة المندائية الغامضة من 
المشهد» ويتلاشى سحر اللغة الغريبة للكهنة المندائيين؛ الذين كانوا يصنعون أمام 
أنظار ليدي دراور أدوات الصيد للعشائر؛ ويكتبر الاو لاوم ما ولتحل 
محلها صور ما بعد الاستشراق. واحدة من صور ما بعد الاستشر شراق هذه تولى حازم 
صاغية تقديمها لقراء جريدة الحياة اللندنية عندما كتب تعليقاً على أنباء القتل اليومي 
وصور الحثث في بغدادء ليرى فيها دليلاً قاطعاً على «ثقافة ا موت» التي زرعها صدام 


(۲) هذه الرقعة هي شريط حدودي ضيق مع إيران. إن قصة تدمير الأهوار يجب أن تروى مراراً من 
جانب أطراف مستقلة باحثة عن الحقيقة. ما حدث هو أن الحكومة العراقية شرعت أثناء الحرب العراقية - 
الإيرانية إلى تنفيذ مشروع مائي ضخم «النهر الثالث» لسحب جزء من مياه الأهوار وتجفيف بعض المناطق 
الحدودية المتاخمة لإيرانء والتي كانت تستخدمها جماعات معادية في أعمال إرهابية ولصوصية. قامت شركة 
المقاولات العرافية (الحكومية) المسماة شركة «الأنفال للمقاولات؛ التابعة للتصنيع العسكري بتنفيذ هذا 


المشروع الضخم. 


14۹۷ 


حسين. في السابع عشر من أيار/ مايو عام 7٠١6‏ كتب صاغية مفسراً أسباب القتل 
وظروف وقوع مأساة #جسر الأئمة؛ في بغداد» حيث صُرع نحو ألف من العراقيين 
أثناء اجتيازهم الجسر المؤدي إلى ضريح الإمام موسى الكاظه”*"' في هذا الوقت كان 
نظام صدام محطماً وكان الأمريكيون يحتلون العراق كله. ومع ذلك ظل شبح صدام 
حسين يحوم في خيالات النخب العربية مع كل عملية قتل"" : 


إن صدام حسين أسس للموت ثقافته ودوافعه. وإن أدبيات تمجيد المقاومة 
والتغني بها أرضيا وفضائيا مسؤولة عن هذا الموت مسؤولية بعض الجوار الذي حين 
يُردع عن المشاركة يتواطأ» . 


وكانت النجف فى أدبيات ما بعد الاستشراق هذاء حاضرة بقوة كمركز 
روحي . الفارق الجوهري الذي يميز حضور النجف في هذه الأدبيات عن حضورها 
الواقعي في حياة العراقيين اليومية» أنها كانت بالنسبة للنخب العربية الليبرالية» كما 
بالنسبة للأمريكيين» مركزاً روحياً تم التضييق عليه من جانب السلطات العراقية 
الحاكمة؛ وأنه بات تحت حصار لا يُطاق» وأن المسؤولية الأخلاقية تتطلب تفكيك 
العزل القسري عن رجال الدين المناضلين هناك . بيد أن الحوزة في النجف» مع هذاء 
ومنظوراً إليها من زاوية التوظيف البراغمات ؛ بدت مكاناً دينياً مطهراً ومعقماً من أي 
نزعة إسلامية أصولية . وعلى العكس من ذلك يمكن الزج بها في المعركة المشتركة ضد 
الشيطان. أثناء المراحل الأولى من التحضير للغزو» جرت اتصالات مكثفة بين 
جماعات شيعية في المنفى» والحكومة الأمريكية من أجل تنسيق الجهود لإسقاط 
النظام . في الواقع» تعود هذه الاتصالات إلى وقت مبكر جداً من عقد التسعينيات 
في القرن الماضي» وخلال حياة المرجع الشيعي الأعلى أبو القاسم الخوئي؛ الذي 
جرت الاتصالات في الأصل› من أجل شرح رؤيته المختلفة كلياً عن رؤية الحميني 
بحسب ما قال ممثلوه. وتذكر وثيقة خطيرة”""'» وربما نادرة في السجل التاريخي 
للوثائق السياسية والدينية العراقية» أن مؤسسة الخوئي في لندن“" قامت بين آذار / 
مارس وحزيران / يونيو ۰۱۹۹١‏ وهو وقت مبكر بالفعل» بدور حوري في التمهيد 


)٠(‏ الإمام موسى الكاظم : أحد الأئمة الشيعة المعصومين: ضريحه في قلب بغداد. 

(1) انظر : الحياق /١١/‏ ه/ ۲۰۰۵. 

(۷) انظر: «مجموعة شيعية عراقية في أول حوار مع الإدارة الأمريكية: وثيقة تاريخية»» النهارء 7؟/ 
1 

(۲۸) مؤسسة المذوئي هي مؤسسة خيرية شيعية كبرى ثارت من حولها شبهات مالية لا حدود لها. انظر: 
عادل رؤوف» عراق بلا قيادة: قراءة في أزمة القيادة الإسلامية الشيعية في العراق الحديث (دمشق: المركز 
العراقي للإعلام والدراسات؛» ؟١١5).‏ : 


4۹۸ 


لقيام أول شكل علني لعلاقات زسمية ومنتظمة» بين النخب الدينية الشيعية» 
وبالتنسيق مع حوزة ا و وإدارة بوش الأب . قاد 
الاتصالات الأولى من لندن رجل الدين الشيعي والشاعر مصطفى جال الدين» الذي 
تزعم وفداً ضم كلا من محمد بحر العلوم ومجيد الخوئي (نجل المرجع الشيعي الأعلى) 
٠‏ وعزت الشابندرء بينما أذّى موفق الربيعي من مقر إقامته في لندن دور المنسق 
لاجتماعات الفريق الشيعي. 


التقى الوفد» في أول زيارة له إلى واشنطن» تم ترتيبها في لندن» ولوقت قصير 
للغاية» كن جبح بك لير حارج الأمررح الس والسفير ادوار 
دجيرجيان وجون كيلي؛ الذي كان يتولى في هذا الوقت الملف العراقي . . ويحسب 
نص الوثيقة فقد تركز البحث في هذه الاتصالات على ما يلي : ١‏ 


١‏ إن الشيعة يؤلفون ٥‏ في المئة من الشعب العراقي . و«أما الباقي فهم 
سنةٌ عرب حوالى ٠١‏ في المئة وسنة أكراد حوالى ١7‏ في المئة»7*" (و سوف نلاحظ 
كيفك أن هذه النظرية الرائقة قد وجلات تايبدا غر سوق فن انت الأمريكين 
لح ا يي O‏ لا ا و 

مع أن الشيعة هم أكثرية الشعب؛ ا و 
ا هل الس بالاستار في اک بعد روج اكيز وحنو أنفسهم بجيش 
هو سئي في قياداته ومراكز قوته حتى الآن0” 
۳- إن الإمام الخوئي يختلف عن المرجعية الحاكمة في إيران في قضايا كثيرة 
أهمهاء أن الإمام الخوئي لا يؤمن ب «ولاية الفقيه وأن كثيراً من علماء الشيعة في 
العراق ولبئان يخالفون هذا المبدأ؛ . 


(۲۹) من نص الوثيقة «مجموعة شيعية عراقية في أول حوار مع الإدارة الأمريكية : : وثيقة تاريخية». تقول 
صحيفة الشرق الأوسط› 7٠٠١777‏ ما يلي: إن المرشد الروحي الإيراني علي خامنئي أبدى تفهماً غير 
متوقع حيال تفسيرات محمد باقر الحكيم وعدد من المساهمين في هذه الاتصالات. لأهمية إقامة علاقة بين الشيعة 
والأمريكيين. و#بعد دراسة كل الجوانب وموافقة الخامنئي قر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق أن 
يشارك ممثله في بريطانيا الدكتور حامد البياتي في الاتصالات الجارية مع واشنطن - سوف يصبح وكيلاً لوزارة 
الخارجية العراقية في حكومة الاحتلال الثانية المؤقتة - -. كما ورد في صحيفة السفيرء < ٠ VT /AIYT‏ نقلاً عن 
الشرق الأوسط (المصدر نفسه) ما بلي «آن مسؤولاً إيرانياً قريباً من ملف العراق في المجلس الأعلى للامن 
القومي في إيران» كشف أن المجلس قرر أخيراً إطلاق أيدي الفصائل العراقية الشيعية المعارضة لنظام الحكم في 
بغداد لإجراء الحوار مع الولايات المتحدة حتى لا تشكل القطيعة القائمة بين طهران وواشنطن عقبة حيال تعاون 
فصائل المعارضة العرافية ‏ المتعاونة مع إيران وفي مقدمتها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية ‏ أمام التعاون مع 
الولايات المتحدة..٠.‏ 

(۳۰) الشرق الأوسط .۲٠٠۰۲/۹/۲۳‏ 


۱۹4 


إن أسلوب العنف والإرهاب ليس هو الأسلوب الذي يرتضيه الإمام 
الخوثي» ا «الوصول إلى TT‏ الديمقراطية؛ . 


مهدت هذه الاتصالات الطريق» فعلياً» أمام قيام تعاون واسع النطاق بين 

رجال الدين الشيعة في العراق والأمريكيين» وسوف نجد صداه ا 
زيارات أقطاب الشيعة إلى واشنطن» > والتي توجت بانعقاد مؤتمر للمعارضة هناك 
جرى فيه توثيق الروابطء بين المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة باقر الحكيم 
وحركة المؤتمر الوطني العراقي بقيادة الجلبي . كما مكنت سلسلة تالية من 
الاتصالات الثنائية» النخب الدينية في النجف وقم ومشهد» على حد سواءء من 
أن تعمل سوية على بلورة وتطوير تيار شيعي معتدل وامتناغم؟ مع السياسة 
الأمريكية حيال العراق. 


استنبط الأمريكيون في إطار هذا التعاون» صورهم «الشيعية» التالية مع مطلع 
التسعينيات من القرن الماضى» من استغلال شائعات روّجها المعارضون عن مأساة 
«عرب الأهوار» أثناء الحرب العراقية ‏ الإيرانية» عندما رُعم أن النظام قام بتدمير 
متعمد للبيئة التاريخية. وهذه تطورت في ما بعد لتخدوء مع الوقت وتسارع 
الأحداث» أساساً دراسياً متيناًء لفت أنظار الباحثين والمحللين ومراكز الأبحاث في 
الغرب كلهء إلى ضرورة التعمق في معرفة «عالم الشيعة». واليوم يمكن رؤية تعطش 
أوروبي لا يكاد يرتوي» لدراسة عالم الشيعة بأدق تفاصيله» اعتماداً على نخب 
إسلامية وحداثية عربية» بعضها لا يملك معرفة حقيقية عن العراق› ولكنه يكتفي » 
لأغراض وظيفية» بترويج معرفة شديدة العمومية عن تاريخ الشيعة . على أن الأهم 
من مسألة الاتصالات الأمريكية المبكرة برجال الدين الشيعة في العراق؛ يكمن برأينا 
في أن الأمريكيين تلقواء عبر هذه القنوات» دعماً غير محدود لنظزيتهم ما بعد 
الاستشراقية القائلة بوجود «عرب شيعة» واعرب سنة» في التركيب التاريخي للعراق» 
وأن تكريس هذه النظرة سيكون ممكناً بفضل الترويج الدعائي والنظري النشط في 
أوساط رجال الدين الشيعة. 


الثانية ء أما الصورة الزائفة الأخرى التي انبثقت من رحم فكرة التعاون مع 
الشيعة» واستند إليها الأمريكيون في تخيلهم العراق؛ فهي أن النظام من الناحية 


)۳١(‏ الصدر نفسه. 


التاريخية لا يتعدى نطاق كونه تمثيلاً سياسياً للسئّة العرب» تماماء كما نصحتهم وثيقة 
صحيفة النهار"" . وبالطبع فقد كان هذا التمثيل المزعوم قائماً بصورة تامة على 
حاب اكرات والأعراق والثقافات الأخرى. لقد تم وضع أسس هذه النظرية ما 
بعد الاستشراقية» وبشكل متواصل ومتواز؛ كوجه ثانٍ للعملة التي صمم الغرب كله 
على تداولها بنوع من نشوة الاكتشاف» وأصبح ا 
المهيمنين على الدولة بامتياز» أي بلد هؤلاء العرب السئّة «الذين يضطهدون» أولئك 
العرب الشيعة . كان تقسيم المجتمع العراقي إلى نوعين (جنسين) من العرب» أحدها 
سني يمسك بآلة الدولة الرهيبة» ويضطهد الآخر الشيعي المعارض بالفطرة والغريزة 
لكل دولة» شكلاً منمقاً من أنثروبولوجيا استعمارية قديمة . 


في الواقع كان البريطانيون المالكين الحقيقيين لأصل هذه الصورة الزائفة» وذلك 
عندما أثاروا عام ١9311‏ مسألة الأكثرية الشيعية المحكومة والأقلية السنية الحاكمة . 
كل ما فعله الأمريكيون عام ۲٠٠۳‏ هو إعادة إنتاج بعض أفكار التجرية الكولونيالية 
السابقة في ميدان فهم التركيب الاجتماعي والثقافي في العراق. لكن الاستشراق 
الكلاسيكي» > بخلاف الاستشراق الجديد؛ لم يكن يلح على أي نوع من التقسيم 
العرقي للجماعتين العربيتين المتصادمتين تحت الإدارة العثمانية . كل ما كان يرغب في 
رؤيتهء آنذاك» إنما هو التمكن من اجتذاب كتلة سكانية مخاصمة للدولة العثمانية 0 
صفوفه» بشتى الذرائع» من أجل حسم صراع مرير ومعقد . إن ما بعد الاستشر 
ا ل ل E‏ 
إنهما نوعان (جنسان) متغايران» أحدهما ينتمي إلى فرع من العرب هو فرع السنّةء 
والآخر مخاصم له ينتمي إلى الفرع الشيعي من العرب. 

الثالئة» أما الصورة الثالثة الزائفة» فهى أن الشيعة يمثلون سبيكة واحدة 
ومتماسكة. وأن الروابط التي جمعت الأمريكيين بحزبين رئيسيين من أحزابهم تاليا 
سواء أكان ذلك يموافقة ضمنية أم ووجه بالصمت» وعدم الاهتمام الرسمي من 
جانب الحوزة في النجف. أم على العكس من ذلك بمباركة شبه صريحة من إيران» 
وبشيء من الرضا والقبول عند مراجع قم ومشهد؛ ستكون كافية بحد ذاتها للعب 
الورقة الشيعية في العراق من دون متاعب» وأن هؤلاء سرعان ما سيتحولون إلى 
أداة طيعة بالكامل. ما اتضح مع احتلال العراق» أن الشيعة لم يكونوا سبيكة 
متماسكة كما تخيلها ما بعد الاستشراق؛ وأن التيارات الشعبية والقوية كانت 
تعصف» خارج إطار الحوزة» وربما بالتنافس معهاء وبعضها كان يزمر في وجه 


(77) «مجموعة شيعية عراقية في أول حوار مع الإدارة الأمريكية : وثيقة تاريخية». 


5١ 


مشروع الغزو””"". وأن الانقسامات في صفوفهم» كانت تعرقل باستمرار محاولات 
بلورة وتنمية وتطوير أي تيار شيعي معتدل ومتحالف مع الأمريكيين. 


خارج هذا الإطار الضيق للنظرات السياسية غير المنسقة في طريقة «فهم 
الشيعة»» كجماعة منفصلة ثقافياً وسياسياً عن المجتمع ؛ ومناهضة للدولة في العراق 
بالفطرة أو الغريزة» وفوق ذلك» تمتلك قابلية السبيكة.الصلبة؛ كان تغيير النظام في 
العراق من خلال الغزو العسكري» يمر عبر تصور آخر مواز لا يقل تشوشاًء فقد 
مهد الأمريكيون لفكرة إسقاط النظام عبر نشر سلسلة من المقالات والتحليلات التي 
كانت تأخذ طريقها للنشر في وسائل الإعلام الغربية والعربية» وإلى معظم الصحف 
العربية النفطية» بوصفها تحليلات ومعلومات خبراء» منطوقها النهائي هو التالي: إن 
إسقاط نظام الرئيس صدام حسين سوف يؤدي تلقائياً إلى عودة التوازن المفقود في 
الشرق الأوسط . كان التلازم شبه الميكانيكي الذي تم تصوره» وطبع بطابعه سائر 
الكتابات والتنظيرات السياسية طوال حقبة التسعينيات من القرن الماضي ؛ للعلاقة بين 
العراق من جانب» ومحيط إقليمي أكبر منه وينتمي ي إليه جغرافياً (ولكن خارج إطاره 
العربي) من جانب آخرء أحد أكثر النظريات السطحية لما بعد الاستشر شراق رواجاً. 
واتضح بعد وقت قصير فقط من عملية علب الصحراء (التي جاءت لتتويج مكاسب 
عاصفة الصحراء بعد إخراج القوات العراقية من الكويت) أن ذب الفكرة ة يتضمن 
العناصر الأصلية لمشروع الشرق الأوسط الكبيرء وأن المروج الأهم. بعد محادئات 
مدريد للسلام بين العرب وإسرائيل مباشرة» سيكون زعيم حزب العمل السابق 
شمعول بيريس . 


سعى بيريس» مستغلاً حالة الضعف التي أصابت العراق بعد غزو الكويت 
وتفكك العالم العربي؛ ومن دون كلل إلى تسويق فكرة مشوشة ذات طابع عمومي 
وفي إطار خطط نظري أعمء عن حيط شرق أوسطي يضم العراق وإسرائيل . ولكن 
هذه النظرية ظلت وبالرغم من كل محاولات التسويق» نظرية ذات طابع تخطيطي 
شديد الخيالية» سبق لها أن سطعت ذات يوم» كما رأيناء في الحقبة الكولونيالية 
البريطانية بخاصة مع طرح مشروع حلف بغداد الذي يضم العراق وباكستان في 
حلف عسكري» ثم تبين أن أفكاراً من هذا النوع يصعب الدفاع عنهاء أو قبولهاء 
وأنها سوف تواجه بقدر غير متوقع من المقاومة . إن الربط الجديد بين العراق والشرق 


(۳۳) انظر دراسة فاضل الربيعي عن تيار الصدرء في: فاضل الربيعي» الخوذة والعمامة: الاحتلال 
الأمريكي وموقف المرجعية الدينية في العراق (دمشق: دار الفرقدء »)2٠١7‏ وفيه تفصيلات وافية عن 
التيارات السياسية المتصارعة في الوسط الشيعي. 


۰۲ 


الأوسط› وبالتلازم مع الأفكار الزائفة عن الشيعة» ورؤية هذا اليلد التعيس كمصدر 
لانعدام الاستقرارء كانت له أغراض أخرى أكثر حيوية» فالعراق بثقله الجغرافي 
والمالي ومركزه التاريخي يمكنه» عبر تغيير التحالفات الإقليميةء أن يؤدي دوراً مركزيا 
في ضبط الأمن في المنطقة على أساس مبدإ التكامل الأمني الإقليمي» بين ثلاث 
عواصم هي: أنقرة وتل أبيب وبغداد. وكانت هذه واحدة من الأفكار القديمة التي 
أعيد إنتاجها في سياق الترويج لمشروع الشرق الأوسط الكبير*”. 


هذه هي الصور الثلاث الكبرى الأثيرة التي أنتجها ما بعد الاستشراق» كانت 
بحاجة إلى مَنْ يقوم بتصنيعها محلياً» بالنيابة عن الأمريكيين ولمصلحتهم . كانت لديم 
كل الوسائل والمواد والعناصر اللازمة لخلق مثل هذه الصور؛ ولكنهم فضلوا رؤيتها 
وهي تعجن بأيدي عراقية وعربية . 


ولذا لم يطرحوا قط. بعد غزو العراق» تصوراً واحداً يفيد بأنه امتداد لمستعمرة 
أخرى؛ وبدلاً من ذلك» وفور الاستيلاء على كابول وبدء التحضير لغزو العراق» 
ماروا إلى تت فكرة اا عراق تر اطي يكوك ااا لاا ر 
هذا الفارق بين تجربتي الاستعمار ا الاستشراق الكلاسيكي) 
والاستعمار الأمريكي الجديد (ما بعد الا ستشراق) كان جوهرياً في قوة اختلافه 
وتبایناته› ولعله قدم ومن هذه الزاويةء ريات مز اشرق الأرسط ا في 
الإدارة الأمريكية المباشرء حلا مؤقتاً لمعضلة تخيل العراق التي وقع فيها الاستشر 
الكلاسيكي» فعلى امتداد الأيام التالية التي أعقبت الغزو؛ 0 
بين كون العراق امتداداً لكيان آخر؛ وبين مضمون الارتباط الجديد بين كابول 
ويغداد. 


وبدلاً من القول إن الأمريكيين الذين جاءوا لتحرير العراقيين من الاستبدادء 
يريدون لهم أيضاً أن يكونوا امتداداً بشرياً وجغرافياً وديمقراطياً لشعوب ديمقراطية 
جديدة تبزغ في المنطقة؛ سيقال إنهم لن ينشئواء ولا يرغبون أصلاً ولا بأي شكل من 
الأشكال» في إنشاء كيان يكون امتداداً نموذجياً لستعمرة أخرى» وإن خططهم 
العسكرية وتصوراء تهم السياسية ونظرياتهم» هي بالضد من كل ذلك» وإنہا سوف 


(7”4) أول من أثار فكرة دمج العراق في محيط شرق أوسطي جديدء وفي شكلها الأولي» انظر: اللقاء 
المثير بين جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي مع نوري السعيد رئيس وزراء العراق في ؟١/‏ ۷/ 
۷, وانظر أيضاً ما كتبناه عن هذا اللقاء في : فاضل الربيعي. من أيقظ علي بابا: ظاهرة الفرهود في العراق 
والاحتلال الأمريكي (كتاب في حلقات» القدس العري؛. أيلول/ مسبتمبر )٠ ٠۳‏ وقد صدر الكتاب عن دار 
رياض الريس للنشر تحت عنوان: من أيقظ علي بابا: ظاهرة الفرهود في العراق .)٠٠٠٠(‏ 


7” 


تتركزء جميعاء في ميدان بناء عراق ديمقراطي يشع في الشرق القديم كله. لقد ذهب 
الأمريكيون مباشرة إلى هدفهم المعلن: إنهم ليسوا مستعمرين كالبريطانيين 
والفرنسيين» ولا تاريخ استعمارياً لديم وأن سجلهم العسكري نظيف› تمامًء من 
أي نزعة كولونياليةء وبالتالي» فهم لا يريدون مستعمرة جديدة تكون امتداداً 
لمستعمرة قديمة ؛ بل يريدون إنشاء عراق تحرري ديمقراطي» هو في النهاية امتداد 
لبلد ديمقراطي آخر ظهر للتو على مسرح التاريخ في المنطقة» بفضل جاذبية أفكار 
الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان» وبفضل إغراء المشروع التحرري الحديد 
المتبنى من قبل أكبر المدنيات في عصرنا . 


فهل انتهى النموذج الأمريكي الجديد في عصر ما بعد الاستشراق» بالرغم من 
كل هذا الاحتراس من أخطاء الكولونيالية البريطانية الكلاسيكية؛ إلى ما انتهى إليه 
النموذج السابق في عصر الاستشراق؟ 

كانت أفغانستان فى أنظار المحافظين الجدد هى الجائزة» أما العراق فكان هدفاً 
تكتيكياً. وهذا هو الحال عينه» تقريباً بالنسبة إلى الهند التي نُظر إليها على أنها الدرة 
في التاج البريطاني» وجائزة الإنكليز التي لا تضاهى بثمن» بينما تبدى العراق في 
تلك الآونة» كهدف تكتيكي لقطع الطريق على أية محاولة استعمارية مباغتة» سواء 
من المنافسين الروس أم من الخصوم الفرنسيين المتلهفين (تحت رايات بونابرت) إلى 
بلوغ شواطئ الخليج العربي المؤدية إلى الهند. على هذا النحو تبدت أفغانستان 
«مستعمرة المحافظين الجدده الخيالية الطهرة من الشيوعية ومن الأصولية الإسلامية 
على حل سواء» والتي يطمحون» انطلاقاً منهاء إلى إنشاء يوتوبيا كونية قابلة للتعميم 
كنموذج للحل الإنساني النهائي . بكلام موازء تبدت عملية إعادة بناء وتركيب 
الشزق الأوسط القديم » الذي هيمن عليه البريطانيون من قبل ؛ وكأنها محاولة أخرى» 
وهذه المرة من جانب أكبر الإمبرياليات وأكثرها فتوة وعنفواناً في العام » لاستكمال 
مشروع ناقص أحبطت جملة من الظروف والتنافسات الدولية المحمومة» أية إمكانية 
لتحقيقهء أو إنجازه في الماضي . ومع ذلك» كانت هناك نخب فكرية وثقافية 
وسياسية في الولايات المتحدة الأمريكيةء تمثل فريقا أ أقل انضباطاً» داخل وخارج عالم 
ما بعد الاستشراق بمعاهده وجامعاته ومراكز أبحائه» يصارع من أجل أن تطرح 
فكرة احتلال العراق من منظور آخر؛ كإمكانية لإعادة إنتاج وصياغة سائر أهداف 
الحملات العسكرية الاستعمارية في تاريخ المنطقة واختزالها في هدف واحد: أفغنة 
العراق (أي إعادة تهنيده ‏ من الهند) ومن ثم تعميمه كنموذج أفغاني وتحريره من سائر 
الصور الاستشراقية التى قامت با الإمبرياليات الشرقية الخاملة» الفارسية والعثمانية» 
أو قامت بباء مع مطالع القرن قبل الماضي إمبرياليات أوروبية نشطة. هذه المرة ل 


>53 


يكن الأمريكيون بحاجة إلى استخدام الأساليب والأدوات التقليدية» كالتوطين أو 
إنشاء المستعمرات السكانية المقتلعة من الهند؛ ولكنهم كانوا بحاجة ماسة؛ بكل 
تأكيد» إلى وسائل وأدوات فعالة تساعدهم في مهمتهم الشاقة والخيالية : إنشاء مدينة 
فاضلة كبرى فى شرق أوسط تكون إسرائيل هى محركه . ولذلك اتخذت عملية صياغة 
الأهداف القديمة ودمجها فى هدف واحد كبير» طابعاً شديد الديناميكية : تخيل العراق 
كامتداد ديمقراطي لبلد آخر. ولأن مثل هذا البلد الآخر لم يكن سوى أفغانستان» 
التي سقطت للتو في قبضة الأمريكيين» فقد أصبح من الضروري إحداث تعديل 
طفيف على نظرية الشرق الأوسط الكبير نفسهء وتحويله إلى شرق أوسط اكبر (أوسع) 
يضم باكستان وأفغانستان وقد يصل أطراف آسيا الوسطى السوفياتية (سابقاً) . 


هذه الأفغنة» بدت في الجوهرء ذات مضمون ثقافي جذاب لا سابق له. إنها 
تبعل من العراق جزءاً من عالم ثقافات متنوعة ليست العربية» فيه سوى صورة من 
صور الماضي الرومانسي”” ". أما الشيعة في شرق أوسط من هذا الطراز؛ فإن 
الفرص ستكون أمامهم أفضل وأكبر للالتحاق بعالم شيعي أوسع يمتد من النجف إلى 
كابول فإسلام آبادء أي داخل حوض حضاري واثقافة فارسية» قديمة» بدلا من 
البقاء داخل إسلام عربي . 


ثانياً : ليبراليون وغزاة 

خلال الفترة الممتدة ما بین 1۹۹۱- ١448‏ وجدت سائر الجماعات العراقية 
المعارضة التي اعتمد عليها الأمريكيون في مشروع إسقاط النظام» وانضمت بسرعة 
إل احالف العريض المنبكق من لقاء 2701 أن الظروف كانت تتشكل بسرعة» 
لصالح حصولها منفردة أو بشكل جماعي» على دعم واشنطن الصريح بعد أن 
تصاعدت الضغوط من حول النظام العراقي بشأن برنامجه النووي؛ وأن الأحداث 
تتجه نحو مسار لطالما تمنته. وفي غضون وقت قصيرء وقبيل انعقاد مؤتمر صلاح 
الدين””"” أصبحت الظروف أمام الأمريكيين مواتية أكثر وبشكل غير مسبوق» من 


(o)‏ انظر : حال حہمدان» «حول وحدة الرافدين والنيل»» الفكر المعاصر (القاهرة)» العدد ١١‏ (شباط/ 
فبرایر 18455). 

(۴) مؤتمرات المعارضة العراقية خلال مراحل التحضير للغزو امتدت من بيروت إلى فيينا فلندن 
فواشنطن مروراً بمؤتمر صلاح الدين في السنوات 231993؟١١73,‏ 

(۳۷) مؤتمر عقدته الأحزاب العراقية المعارضة في منتجع صلاح الدين شمال العراق وحضره مارتن 
أندك مهندس سياسة الاحتواء المزدوجء الذي كتب بنفسه مسودة البيان الختامي وتلاه الطالباني باللغة الإنكليزية 
وسط احتجاجات بعض ال معارضين. 


Y0 


أجل توثيق هذا التحالف السياسي وتأسيس إطار سياسي ‏ عسكري للجماعات 
العراقية المعارضة تكون قاعدته في شمال العراق. حزبا الطالباني والبارزاني من جهة» 
وحزبا الدعوة بقيادة الجعفري» والمجلس الأعلى بقيادة الحكيم من جهة أخرى. 
دعموا بقوة هذا التوجه ولم يكونوا أقل حماسة له من حزبي علاوي والجلبي. وثمة إلى 
الجوار من هذه القوى جماعات صغيرة أخرى» من أهمها الحزب الشيوعي العراقي 
الذي تردد في إعطاء أي موقف واضح» وظل يتلاعب بالوقائع والشعارات بطريقة 
محزية. إن سائر هذه الجماعات الكبيرة لا تُعرف بأنها ليبرالية؛ بل كانت إما دينية - 
مذهبية ‏ أو قومية ‏ اشتراكية» وبخاصة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي 


يشكل فيه الماويون المتطرفون من حزب الكوملة القوة الرئيسة . 


بهذا المعنى ؛ بدا ظهور جماعتي الجلبي وعلاوي بعد عام ١1۹۹ء‏ وكأنه البداية 
الحقيقية لتبلور الليبرالية العراقية الجديدة في حزب سياسي» بعد أن ظلت أكثر من 
مئة عام» تقريباًء من دون تنظيم حقيقي (جمعية» خت رک حلقات فكرية). 
ولكنه الحزب الذي سوف يتمكن من جر كل الأحزاب التاريخية خلف سياساته 
وشعاراته . كانتا أول جماعتين ليبراليتين ارتبطتا بشكل وثيق بالغرب» وانحازتا علناً 
لمشروع احتلال العراق ونادتا فيه طوال السنوات السابقة ة على الغزو. إن ولادة حزب 
ليبرالي خارج العراق وبرعاية أمريكية معلنة» وتحويله إلى مركز استقطاب لسائر 
الأحزاب التاريخية لم يكن تطوراً محتوماً بالنسبة للفكر السياسي» ولكنه كان» بدرجة 
أقل من ذلك» متوقعاً نظراً للتطورات السياسية المتسارعة من حول العراق» الذي 
تعرض بشكل شبه منتظم إلى ضربات جوية وصاروخية طوال هذه الحقبة . 

لقد نشأ حلف غريب من نوعه» ضمّ الأحزاب الدينية (الشيعية) والشيوعيين 
والليبراليين الجدد. فى هذا الوقت» وبينما كان الأمريكيون يستعدون لغزو العراق» 
بدأت ملامح الموجة الليبرالية الثانية في العراق تُستكمل» وتبزغ جماعات سياسية 
وثقافية محورية في نشاط المعارضين في الخارج» تجاهر علناً بدعم المشروع الأمريكي 
لاحتلال العراق. فى هذا الإطار كانت الصور الثلاث الكيرى الزائفة وما بعد 
الاستشراقية عن عالم الشيعة» حاضرة بقوة في الخطاب السياسي الأمريكي» كما في 
خطاب المعارضين الليبراليين والشيعة أنفسهم» كما إن واحدة من هذه الصور على 
الأقلء كانت تبدو للأكراد على وجه الخصوص الذين وصفواء في التصنيفات 
والتحليلات 000 التي قدمها الشيعة لمضيفيهم الأمر يكيين في اجتماعات 
واشنطن”*”“» بأنهم إلى جانب كونهم أمة أخرى «هم من الناحية المذهبية» من أهل 


(۳۸) انظر: «مجموعة شيعية عراقية في أول حوار مع الإدارة الأمريكية : وثيقة تاريخية». 


۲۰٦ 


سنّة «ذات» إغراء خاص . ولذا بات خطاب الأحزاب الكردية أثناء التحضير للغزو» 
يتضمن تأكيد نوعين من الحق اأطالب به : : حق قومي» وآخر مذهبي . في هذا السياق 
لعبت جماعتا أحمد الجلبي المعروفة باسم المؤتمر الوطني» و«الوفاق الوطني» التي 
يقودها إياد علاوي من عمانء (سوف يصبح رئيساً مؤقتاً للوزراء في ما بعد) دوراً 
بارزاً فى تنشيط الميول والنزعات الليبرالية» واجتذاب جماعات يسارية تقليدية إلى 
التحالف الفضفاض؛ بل إلى منظومة أفكار وسياسات كانت تبدو» حتى وقت قريب 
فقط» وبالنسبة للجمهور اليساري بشكل خاص» ولجمهور شيعي متعصب بشكل 
عام» غرائبية وشاذة وإمبريالية (مثل فكرة الفيدرالية التي تبدو إلى النهاية فكرة دخيلة 
على أدبيات الشيعة) . 


هاتان الجماعتان الليبراليتان» المؤتمر والوفاق الوطني مثلتاء بالرغم من 
التضاربات والتناقضات بينهماء حزب الليبرالية العراقية الجديدة المتحالف عضويا مع 
الغرب» وكانتا ترتبطان بصلات وثيقة وخاصة بجهاز الاستخبارات الأمريكية ووزارة 
الدفاع (البتتاغون). وهذا أمر مشهود ولا جدال حوله. لقد أعلنتاء كل من جانبهاء 
وفي مناسبات مختلفة وبقدر مذهل من التباهي والزهوء أن العلاقة مع أجهزة 
الاستخبارات الدولية هو من متطلبات العمل . كما إن واحدة منهماء على الأقل› أي 
جماعة الوفاق الوطني وبحسب تصريحات رسمية لزعيمها علاوي» كانت ترتبط 
بصلات وعلاقات وثيقة يما يزيد على خمسة عشر جهازاً استخبارياً حول العالم. لقد 
تلقتا على مدى ثلاثة عشر عاماً دعماً مالياً سخياً من الأمريكيين . 


كان الجلبي (شيعي عراقي من أم لبنانية وهو ابن خالة إياد علاوي) يرتبط علناً 
بصلة تحالف سياسية وثيقة مع المحافظين الجدد؛ وله علاقات شخصية متينة مع 
رامسفيلد وبول وولفوويتز. زر إليه كذراع يمنى ضارية؛ بفضل شبكة علاقاته مع 
أوساط عراقية شيعية ويسارية وكردية» فضلا عن صداقته الحميمة مع قادة المستوطنين 
فى الضفة الغربية من فلسطين المحتلة» والتي سهلت عليه؛ 0 ا 
حميمة مع الكونغرس ومنظمة الأيباك اليهودية ؛ بينما تُظر إلى علاوي» الذي لم يكن 
يعرف معنى الاحراج السياسي من إعلانهاللتكرر أنه مرتبط بوكالة الاستخيارات 
المركزية الأمريكية؛ كذراع يسرى ضاربة أيضاً بفضل صلاته بالعسكريين السابقين 
وكادرات حزب البعث المنشقة . منذ منتصف أيار/ مايو ۲٠٠۳‏ وبعد شهر واحد فقط 
من الاحتلال الأمريكي للعراق» وعقب إعفاء جي غارنر من منصبه كحاكم 
عسكري» واستبداله بحاكم مدني هو السفير بول بريمر؛ المتخصص بمكافحة 
شبكات الإرهاب» شهد الخطاب السياسي الأمريكي الموجّه نحو جمهور عالمي ساخط 
على الغزوء ومن أجل شرح أهداف الولايات المتحدة الاريك نين المرب رة 


وا 


مثيراً في وظائفه الدعائية المباشرة. لقد جرى الانتقال دفعة واحدة من شرح مخاطر 
وجود أسلحة تدمير شامل» ُبأة في مكان ما؛ إلى الاهتمام بتسليط الأضواء» 
والتركيز على الضرورة الملحة للكشف عن المخاطر الجديدة التى تهدد أمن الولايات 
المتحدة والعالم» انطلاقاًء من مصدرها الجديد: شبكات القاعدة والإرهاب الدولي في 
العراق. 


الشرق الأوسط الجديدء إذاً» ليس سوى المكان الذي مجب» انطلاقاً منه توفير 
الحرية والأمن» لا للولايات المتحدة الأمريكية وحدهاء وحسب؛ بل وتأمين حماية 
مطلقة للعالم بأسره من خلال إحباط أي محاولة لاختراق أسواره المحوطة بالأشباح 
الإرهابية . بكلام مواز: تحول الجدل السياسي الدائر حول الغزوء من جدل حول 
شرعية الغزو إلى جدل حول ضروزته حماية العام من الإرهاب . يكمن التحول المثير 
في الفكرة التالية: لم تعد الديمقراطية حاجة محلية لشعوب مقهورة في عالم عربي 
بطيء التطورء وإنما هي على وجه الحصر حاجة حيوية للأمن القومي الأمريكي› 
وذلك من خلال إنشاء حزام شرق أوسطي يكون ضامنا للأمن» وقابلاء في الآن 
ذاته» للتحول هو الآخر إلى حاجة أمنية للأمريكيين. بدأ التحولء أو الانقلاب 
الدراماتيكي في خطاب التحرير» فور تزايد المشاعر والتوقعات في دوائر البنتاغون. 
وود ما بدو اهيدا مأزق عسكري خطير في العراق» وذلك» مع تزايد الخسائر 
البشرية» وتصاعد كلفة الحرب» وتدهور الأوضاع النفسية وتداعي معنویات الجنود 
المرهقين من حر الشرق حيث تسطع شمس بغداد المحرقة ساعات طويلة في النهار. 

كان المأزق العسكري الأمريكي يتجلى كمأزق قد يضع الولايات المتحدة 
الأمريكية في أية لحظة في قلب موقف› هو الأصعب ,نل الوزيمة الذلة في مام 
وكان تصاعد أعمال المقاومة العراقية وظهور مؤشرات قوية» بالرغم من ضالتها في 
هذا الوقت» على تعثر الحملة الحربية والسياسية والأخلاقية هناك» يؤذن بظهور دلائل 
أكبر على الفشل . لم يعد الحديث عن التحرير ونشر قيم الحرية وبناء نموذج ديمقراطي 
طاغياًء ايا الأولى؛ بل حل محله حديث متواتر عن الإرهاب كدافع» أو 
باعث على شن الحرب . بيد أن ما هو أهم من ذلك في هذه الآونةء وبالنسبة للقادة 
العسكريين وبخاصة بالنسبة إلى قائد الأركان رتشارد مايرز؛ وأهم حتى من مجرد 
تأكيد وجود مأزق سياسي وعسكري وأخلاقي حقيقي في العراق؛ إنما هو الإصرار 
ما أمكن» وباستخدام ذخيرة لغوية فاسدةء:عل وجوه تقدم كبير يتم إحرازه في هذا 
البلد . وبالفعل غدا الحديث عن تقدم يتم إحرازه ف فى العراق» نوعاً من ذخيرة لغوية 
فاسدة شبيهة برصاص الخُلّب» الذي غالباً ما يستخدم في المناورات الحربية لضمان 
عدم تعرض الجنود لإصابات . على الجبهة السياسية وحين كان مايرز يتحدث. لأول 


1*۸ 


مرة صيف ٠٠١7‏ عن «تقدم يتم إحرازه»؛ فإن أصوات القذائف كانت تدوي في 
واشنطن محدثة الأثر المخادع والمطلوب . لكن أياً من مسؤولي الإدارة لم يكلف نفسه 
مهمة شرح حدود ومغزى هذا التبدل في الخطاب . ما حدث في الواقع هو أن روح 
الاستشراق القديم كانت لا تزال يقظة بما فيه الكفاية بالرغم من شيخوختهاء تصارع 
من أجل أن تنهض بعبء التعديل المطلوب في صورة الشرق. إنه ليس شرق أوسط 
كبيرأًء تمامأء ولكنه أوسع من ذلك بقليل . وحين بدا أن المأزق العسكري كان جرد 
بداية في سلسلة متتابعة من المآزق» كما هي العادة في نتائج الحروب الإمبريالية» فقد 
ارتأى «المنظرون الأفغان" في البنتاغون» أن تعديلا من نوع ماء على صورة الشرق 
المتخيل» قد يكون علاجاً شافياً من الأخطاء . ولم يكن من الواضح عندئظٍ»ء ما هو 
جوهر التقدم المدعى أنه يخرز هناك؟ وما هي الأهداف التي ينشدها الأمريكيون 
بالضبط؟ هل هي تحرير العراقيين من الاستبداد؟ أم هي بناء شرق أوسط كبير» 
انطلاقاًء من العراق؟ أم البحث عن أسلحة صدام حسين؟ أم مكافحة الإرهاب؟ بعد 
أشهر فقط من الاحتلال نشأ خطاب سياسي أمريكي هو خليط من كل هذه 
الأهداف . إنه خطاب شبيه وماثل لصورة الشرق الأوسط الكبير والخيالي الذي يتسع 
لشعوب وأعراق وثقافات لا يجمعها جامع . على النحو ذاته من التماثل والدمج في 
صورة الشرق الأوسط المتخيل» قدم الأمريكيون خلال حقبة بول بريمر بكاملهاء 
خطاباً هو الخليط عينه : مزيج من شعارات شديدة العمومية والتناقض . بدأت حقبة 
بريمر في منتصف حزيران/ يونيو 7٠١١17‏ وانتهت رسمياً في 14 حزيران/ يونيو 
٤‏ بما عرف بعملية نقل السلطة إلى العراقيين» وهو انتقال فاشل بأدق معاني 
الكلمة كما وصفه المحللون الاستراتيجيون"" . 


بلغ عمل المنظرين الأفغان مع نهاية حقبة بريمر نبايته هو أيضاً. لقد فرغوا من 
| هندسة وإنشاء صورة أفغانية متكاملة» لعراقٍ جديد ينقصه حيد كرزاي. في هذا 
النطاق؛ يمكن للباحث أو المراقب أن يعثر على وجه آخر من أوجه الترابط في 
موضوعات الخطابين » الاستعماري البريطاني بالأمس والاستعماري الأمريكي اليوم 
إزاء البلد نفسه. كما يمكن في السياق ذاته فهم المعنى الذي ينطوي عليه التلازم» 
في تحولات هذا الخطاب» مع حدوث تطورات مفاجئة على الأرض؛ نعني الأثر 
الذي يمكن أن تتركه مقاومة شعبية ومعارضة سياسية في الشارع من ختلف 
الطبقات» لمشروع استشراقي من هذا الطراز. 


(۳۹) فيليس بينيس» مجموعة العمل الخاصة بالعراق في «معهد دراسات السياسة» ومركز «السياسة 
الخارجية في بؤرة الاهتمام»: ««انتقال» فاشل للسلطة : النفقات المتصاعدة لحرب العراق ٠٠‏ المستقبل العري » 
السنة ۰۲۷ العدد ١4‏ (تشرين الثاني/ نوفمبر .)١٠١4‏ ص 5 ٣‏ . 


۲۰۹ 


إذا كان العراقيون فى الماضى قاومواء ويخاصة فلاحو الجنوب الذين كانوا 
الأكثر عرضة لمخاطر «التهنيد»» وبشكل أعم سكان الفرات الأوسط وبخاصة 
النجف؛ عندما تنبهوا لدوافع وأسباب مختلفة» من بينها الطابع البدوي التاريخي 
الصلب والمتين في النسيج الاجتماعي» إلى مقدار الإجحاف والاستهتار في هذه 
النظرة المصوبة نحوهم» فبادروا إلى إشعال الثورة عام ١47١‏ بعد ثلاث سنوات فقط 
من الاحتلال البريطاني؛ فإن انطلاق المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي بعد ثلاثة أسابيع 
فقط من سقوط بغدادء ملت وبنفس القدر من التوصيف» أقوى رد فعل يمكن 
توقعه» وكانت من الشدة والضراوة بحيث أنها بدت لا رداً على احتلال عسكري 
للأرض؛ بل رد فعل أيضاً على ما بعد الاستشراق» أي على محاولات الأفغنة المحمومة 
التي جربا المنظرون الأفغان. في الحالتين كانت المقاومة الشعبية» وليس أي عامل» 
أو باعث آخر» هي ضربة المعول الحاسمة التي هشمت النظرات الخيالية لا للعراق 
وحده؛ بل للشرق بأسرهء وهي التي مكنت العراقيين وملايين العرب وبسرعة» من 
تبديد الأوهام الاستشراقية الجديدة والقديمة المنسوجة من حول صورتهم . 


إن الغنودة إل التاريخ التبياسي والاجتماعئ بعد سقوط بداد في فة 
البريطانيين بالأمس» والأمريكيين اليوم» سوف تكشف عن أهمية عامل المقاومة 
الشعبية في تبديل طريقة تفكير البريطانيين والأمريكيينء وبشكل أخص؛ تبديل 
طبيعة فهمهم العراق وأسلوب أخْيّلته . كما ستكشف عن تمائل مذهل في يُنى 
الخطابين الإمبرياليين» الكلاسيكي والجديد على حد سواء . ولئن تراقصت» ذات يوم 
من التاريخ› الأوهام والخيالات فوق أوراق ومخططات المنظرين» وكلما ظهرت 
حاجة للكشف عن «مظاهر التقدم الذي يحرز»» فإن ما كان يدفع ببذه الخيالات إلى 
ا ا ا E‏ 
بجلاء أن الأوهام يمكن أن تتبدد تحت شمس بغداد الساطعةء وهي التي أدت مع 
سلسلة من التفاعلات في النهايةء إل اندلا اجرد غير قابل للسبظرة ة عليه في 
الحالتين . وللتذكير فقد حدث في الماضي أن كان التمرد» حسب التعبير البريطاني 
الأثير في وصف رجال العشائر؛ فلاحياً مسلحاً في الريف» وسياسياً سلمياً إلى حد 
ما فى المدنء وكان إلى النهاية» ناجماً عن شعور مرير بأن الاحتلال والحفاظ على 
الخصوصية الثقافية هما أمران متناقضان بشكل فاضح . 

لقد أذت الثورة الفلاحية ‏ العشائرية التي اندلعت في البصرة (الجنوب) 
وتزعمتها وقادتها في البداية عشائر المنتفك وآل السعدون. ثم ما لبثت أن تحولت إلى 
ثورة عارمة شاركت فيها معظم المدن ڌ تقريباً عام 147» دوراً حاسماً في سرعة صهر 
وتذويب الأوهام والمخططات النظرية للبريطانيين عن حل هندي لمشكلة العراق» بينما 


1۰ 


أدت المقاومة العراقية في ٠٠١‏ والتي تهيأت لها النواة الصلبة في الجيش العراقي 
(الحرس الجمهوريء القوات الخاصةء الحرس الخاص للرئيس صدام حسين» منظمة 
فدائيي صدام) ”' ) وخطط لها حزب البعث العربي الا شتراكي (الحاكم) وتدرب عليها 
آلاف الشبان لسنوات قبل وقوع الغزو؛ دوراً مذهلاً من حيث قوة زخمه في تسريع 
درجة ذوبان أوهام الأمريكيين عن انتصار سهل في العراق . 


آنذاك» احتاج العراقيون إلى نحو ثلاث سنوات من العمل والتهيئة والحوارات» 
حتى يتمكنوا من جع الال والعتاد والرجال لخوض معركة حقيقية ضد المشروع 
البريطاني» كما احتاجوا إلى سلسلة من الاحتجاجات والتمردات المتواصلة لكي 
يستفيقوا من هول الخديعة: فالتحرير من الاستبداد التركي لم يكن سوى المقدمة 
العنيفة في معزوفة صاخبة» ستعيد تشكيل الكيان العراقي وتنزع عنه جلبابه العثماني - 
الإسلامى بالقوة» لا من أجل تحديئه وإنما من أجل إدراجه.فى منظومة أمنية 
وعسكرية سوف تعرف في ما بعد بحلف بغداد. أي عملياً من أجل إدراجه بما يشبه 
شرق أومنط را ووچا وهی منظومة غائلةة قاماء لا يدهو الأمريكيون 
اليوم بالشرق الأوسط الكبير؛ فيما على العكس من هذاء يبدو العراقيون» وعبر 
تجربة المقاومة الجديدة» وكأنهم استعدوا قبل ثلاث سنوات على الأقل للغزو: لقد 
جمعوا له الال والعتاد والرجال وانتظروه . 


١‏ من تحالف الشمال الأفغاني إلى اللوم ركا العراقرة"“ 


إن جزءاً من الصراع ضد الاحتلال الأمريكي» كما ضد الاحتلال البريطاني من 
قبل» كان يدور في حقل الاستشراق وحول الموضوعة المركزية للغزو: تخيل العراق» 
وإن فهماً متطلباً لمغزى التحالف الشيعي - الليبرالي ‏ العلماي» الذي أنشأه 
الأمريكيون قبل الغزو وشجعوا قيامهء يكمن فى هذا البعد الثقافى الذي تحجبهء 
عادة» الأعمال العنيفة في مسرح الحرب . وما يدعم هذا المنظورء أن المصطلحات 
التي راجت في الحالتين» كانت تعطي الانطباع بأن الهدف الأصلي للغزوء اندرج منذ 
البداية» في إطار ثقافي أعم ؟ فكما ظهرت إبان الاحتلال البريطاني المصطلحات 
والتدابير التي سعت إلى «تبنيد» العراق؛ فقد ظهرت مع الاحتلال الأمريكي منظومة 


(40) فدائيو صدام : منظمة عسكرية علنية سرعان ما تحولت إلى منظمة سرية أثناء احتلال بغداد» أسسها 
عدي صدام حسين نجل الرئيس العراقي. كانت المنظمة موضع سخرية المعارضين العراقيين» ولكنها أثناء 
الاحتلال سوف تؤدي دوراً مذهلاً في العمليات العسكريةء إلى الدرجة التي صار فيها الأمريكيون ينسبون إلى 
رجالها العديد من العمليات الخاصة. 

(41) اللويجركا هو مجلس ممثلي القبائل. 


مماثلة وموازية من المصطلحات والتدابير التي سعت إلى أفغنته. من بين هذه 
المصطلحات: اللويجركا. ظهر تعبير لومجركاء لأول مرة» يعد سقوط كابول مباشرة 
عندما برزت الحاجة إلى إعادة تجميع الشظايا السياسية والاجتماعية الأفغانية» على أثر 
تشم حركة طالبان وفرارهاء وكان مؤملاً أن صيغة موسعة من التوافق الوطني في 
مجلس سياسي تمثيلي» يمكن أن تمهد السبيل أمام إنشاء جمعية وطنية قادرة على انتخاب 
حكومة» وكتابة دستور جديد. في هذا النطاق تكشف غزو أفغانستان عن كونه» من 
الناحية الرمزية» أول تجربة كبرى على الأرضء. لاختبار نظريات ما بعد الاستشر 
عن شعوب الشرق المسلم» بإخضاع صوره ورؤاه لامتحان حقيقي وعنيف . 


ولذلك بدت المواجهة بين المحافظين الجددء الذين لعبوا الدور ببراعة لا 
تعوزها الخدع السياسية والحيل الفكرية» ولا المهارات الوظيفية» لوصوم «منظرين 
أفغان» تقع على عاتقهم وحدهم مهمة تخيل «أفغانستان ما بعد اس ستشراقية4» وبين 
حركة طالبان ومن ورائها القاعدة وبين لادن؛ وكأما صراع مكشوف ومعاد إنتاجه» 
بين شرق قديم بريء وعذري استحوذت عليه روح شيطانية شريرة» وبين غرب ما 
بعد استشراقي» قدم نفسه لخصومه ومؤيديه في صورة غرب ديمقراطي» عائد إلى 
الشرق من جديدء ليحرره من روح إبليس الاستبدادية . بعد سقوط كابول» وأثناء 
التحضير لغزو العراق» استنبط منظرو ما بعد الاستشراق في البنتاغون تعبير 
«لويجر كاه . إنه التعبير المفضل والساحر الذي أمكن اكتشافه» ونفض الغبار عنه من 
ب ركام مات الكلمات لاخر البهمة ا . في هذا الوقت؟ وبينما كان 
الأمريكيون يفتشون عن زعيم قبلي مناسب لقيادة أفغانستان ديمقراطية» كان 
الغرانيز ن ون لمواجهة الغزو الأمريكي» وتشهد بغداد تدابير غير الاستعداد 
للحرب» بينما كان المعارضون العراقيون يوحدون صفوفهم في مؤتمر لندن (منتصف 
تشرين الثاني/ نوفمبر) وينبثق عن اجتماعهم تحالف عريض يضم الأحزاب الشيعية 
والليبراليين والعلمانيين. 

إلى الشمال من فنيسيا الخيالية» كانت هناك صورة موازية: الأكراد. إنهم 
يتعرضون لحرب إبادة بالسلاح الكيماوي على يد صدام حسين وجيشه . لقد توافرت 
لدى العالم كله عشية الغزو الأمريكي للعراق» بفضل هذا النشر المنظم للصور 
الاستشراقية» قضيتان رومانسيتان: الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال. إذا ما 
عدنا قليلاً إلى الوراءء ما يقرب من عام واحد فقطء. قبل انطلاق حملة بوش العسكرية 
وأثناء التحضير المستمر للغزوء فسوف ثلاحظ كيف أن الإدارة الأمريكية وجنرالات 
البنتاغون كانوا يتخيلون العراق بالفعل في صورة وهيئة أفغانستان أخرى» لها 
الظروف نفسهاء وفيها العوامل ذاتها؛ وذلك حين راحوا يتحدثون من دون توقف 


1۲ 


عن وجود تحالف شمال عراقي كردي في المقام الأول» مماثئل لتحالف الشمال 
الأفغاني» يمكنه أن يؤدي المهمة المطلوبة منه في أي غزو خارجي من خلال الزحف 
على معاقل طالبان العراقية . 1 1 

بيد أن المنظرين الأفغان فى البنتاغون ومعاهد ما بعد الاستشراق» سرعان ما 
استفاقوا من نشوة هذا الخيال حين تبين لهم أن الليشيات الكردية غير قابلة للتتخيل 
في صورة تحالف شماليء > نظراً إلى الظروف المعقدة هناك ؛ وأن الاقتتال المستمر بين 
الزعيمين الكرديين البارزاني والطالباني من جهة» وقوة» أو قدرة النظام المركزي في 


بغداد على صد مثل هذا الهجوم. من جهة أخرى تحول دون تصوره بوصفه تحالف 
شمال عراقي مقابل لتحالف شمال أفغاني. 


وهكذا حلت في وقت مبكر من عمليات التحضير للغزو» صورة قبائل أوزبكية 
وطاجيكية مُتخيلة في شمال العراق» محل المليشيات الكردية وبعض الأحزاب 
والتجمعات التركمانية» بينما حلت قبائل البشتون الأفغانية محل القبائل البدوية 
العراقية» التي يُرعم أن نظام صدام حسين يعتمد عليها غرب كركوك› ولكنها مع 
ذلك ولأسباب ودوافع كثيرة» يمكن أن تكون حليفاً مثالياً للأمريكيين مع أول طلقات 
الحرب +0 يكن غيل التراق عل هذا الحو وليد تورات عابرة؟ بل على الأرجح 
كان نتاج وثمرة عمل شاق قام فيه منظرو ما بعد الاستشر شراق . ما إن بدأ الغزو حتى 
أصبحت إيران لاعباً قوياً في العراق الجديد» من خلال قيامها بدور مزدوج» فهي من 
جهة تدعم تيارين شيعيين متحالفين مع الاحتلالء هما تيار حزب الدعوة بقيادة 
إبراهيم الجعفري؛ والمجلس الإسلامي الأعل بقيادة الشكيم؛ بل وتجاهر بضرورة 
التعامل معه مثلما دعمت» في مراحل تالية» وجود قوى شيعية في مجلس الحكم على 
جاتن ا الطالا ف كانت إيزان سن جهة 4 أرلودؤلة ترف بالجلن 
ود قبل ممثليه””*2 ومن جهة أخرى كانت تقوم بفرض وجودها وتكريسه في الحياة 
اليومية والسياسية داخل العراق» عبر التغلغل في مؤسساته الحديدة وبخاصة الأمنية 
منهاء فارضة سيطرة شبه مطلقة على مفاصل أساسية في تركيبة الحكم . ترافق كل هذا 


(41) في ١7‏ تموز/ يوليو ۲٠٠۳‏ أقامت سلطة التحالف المؤقتة + مجلس الحكم المؤقت وقرأ محمد بحر 

العلوم عضو المجلس بياناً في ذلك اليوم» أعلن فيه الأول مزة أن الناسع من نيسان/ أبريل عو عيد وي بديلاً 
عن الرابع عشر من تموز/ يوليو ذكرى الثورة الوطنية عام /198. 

(45) أفضل نموذج لهذا الدعم تصريح آية الله تسخيري ممثل مرشد الجمهورية الإيرانية الإسلامية في 
النجف» عندما دعا إلى «دستور إسلامي» مؤكداً أن «المرجعية الشيعية تعرف مسؤوليتها». وفي كلمة ألقاها 
حجري في E‏ + جات 00 «أمامكم مرحلة كتابة دستور إسلامي والحوزة العلمية 
تنعرف مسؤوليتها». انظر : الحياق ۰۰۳/۱۱/۳۰ 


1۳ 


مع استخدام لغة سياسية مرائية تندد بالاحتلال» وتدعو إلى انسحاب الأمريكيين من 
العراق . هذا الاستغلال المزدوج للوضع› أدى سريعاً إلى نتائج لم تكن في الحسبان» 
من بينها اضطرار الإيرانيين إلى تملق الأمريكيين في سياساتهم المعلنة . وهذا ما يعبر عنه 
ببلاغة » خطاب الرئيس الإيراني محمد خاتمى» بعد ظهور أولى علامات المقاومة عندما 
قال عبارته الشهيرة: إن هذه الأعمال هي من صنع إرهابيين»© 4 , 


كان الرئيس خاتمي أول زعيم مسلم يجاهر علنء بتوصيف مقاومة الأمريكيين 
بأنها إرهاب . ولذاء برزت إيران إلى واجهة المسرح العراقي» كأول بلد مسلم يعترف 
بمجلس الحكم المؤقت الذي نصبه الأمريكيون. واحدة من التكتيكات التي اتبعها 
الإيرانيون» كانت التلويح بورقة مساهمة إيران في مكافحة الإرهاب» واستعدادها 
للسير في هذه الحرب العالمية» وذلك من خلال القول إن لدى طهران غنيمة حصلت 
عليها من جراء إلقاء القبض على شبكة إرهابية من نحو خمسمئة إسلاميء كانوا قد 
فروا من أفغانستان مع أسرهم ووقعوا في فخ البوليس على الحدود. وطوال أشهر من 
حزيران/ يونيو حتى تشرين الثاني/ نوفمبر ۲۰۰۳ ظلت طهران تساوم الأمريكيين على 
هذه الغنيمة من دون جدوى. ويبدو أن تسريبات طهران عن وجود الظواهري 
وسليمان أبو غيث» وهما من ابرز قادة القاعدة في قبضتها أذّى» وبالضد غا أرادت» 
١‏ دوراً كبيراً في تعزيز ودعم مُنطلقات الخطاب الأمريكي عن دور ما للقاعدة وابن لادن 
في المقاومة العراقية . حقيقة الأمر أن الذين ألقي القبض عليهم على الحدود الأفغانية - 
الإيرانية لم يكونوا متوجهين إلى العراق للقتالء بل كانوا بقايا أسر وعائلات عربية 
فرّت من أفغانستان أثناء الحرب» وانقطعت بها السُبل على الحدود مع إيران. 


لقد قادهم سوء الطالع إلى خفر حدودي إيراني ليباعوا هناك أو يُساوم عليهم في 
إطار صفقة؛ تشمل إضفاء صورة الإرهاب على العراق المحتل . وحين لعبت طهران 
ورقة هؤلاء. ولوحت بمساهمتها الجدية في مكافحة الإرهاب» فإنهالم تكن تفعل 
شيئاً في الواقع سوى المساهمة في نشر أساطير ما بعد الا ستشراق عن تسلل الإرهابيين 
إلى العراق كسبب وحيد لاندلاع المقاومة كانت وك SEE SE‏ شيعه د كردي 
في المناطق السنية بحجة مكافحة الإرهاب» مُصممة في الأصل من أجل مناورات 
إيرانية تالية ؛ إذ يمكن لإيران من خلال حضورها السياسي والعسكري عبر هذه 
الليشيات» أن تلعب الورقة العراقية بمرونة أكبر في مواجهة الضغوط الأمريكية عل 


)٤٤(‏ أعرب الرئيس الإيراني محمد خاتمي لدى استقباله رئيس مجلس الحكم الانتقالي جلال الطالباني 
والوفد المرافق عن هذا الموقف وكان استقبال الطالباني في طهران دليلاً قوياً على اعتراف إيران بالمجلس. انظر: 
الباق ۸/۱۸ ۲۰۰۳/۱۱ 


1٤ 


برناجها النووي . وا مثير للعجب» حقاً» أن المجلس الأعلى وحزب الدعوة» وبعض 
الجماعات الأخرى المتواطئة مع الاحتلال» سارعت جميعاً إلى تسيير تظاهرات هزيلة 
في بغداد في الخامس من کانون الثاني/ يناير من العام نفسهء تندد بالمقاومة وتنعتها 
بالإرهاب . كل هذا يعني أن إيران حبذت» أو دعمت» عملياً» بشكل غير مباشر 
أفغنة العراق . 


١‏ - البحث عن عامل خارجي 


إذا ما عاد المرء إلى الوراء قليلاء وقبيل الغزو الأمريكى للعراق بقليل» فسوف 
يُلاحظ أن السيناريوهات الأفغانية التي وضعت له» كانت متنوعة للغاية» غنية 
ويمكن أن تُعتمد كأمثولة عن الاستخدام المفرط. وحتى غير العقلاني» لقوة الدولة 
العظمى وجبروتها ضد بلد «شرقي» ضعيف . هذه المفارقة الدامية التي يتعاظم فيها 
الشعور بكلفة «التحرير؟ المنشود» ستغدوء إذا ما غاد المرء بذاكرته إلى ما يمائل هذه 
اللحظة في التاريخ الكولونياليء ذات طابع مروع إلى النهاية . كان الحديث يجري عبر 
التسريبات» أحياناًء ومن خلال إطلاق التهديدات فى غالب الأحيان» عن كثافة 
نيران هائلة» وأعداد من الجنود تفوق الخيال» وعن مشاركة واسعة من «تحالف» دولي 
سوف يُستخدم للتغطية وإضفاء «مشروعية على القوة». 


كل الوثائق والبيانات والأفكار والتصورات» تقريباًء عن شكل الغزو وتوقيته 
وظروف تنفيذه» بدت مصممة لمعالجة الموضوع العراقي من منظور أفغاني صرف . 
حتى أسلوب القصف الجوي» ونوع القاذفات والقنابل التي ستستخدم» كانت تمثل 
امتداداً للأسلوب الأفغاني من الزاوية الحربية . البي ٥۲‏ العملاقة» والتي تستطيع 
التحليق لساعات طويلة ومن دون توقف» وبحمولة هائلة من قنابل» بعضها زنة 
عشرة طن؛ حيث روع الأفغان وهم يشاهدونها تتساقط وتترك أخاديد غائرة 
وعميقة في صخور وادي «خيبر»» كانت جاهزة للانطلاق صوب بغداد. سائر 
الخطط الحربية» بعد تجربة كابول» عالجت المشكلة العراقية كمشكلة أفغانية من 
المنظور العسكري الصرف . وكان الجنرالات مثلهم مثل الساسةء يتصرفون وفقاً 
لخبرتهم في بلد آخر وعلى أساس وحيد» هو التماثل بين حالتين وبلدين إسلاميين. 
ولذلك تُظر إلى المقاومة فى العراق وكأنها مجرد امتداد لمقاومة أخرى» تقودها طالبان 
وشبكات القاعدة. إنباء على وجه الدقة مزيج من بقايا طالبان وفلول القاعدة (يقابلها 
فلول البعث وبقايا أنصار صدام حسين). ليس مُصادفة أيضاً أن المقاربة الأمريكية 
للمشكلة العراقية ظلت تركز على فكرة البحث عن كرزاي (قرضاي) عراقي؛ مماثل 
لكرزاي أفغانستان. وعن لويجركا عراقية يمكن تشكيلها بحيث تكون ماثلة للويجركا 


10 


الأفغانية. أي على محاولة استنساخ كرزاي وتقديم طبعة عراقية منه تكون مقبولة من 
القبائل والعشائر؛ بل إن اختيار الحاكم المدني للعراق بول بريمر ا متخصص بمكافحة 
الإرهاب» والذي يعمل ضمن طاقم الخارجية الأمريكية» ولكن بالتنسيق مع 
البنتاغون» يحمل أكثر من دلالة في نطاق هذه الفكرة. 


إن اختيار حاكم للعراق مُتتخصص بمكافحة الإرهاب» يُبرهن على أن أفغنة 
العراق كانت لب السياسة الأمريكية» وأن العسكريين الأمريكيين المتتصرين في كابول 
كانوا يندفعون بكل زهو صوب إعادة إنتاج انتصارهم في بخدادء وبالأسلوب نفسه» 
والنظر إلى العراق كله كتموذج استطرادي للمسخعمرة الأثيرة عل قلوبيم : إمارة نفطية 
مترامية الأطراف تعج بقبائل أعماها الإسلام عن رؤية قيم الأمة الأمريكية. هذه 
الأفغنة لم تكن» قط› نتيجة خطأ سياسي» أو تشيجة تسرع في إطلاق الأحكام 
والتصوراتء أو سوء تقدير عسكري؛ وإنما بدرجة أوضح بكثير من ذلك» 


استراتيجية بعيدة المدى» تضرب بجذورها عميقاً في تر خطات استعماري قدي اید 
إنتاجهى ليتلاءم مع وظائف السياسة في عصر ما بعد الاستشر شراق . واحدة من هذه 
الوظائف تكمن في محاولة جعل البلد المحتل قابلا للانفصال الرمزي عن بيئته 
التاريخية» وعن محيطه الثقافي التقليدي . تفكيك مادته الصمغية «الخارجية؛ أي روابطه 
القومية العروبية» بعد تفكيك مادته الصمغية «الداخلية» أي تكوينه الاجتماعي 
ونسيجه الثقافي المحلي» وذلك». ما يمهد إلى إعادة تشكيله في المخيلة العربية- 
الإسلامية على أساس أنه امتداد ثقافي» وفكري اول لد فر ري . إنه حيط 
موبوء بالتطرف الإسلامي وشبكات الإرهاب» وهو إلى هذا كله المصدر الوحيد لتدفق 
الغرياء والأجانب» وتسللهم عبر الحدود (التي أبقيت مفتوحة قصداً وعمداً بقرار 
أمريكي بعد قرار بريمر حل قوة حرس الحدود لتسهيل تدفق اليهود عبر الأردن) . 


لقد أصبح العراق بلداً آخر بفضل الترويج غير المنقطع لفكرة وجود شبكات 
إرهابية فيه؛ وتحوله إلى ساحة مواجهة رئيسة وعالمية جديدة ضد الإرهاب بحسب 

تعبير الرئيس بوش . لم يعد العراق هو العراق» كما لم تعد المشكلة فيه مشكلة وجود 
أسلحة التدمير الشامل» أو مشكلة استبداد سياسي . منذ الآن سوف يصبح أفغانستان 
أخرى» هي امتداد طبيعي - جغرافي وسياسي وديني وأخلاقي وثقافي لعالم العرب. 
والحرب فيه» طبقاً لهذا التصور» ستجري ضد العدو نفسه من أجل استكمال الأفغنة 
بواسطة العنف . ولكن؛ ولمواجهة متطلبات الحرب الكونية ضد الإرهاب» فقد شرع 
منظرو الحرب على العراق وكتاب الصحف الأمريكية (نيويورك تايمز والواشنطن 
بوست وكريستيان ساينس مونیتر) وحتى في صحف عربية لندنية يكتب فيها كتاب 
كويتيون وعراقيون مُغرمون بموضوع الإرهاب؛ في نشر سلسلة مبتذلة من الأفكار 


۲1٦ 


والمعلومات المغلوطة والمفبركةء التي تحدد الجبهة الجديدة للحرب في العالم. حتى 
ا لخطاب السياسي الذي اعتمده مجلس الحكم الانتقالي» بات ينطلق من هذا در 
افرط إنه لد و اقات ولش جما أن عفن القن والسماسين 
العراقيين الذين عاشوا نصف أعمارهم في سوريا كلاجئين» وحصلوا خلال إقامتهم 
في دمشق على تسهيلات وأموال؛ سارعوا إلى زيارة الكويت في السادس من كانون 
الثاني/ يناير ۲٠٠۳‏ للمشاركة في ندوة مكرسة لبحث ما دعي بالإرهاب المتسلل إلى 
العراق من الجيران» حيث جرى في هذا التاريخ» توجيه أول اتهام شبه رسمي 
لسوريا. وبالفعل فقد أصدر المثقفون المشاركون في الندوة بياناً يطالبون فيه العرب 
(العرب بإطلاق وليس بلداً بعينه) ضبط حدودهم ومنع المتسللين منها؛ في إشارة 
واضحة إلى سوريا. وفي كانون الثاني/ يناير أيضاً وبعد أشهر فقط من الاحتلال» 
كانت صورة المقاومة تتبلور في أذهان كثرة من السياسيين والمثقفين العراقيين» وكثرة 

من أقرانهم العرب» كصورة أعمال عدوانية موجهة ضد الأمريكيين المحررين» وهي 
أعمال تتضمن تخريب المرافق العامة كهدف وحيد لها. إنها أعمال وحشية ومن تدبير 
إرهابيين أجانب . في هذا الوقت بدأ تعبير «الإرهابيون الأجانب» يغزو الضحافة 
ووسائل الإعلام في العالم كله . لقد وضع منظرو عصر ما بعد الاستشراق التعريف 
التالي : ما يجري في العراق ماثل لما يجري في أفغانستان؛ أعمال إرهابية من تدبير 
مقاتلين أجانب.. هذا التعريف الذي كرره الرئيس بوشن فى سلسلة من خطبه 
المتتابعة» خلال الأشهر الستة الأول من سقوط بغدادء وتوجها بالخطاب الذي ألقاه 
خلال زيارته بريطانيا في ١4‏ تشرين الثاني/ نوفمبر؛ هو التعريف نفسه الذي سبق 
للمعارضين العراقيين أن قاموا بتقديم نسخة مُطابقة منه في الصحف والفضائيات 
العربية. المثير للاهتمام» في إطار هذا التماثل أن المعارضين العراقيين باتوا 
يستخدمون التعبير نفسه مع طاقم كامل من المفردات والتنويعات المتشابهة . 

ما بعد الاسد ستشراق يعني أن يُنظر إلى الغزو الخارجي بوصفه تحريراء وأن يجري 
بدلاً من مقاومتهء رؤية «خطر خارجي» آخر» بديل هو خطر «المتسللين من وراء 
الحدودة ران الببحث عن امل يخارجي لتبرير الخو اطعا في قوته التخيلية, 
وذلك ما سوف نراه ذ في الفصل القادم . 


1¥ 


الفصل الساوس 


أساطير ما بعد الاستشراق 


«بدا لي العرب » حينما رأيتهم» طوال القامة» ول وأنب مأبقوا أفواههم مغلقة دوما لا دل 

شيء لديهم عل الوحشية . بيد أنهم ما أن يبداوا الكلام حت ى تسم ع له ملغة صاخبة 
ومافوظة بملء النفس وتلحظ أسناناً طويلة» . 

فرانسوا دو شاتويريان17) 

1۸۰۳ 


«كانت عظمة الشهد البدائية حيلنا إلى الصو ر التوراتية » وتعود بنا من غير وعي منا إلى 
الشاهد البطريركية لأيام العا مالأ و ى . إنب مالبدو الرعاة» وه مأول من التقيناهم. . 
الطريق التي سلكناها هي خار ج السا ر العتاد للرحلة ؛ ومن الناد رأن يم رالأوروبيون 
فيها . كانت لهم عيون من نار وأسنان ييض مث ل العاج. وحدما حي ي الوجوه الشاحبة 
النحيفة من جراء ا حرمان» . 


(CD . 6‏ 
أوجين مليشيور دو فوغويه 


(رحلة إلى بلاد الماضي )1١41/١‏ 


مثلما كانت للاستشراق أساطيره اللذيذة عن «الخوف من البدو» ذوي الأسئان 
الطويلة اللامعة» المتوحشين والبدائيين بصورة لا توصف» التى أنتجها خيال عشرات 
الشعراء الرحالة والمستكشفين والضباط الكولونياليين» ممن كانوا يتأهبون للحظة 
الانقضاض على الشرق؛ أثناء قيامهم بما يشبه عمليات مسح ميداني شامل للأرض 
العربية» حيث قطعوا خلالها الصحراءء وجابوا البوادي في العراق والشام ومصر› 
طوال القرنين السابع عشر والثامن عشرء ثم عشية الحرب العالمية الأولى؛ فقد كانت 
لما بعد الاستشراق أساطيره اللذيذة الخاصة هو الآخرء ولكن المماثلة والممتعة إلى حد 


)١(‏ فرانسوا دو شاتوبريان» نقلاً عن : مي عبد الكريم حمودء تائهون ن في صحراء الإسلام : : صورة 
الصحراء العربية في كتابات الرحالة والمستشرقين الفرنسيين (دمشق : الأهالي للطباعة والنشر» .)5٠07‏ 
(۲) نقلاً عن: المصدر نفسه. 


۰ 


كبير من حيث درجة تلذذ. متلقيها من الغربيين» «بقصص البدو أنفسهم الذين 
يقتلون الإنسان لمجرد الاعتقادء خطأء أن أزراره الصفراء هي أزرار من ذهب" . 
ثمة صناعة في الحالتين للأساطير؛ ولكن الفارق الأكثر جوهرية في هذه الصناعة 
المتواصلة منذ عصر الفتوحات الاستعمارية» هو أن ما بعد الاسة ستشراق يركزء بطريقة 
مختلفة» تمامأء لا على «العيون التي تتوهج كالنار؛ ولا على «الأسنان الطويلة» للبدو؛ 
بل على الطابع الاستثنائي للعنف المختزن في أعماق الشرق أوسطيين ين ذوي الشعر 
الأسود واللحى الطويلة . هذه الصور سوف تهد السبيل أمام تخيل هؤلاء في صورة 
إسلاميين متطرفين» هدد خطرهم العالم كله . وبدلاً من التحديق وإمعان النظر في 
الأسنان الطويلة للبدو» سوف يحدق ما بعد الاستشراق» ويتأمل في «اللحى الطريلة» 
والثياب القصيرة لهؤلاء الوهابيين الجدد . 


لقد حلت رمزية جديدة للبدوي محل رمزية الأسنان الطويلة» التى أنزلت فى 
الاضي الرعب في قلوب الرحالة والمستشرقين الأوائل . إنه بدوي جديد ممتلك للحية 
كثة» غير مهذبة» وطويلة› ويرتدي ثياباً تة تقصر عن الركبة بضعة سنتيمترات . 
وبالطبع يمكن للأسنانء رمزياً» أن تحيل الناظر أو متلقي الأسطورة إلى نمط من» 
حيْوَنّة؛ للإنسان المجرد للحط من آدميته الطبيعية بتحويله إلى «حيوان» كاسر؛ ذئب أو 
ما يشبه الذئب» فيما يمكن لصورة أخرى موازية يظهر فيها البدوي نفسه» في صورة 
رجل له لحية طويلة وكثة أن تؤدي غرض إعادته إلى البدائية الأولى» وإرغامه على 
النكوص» في أعين مشاهديه» عن حالته الآدمية» إلى حالة ما قبل مجتمعية. إنه 
شخص بدائي» ينتمي إلى طور ما قبل المجتمع البشري عل هذا ع ل 
جديد من منتجي الأساطير» وفي سياق تطوير واستكمال مهمة الا ستشراق القديم 
عبر نقله نهائياً إلى عصر ما بعد ا ستشراق» يقبلون بنهم على كل خبرء ويتلقفون كل 
بلاغ عن جماعات إرهابية من ذوي اللحى؛ تستعد لعمل شرير ضد مدنية الغرب. 
هذه الجماعات المصورة كما لو أن كل عملها هو أن تدرب انتحاريين على الموت» 
ومن دون أي هدف يستحق تى التضحية› وطوال الوقت ومن دون توقف؛ ليست سوى 
جماعات من المسلحين والمتمردين الذين قرروا القتال حتى الموت من أجل إعادة عجلة 
التاريخ إلى الوراء في العراق» بحسب قول الرئيس الأمريكي بعد التاسع من أيار/ 


(۳) اتظر : نصوص فلوبير ولامارتين ولوق وفوغويه وشاتوبريان وغيرهم » في: المصدر نفسه ٠‏ وجودي 
مايروء حقائق غاثبة خلف الحجاب: تصورات الرحالة الغربيين عن النساء في الشرق الأوسط. ترجمة وتحقيق 
معين الإمام (دمشق : دار نون للدراسات والنشر والتوزيع ؛ 1۹4¥(. 

e هذه الصورة النمطية الشائعة اراي ا رياط الحددة عمل حجان بعشو‎ )٤( 
في العراق.‎ 


۲1 


مايو ۲٠٠۳‏ حين ظهرت أولى الإشارات عن مقاومة عنيفة في بغداد. وبالطبع من 
أجل تدمير عملية السلام في فلسطينء » كما قال الأمريكيون في ما بعد» أي من أجل 
الإرهاب مجرداً من أي بواعث» أو أسباب» في مصر والكويت والسعودية والمغرب . 
وهذه صورة نموذجية لأغرب نوع من أنواع القتال يمكن للمرء أن يسمع عنه؛ إذ لم 
يحدث أن قاتل إنسان من أجل أهداف خيالية» أو لا معنى لهاء فالبشر لا يقاتلون 
حتى الموت إلا من أجل أهداف واضحة ومصيرية» ومهما كان رأينا فيها. على الأقل 
لا بد من أهداف للقتال حتى الموت» حتى تكون جذابة أو مقبولة وذات طابع شعبي 
كما الحال مع عمليات الاستشهاد في العراق وفلسطين. 


هذه الأساطيرء م تنتجها شعوب وماعات بدائية انيئة؛ بحسب تعبير كليود 
الموصوفة بالبدائية والتخلف وغير الديمقراطية في كتابات ما بعد الاستشر تشراق» 
والتي لا تزال تعيش تاريخها داخل عقل أسطوري مغلق ولم تتمكن» > كما توهم 
الأنشروبولوجيون الكلاسيكيون من تخطي مرحلة الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة 
مهما حاولت؛ يقوم بإنتاجها صحافيون وإعلاميون ومعدو برامج وكتاب 
افتتاحيات في كبريات الصحف الغربية» ويساهم فيها جامعو معلومات يتعاونون 
مع البنتاغون» و«انثروبولوجيون جدد» يكتبون عن الشرق القديم› بینما هم 
يتبادلون النكات الساخرة وراء طاولاات مكاتبهم عن «اليدو المتوحشين» ذ في الشرق 
الأوسط . واحدة من هذه الأساطير اللذيذة التي يسردها ما بعد الاستشر اق» 
تتصل» بشكل عضوي» بالعراق. ولنقل أن العراق كان موضوعها الأثير استباقاً 
لغزوهء أو تمهيداً للاستيلاء عليه . 


تقول الأسطورة كما سردتها كريستيان ساينس مونيتر الأمريكية وذي صن 
البريطانية وطوال سنتين من الاحتلال؛ إن إغراء بن لادن في أوساط الشباب المسلم 
والمتعصب في هذا البلد لا يقاوم . فالحماعات المسلحة هناك» ترتبط فيه › وهي باتت 

من القوة والنفوذ بحيث أنها تستطيع التحرك» بسهولة» وسط السكان: كما لوآنا 
شبح . . من مكان إلى مكان» إذاء وعبوة ناسفة على أثر عبوة أخرى » وانتحاري نون 
يعدا توا ال 
ذلك إلى التساؤل : هل قا نجم ظهور اقاعدة اقاي عن الغزو الأمريكي للعراق» 
أم أنهبا كانت موجودة هناك قبل سقوط بغداد؟ تنتسب تنتسب أسطورة القاعدة كما جرى 
تداولها على نطاق واسع منذ غزو العراق» بوصفها القوة الْنظمة الوحيدة القادرة على 
تدبير هجمات منسقة وناجحة ضد قوات الاحتلال؛ إلى المخيال السياسي والثقافي 


Y۲ 


الاستشراقي القديم بأكثر مما تنتسب إلى مخيال سياسى وثقافى ما بعد استشراقی . 


وهذا مصدر آخر من مصادر الالتباس والمفارقة فى خطاب النخب العربية التى 
انساقت وراء الأسطورة» وراحت تعيد إنتاجهاء محلياًء فى الصحف العربية "٠ء‏ بيد 
أن أسطورة القاعدة في العراق تعيد إلى الأذهان» مع ذلك» الطريقة التي تخيل فيها 
الاستشراق الشرق منذ مطالع القرن الماضي؛ وباستخدام تعبير ادوارد سعيد» الطريقة 
التي تمت فيها عملية شزقنته . لكنها من طرف مواز تثير وبشكل متلازم؛ ما هو أبعد 
من الإطار الافتراضى الذي نضعه هناء وذلك ما تمكن ملاحظته عند أول محاولة 
لاختبار هذه الَشْرقّنة . ثمة إشكاليتان في هذا النطاق . 


الأولى: وتتصل بالسرد الجديد لأسطورة الخوف القديم من البدو ذوي الأسنان 
الطويلة. لقد اكتسبت هذه الأسطورة شعبيتها فى الماضى» ومن خلال كتابات 
الرحالة والمستشرقين الأوائل منذ عام ١٠1۸ء‏ من قدرة السرد الاستشراقي 
الكلاسيكي على إضفاء أجواء شبه توراتية في الغالب على مشاهدات الشرق» وذلك 
باستخدام منظورات سحرية وغامضة ذات طبيعة شعرية في الغالب» وبحيث يظهر 
البدو كمجموعة من العرب المتوحشين الجاهزين والمستعدين للقتل . 


هذا التحفيز الخيالي للقتل ولارتكاب الجريمة» ومن دون أي بواعث حقيقية 
كالدفاع عن النفس أو الخوف الغريزي عند الطرف الآخر؛ شكلت الأساس المتين 
لفوبيا ما بعد الاستشراق» التي تكاد تطغى اليوم في وسائل الإعلام. ولكن» لئن 
تحولت أسطورة «البدو ذوي اللحى الطويلة» إلى ما يشبه أسطورة جديدة عن العدو 
نفسه» القديم والأزليء الثابت والنمطي؛؟ فإن التحول الأهم سوف يتجلى في هذه 
الحالة» لا في الصور النمطية وحسب. وإنما كذلك في شكل السرد وأسلوب بناء 
القصص الجديدة عن الشرق. ولأنه سرد جديد ينتسب إلى تقاليد حديثة» وإلى 
تقنيات قادرة على الإيحاء بأنها تمثل. من منظور شكلاني» قطيعة مع صور الماضي 
بأسرهء وانتقالاً بها إلى مستوى أكثر تعبيراً عن أبهة الحاضر وحتى حاجاته ووظائفه؛ 


(6) انظر مثلاً: شاكر النابلسي» «الليبراليون السوريون الجدد ينهضونء » موقع رزكار الكردي على 
شبكة الإنترنت» 4/17/ .۲٠٠٤‏ في هذه المقالة يقول النابلسي ما يلي : «التجمع الليبرالي السوري هو من نتائج 
وإيجابيات انبثاق فجر التاسع من نيسان/ أبريل ۲٠٠۳‏ على ضفتي دجلة والفرات» وهو نتيجة انهيار أول وأكبر 
صنم من الأصنام العربية الضخمة:؛ هُبل العراق في بغداد التي جاءت بها الجاهلية الجديدة ‏ حزب البعث- 
وتقوم الآن المرتزقة الدينية والقومجية بمحاولة إعادة الأصنام إلى حيث كانت بعد أن داستها (.. .) الشعب 
العراقي» فجر التاسع من نيسان/ أبريل المجيد». 

(7) وضاح شرارة» «إصابة العراق بالشقاوة وداء العصابة الثورية جعلت منه أرض سباء يحكمها عنف 
مرسل ٠٠‏ الحياةء °۹ 


Y۳ 


فسوف نرى ومن خلال تفكيك ومقاربة المعطيات والصورء وبما يشبه الإحساس 
بالصدمة والذهول حقاًء أنها ليست سوى استكمال وتطوير بأدوات جديدة» للصور 
والسرديّات القديمة ذاتهاء وأن من ينهض بعبئها اليوم» ليس هو بالضبط ما بعد 
استشراق حقيقي كامل الأدوات؛ بل استشراق كلاسيكي عائش على إرث متآكل 
ومهترئ من قصص وصور الرحالة الأوائل. وهي من حيث مضمونا الحقيقي 
والمباشرء تبدو وكأنها تسير بمحاذاة الصور القديمة المتخيلة» بينما تبدو» من حيث 
تقنيات السرد الحديث وكأنها تقوم على العكس من ذلك» بسرد أكثر تنظيماً وجاذبية 
لما يُعرف «بصناعة الخوف» . 


إن صناعة الخوف واحدة من أكثر وظائف أساطير ما بعد الاستشراق افتضاحاًء 
وهي صناعة رائجة في الإعلام الأمريكي المعاصر وفي مؤلفات جيل من الكتاب 
والمستشرقين الجدد. إن مقالات توماس فريدمان”'' عن العراق.وسوريا وفلسطين» 
تعطى انطباعاً فورياً للمتلقى بأنها مصممة من أجل هذا الغرض: صناعة الخوف. في 
هذا الإطار ليست «القاعدة» سوى شبكات عالمية أخطبوطيةء هائلة القوة» ومؤلفة 
من رجال ذوي لحى طويلة . أما الذين يتجولون في شوارع الغرب سرا أو يتسترون 
على أنفسهم في هيئة «خلايا نائمة٠‏ فليسواء في النهاية سوى مجموعات من المجانين 
الذين لا يتوقفون عن تبديد حضارة ومدنية الغرب بالفناء . هذه المجموعات كما يبين 
الإعلام الغربي يومياً ومن دون توقف» تمكنت بسرعة خارقة من بناء قواعد متنائرة» 
ولكن متماسكة ومترابطة الحلقات مثل المسبحة؛ في العراق والسعودية والكويت 
ومصر ولبنان. إنها نسخة طبق الأصل من قاعدة بن لادن في أفغانستان؛ ولكن 
بتحوير طفيف على أشكال وأنماط اتصالاتهاء تمكنت وبطرق ملتوية من الحصول على 
دعم لوجستي متدفق وغير منقطع » ومن جماعات أخرى شبحيّة تعمل خارج الحدود» 
ولديبا فوق ذلك خزان هائل من الانتحاريين الجاهزين على الدوام للقيام بما يطلب 
e‏ 

تلقفت النخب العربية هذه الأسطورة كما سردها صحافيو وسياسيو غرب ما 
بعد الاستشراق» وقامت» على غرار ما فعلت النخب الغربية والأمريكية» بتنظيم 
نفسها جيداً للدفاع عن صدقية هذه الأساطير» بوجه المشككين والمصدومين» وحتى 
المتحفظين إزاء حدود ودرجة الواقعية فيها. لقد تلقفتهاء لا بوصفها أسطورتها 


(۷) في مقالته الوقحة «قواعد حماة» يمكن للقارئ أن يستنتج بسهولة أنها مكتوبة لغرض وحيد هو إنزال 
الرعب في قلوب السوريين. انظر : توماس فريدمان» «قواعد حاق » الاتحاد (الإمارات): 07٠١6 /7/1١8‏ 
صفحة وجهة نظرء نقلاً عن: .17/2/2005 Thomas L. Friedman, «Hama Rules,» New York Times,‏ 


Y٤ 


الخاصة والمفضلة وحسب» وإنما أيضاً بوصفها روايتها هي عن العالم والتاريخ 
والأحداث الراهنةء وليست رواية الغرب الذي استسلمت له. ولذاء راح جيل 
جديد من الكتاب العرب ما بعد الاستشراقيين» في طليعته شاكر النابلسي”* » ينسج 
على منوالها قصصاً مثيرة عن بن لادن والزرقاوي وشبكاتهما المخيفة في العالم العربي» 
وترى إليهما باعتبارهما بدويين ممائلين لذوي «الأسنان الطويلة»؛ الذين سبق للرحالة 
أن صادفوهم في الطرقات. أحد هذين الرجلين» بن لادنء القادم من صحراء شبه 
الجزيرة العربية» أما الآخرء الزرقاوي» فقادم من بوادي الأردن وتحديداً من منطقة 
الزرقاء . كلاهما من البدو ذوي الأسنان الطويلة . إن صورة الصحراء العربية كمصدر 
للخوف الغربي من الشرق» لا تكاد تفارق هذا التخيل الجديد. ولذلك جرى 
بانتظام» وطوال قرون من العداء الْبطن والخفي والمتواصل بأشكال مختلفة في 
الراسب الثقافي» إنتاج صور نمطية مماثلة» ولكن أكثر عنفواناً وإثارة. لقد تحولت 
الحرب على الإرهاب إلى ما يشبه عقيدة كبرى» أو إلى ما يشبه أيديولوجياء أو حتى 
إلى ما يشبه الدين الجديد. 


الثانية: وتتصل بإشكالية وعي الآخر هذه الحرب. إن السرد الصاخب 
لأسطورة الحرب على الإرهاب» في وسائل الإعلام» الصحف والفضائيات 
وشبكات الإنترنت» يحفز»ء باستمرار» على رؤيتها كرواية مصنعةء ولا تخلو من 
التلفيق والتزوير. وبالنسبة للعربي المسلم؛ فإن هذه الحرب لا تعني شيئاً آخر في 
وعيه كمسلم» أكثر من حرب على الإسلام. هاتان الإشكاليتان كانتا متلازمتين 
بشكل وثيق مع نشوء الأساطير الجديدة» التي تجتاح العالم اليوم عن الإرهاب 
الإسلامي» وأصبح الخوف القديم نفسه مصدراً لخوف جديد, مولداً لخوف آخرء 
وفي الآن ذاته مصدراً لأساطير جديدة عن الإسلام والمسلمين والعرب. بذلك 
تكون الصحراء العربية قد عادت لتسترد في الخيال الغربي صورتا الأثيرة مرة 
أخرىء لا بوصفها فضاءً رومانسياً يلهب المشاعر والأحاسيس الدينية» بحيث 
يمكن رؤية عالم التوراة شاخصاً هناك؛ بل كمكان مخيف تنبشق منه صور القتلة 
والمجرمين الطائشين أيضاً. 

عندما كانت الكونتيسة دو غاسباران تكتب في يوميات رحلة إلى بلاد الشرق - 
الجزء الثالث عام ۱۸4۸ عن العرب الذين «كانوا يجلسون القرفصاء وهم يمسكون 


(۸) في مقالته الصاخبة عن الليبراليين الجدد في سورية» يحبي النابلسي منتجي هذه الأساطير» وينسج 
على منوالهم أساطيره ما بعد الاستشراقية» انظر : النابلسي» «الليبراليون السوريون الجدد ينهضونء؟ وكريم 
مروة» «المعادون للإمبريالية ومستقبل العراق »» طريق الشعب (بغداد)ء اام ٠١‏ 


A 


رؤوسهم بين أيديهم ليحسنوا الإصغاء» كانت عيونهم تلمع وكان كلام المسيح يسقط 
رقراقاً على نفوسهم““ ؛ فإنها كانت تتحدث بالضبط عن هذه الصورة النمطية لمتلقي 
الرواية بالأمس كما اليوم . ها قد عاد الساردون القدامى إلى جمهورهم نفسه» ولكن 
من أجل أن يسردوا عليه من جديد الرواية نفسهاء وهذه المرة بتعديل وتحوير صور 
الأبطال والضحايا . وفي هذا النطاق من الاسترداد شبه الممنهج والمنظمء »؛ يمكن 
للمراقب والباحث أن يستخلصا من معاينة حاذقة لأشكال ووسائل وطرق السرد 
الجديد المتبعة» بعض الأفكار الضرورية عن النتائج المباشرة» حيث «يسقط كلام 
المسيح رقراقا» على نفوس المتلقين العرب تماما كما تخيلتهم الكونتيسة دو غاسباران. 


أولاً: الانتصار الوهمي للأسطورة 


الانطباع الراهن والأكثر طغياناً في وسائل الإعلام» وفي السياسات المتبعة حيال 
الإرهاب الذي بزغ مع الاحتلال الأمر يكي للعراق» سواء في الولايات المتحدة 
الأموركية ا فى ار هنو أن الخرب هل الزوهاب ف اة وأن الانتصار 
فيها حتمي . لقد وضعت الإدارة الأمريكية في لائحة الدول والمنظمات الإرهابية» 
كلء أو معظم الجماعات المسلمة» بينما خلت القائمة في المقابل من اسم أية منظمة 
يهودية متطرفة مثل : كاهانا حي» أو أمناء جبل الهيكل» وما منظمتان عنصريتان» 
يمكن أن تهدد تصرفاتهما الهوجاء بإشعال حرب مدمرة فى الشرق الأوسط»› يسبب 
إصرار قادة المنظمتين على تدمير المسجد الأقصى . لقد ترافق ظهور اللائحة مع تصعيد 
صور نشاط القاعدة ة في العراق بكل ما يلزمه من تخييل يبلغ » في أحيان كثيرة» حداً 
مثيراً حرج بعض المسؤولين والعسكريين الذين ما فتئوا يتحدثون عن تقدم في الحرب . 


في هذا النطاق» ومن أجل دراسة وضع النخب العراقية وردود أفعالها إزاء هذه 
الصورء يمكن الخروج باستتتاج أولي يفيد أن درجة تقبل النخب العراقية فكرة وجود 
شبكات القاعدة فى العراق بعد ثلاثة من الاحتلالاات» وحدود مسؤولية بن لادن 
والزرقاوي› أو الجماعات الإسلامية المتشددة المتسللة من وراء الحدود» عن الهجمات 
النسقة ضد قوات الاحتلال الأمريكي» والتغاضي في الوقت نفسهء عن الحقائق كما 
هي على الأرض مقارنة بالوضع نفسه بالنسبة للعراقيين العاديين» الذين بدت هذه 
الأساطير في أنظارهم بوجه العموم متدنية الصدقيّة. لأنها تسرد الحقائق بطريقة يكاد 
يكون من المستحيل تصديقها؛ لتبدو على العكس مما هو الخال مع الغالبية في المجتمع» 


(4) محمودء تائهون في صحراء الإسلام: صورة الصحراء العربية في كتابات الرحالة والمستشرقين 
الفرنسيين. ص 48. 


هس 


في أعلى درجة من القبول والاهتمام فيها وحتى تصديقها والترويج لهاء فيلاحظ 
المرء» عند التحليلء أن هذا التقبّل المطرد من جانب النخب العراقية السياسية 
والثقافية» ينتج نوعاً من الافتراق بين النخب والجمهور العام في العراق والعالم 
العربي» وهو افتراق لا يني يفاقم شدة العزلة والشك حيال النظرة إلى مجمل الأساطير 
الجديدة التي تجتاح العام . وبينما تميل النخب إلى تصديق أسطورة وجود عدو متسلل 
إرهابي إسلامي» تيل الغالبية من الجمهور العام إلى التحفظ عن درجة المبالغة» وعن 
مستوى التضخيم في صناعة هذه الأسطورة وتقاومها أو حتى تعرض بوظيفتها . 


في الواقع لم يكن هناك حتى بعد مرور أكثر عامين من الاحتلال» استطلاع 
رأي مستقل يحدد بشكل علمي وموضوعي موقف العراقيين من المقاومة . كما لم يكن 
ثمة استطلاع للرأي بشأن المسألة ذاتهاء بعد مرور أشهر عدة من انطلاق أولى أعمال 
المقاومة فى ۳۰ نيسان/ أبريل ۲۰۰۳ أو فى ۳۰ حزيران/ يونيو 5 ٠٠١‏ عندما جرى ما 
يعرف بنقل السلطة إلى العراقيين» وحيث تبلورت أسطورة بن لادن العراقي نهائياً في 
وسائل الإعلام» وانتشرت بكثافة . 


كما لا توجد لدينا استطلاعات رأي مستقلة عن نظرة المواطنين العراقيين إلى 
هذا النوع من الصور النمطية» وما إذا كانوا ينظرون إليها بالطريقة نفسها التي يبشر 
فيها خطاب المنظرين الأفغان في البنتاغون أم لا؟ ومع ذلك» لا يعدم المرء رؤية 
الكثير من البراهين والوقائع التي تقول: إن مستوى تعاطف وتفاعل المواطنين 
العاديين مع فكرة المقاومة كان في تعاظم مستمر» وإن أعداد الذين كانوا ينفعلون. 
بأنبائهاء اليوم» تفوق أعدادهم عما كان عليه الوضع قبل ستة أشهر من الآن. 
ويتضح من سلسلة معطيات» أن المواطن العراقي؛ وبخلاف تصورات النخب» 
يمكنه أن ينسب هذه الهجمات» ومن دون أن تكون لديه المعلومات الكافية 
والتفصيلية» ولا القدرة على التحليل كذلك. إلى النظام السابق وأنصاره ومؤيديه. 
منذ البداية كان السبب بسيطأ للغاية وواضحاً أيضاً: إن ذهن المواطن العراقى» 
وبحكم ثقافته» ينصرف تلقائياً إلى احتمال واقعي أكثر رجحاناً في كفة المقارنة» هو 
أن النظام السابق» ربما يقف وراء الهجمات المنظمة بالفعل» وليس أي طرف آخر. 
بينما لن ينصرف ذهنه إلى احتمال آخرء قد يبدو خيالياًء مثل وجود القاعدة وبن 
لادن. إن معرفته العميقة بالنظام والواقع المعيش» والقوى الحقيقية الموجودة على 
الأرض» وإدراكه العميق والحقيقى أن الحياة السياسية انعدمت كلياً فى العراق طوال 
خمسة وثلاثين عاماًء وأن كل القوى والتيارات» إما تمزقت» أو اختفت من الساحة» 
أو هاجرت؛ هو الذي يدفع به نحو قبول الاحتمال الأول. هذه المعرفة لا تقدم له 
أي معطى آخر؛ فليس ثمة حزب» أو جماعة» أو قوى منظمة» تملك الال والرجال 


YY 


والخبرات القتالية وتدبير المخابئ» بسرعة» سوى حزب البعث الحاكم والدولةء لا 
لشيء إلا لأن الحياة السياسية كانت مفرغة» تمامأء من القوى المنافسة؛ وبالتالي فإن 
ظهور قوی بهذا الحجم يتطلب وقتاً طويلاً 

بيد أن النخب السياسية والثقافية العراقية وعلى الضد من تصورات المواطنين 
العاديينء راحت تواصل إعادة إنتاج أسطورة بن لادن في العراق. ثم باتت 
تستخدم » أو تقوم بإعادة إنتاج مفردات الخطاب الرسمي الأمريكي من دون أدني 
تحفظ . لقد أصبحت أسيرته ورهينة لغته وأساطيره» وغدت ثقافتها مع الوقت› جزءاً 
عضوياً من ثقافته السياسية» ومن رؤاه وتصوراته للواقع . هذا التماهي مع لغة المحتل 
وثقافته ما بعد الاستشراقية؛ والذي حدث في وقت مبكر» حين لم يمض بعد على 
الاحتلال سوى بضعة شهور» يُدلل بعمق على حقيقة أن الاحتلال ليس محض عملية 
استيلاء بالقوة على أراضي وثروات آخرين» بل هو في الجوهر استحواذ على الثقافة . 
وكما لاحظ ادوارد سعيد» بحق في الثقافة والإمبريالية” كن فإن الاستعمار منظوراً 
إليه من زاوية ثقافية صرف» هو انتصار ثقافة قوية على ثقافة أضعف منها. 


تتجلى واحدة من المفارقات المثيرة في التنسيب الخيالي لعمليات المقاومة إلى شبكات 
الإرهاب؛ وتحويلها إلى يحرد أعمال حمقاء ودموية وشريرة» ومن صنع وتدبير متسللين 
أجانب ومقاتلين عرب ومسلمين» في الفكرة التالية : على غرار ما يفعل المحتل» تماما“ 
يقوم عراقيون. وأحزاب وقوى تاريخية يخية » ومثقفون وسياسيون» وعلى نحو أخص الكثير 
من الكتاب اليساريين» من الذين يعملون كمترجمين» أو مستشارين متعاقدين مع 
البنتاغون» بمحو صدام حسين وإحلال بن لادن محله ؛ بينما تحل القاعدة محل حزب 
البعث» ويجري» تلقائياًء في السياق» وضع نظام طالبان محل الدولة العراقية المفككة . 
وبذلك تحول العراق تدريجاً في نظر العراقي البسيط»ء إلى ما يشبه أفغانستان أخرى» أو 
هو امتداد لها بوسائل أخرى . إن رئيسه السابق صدام حسين هو مزيج من بن لادن 
والملا عمرء والنظام السياسي الذي عاش في ظلال أفكاره القومية والاشتراكية خمسة 
وثلاثين عاماً متواصلة ليس نظام حزب البعث؛ بل هو خليط من أفكار طالبان المتزمتة 
وأيديولوجية ميشال عفلق القومية . وبذلك أصبح حزب البعث الحاكم» في الأساطير 
الجديدة» منظمة سرية أصولية شبيهة بالقاعدة» وتحولت مؤسساته الحزبية والرسمية إلى 
فلول من المجرمين والقتلة والإرهابيين. وهذا بالضبط ما يلائم الذهنية الأمريكية 
المُغرمة بالتنميط والتي ترغب» بقوة» في تعميم النموذج الأفغاني. 


)٠١(‏ إدوارد سعيله» الثقافة والإمبرباليةء نقله إل العربية كمال أبو ديب (بيروت: دار الآداب» 
1۹4¥( 


YA 


إن تتبع الطرق والوسائل التي طوّر فيها الأمريكيون أسطورة الإرهاب وبن 

لادن في العراق» تلزمنا العودة إلى الوراء قليلا ع 
الاحتلال؛ فهناك جرت طائفة من الوقائع كان لها تأثير مباشر في بلورة سردية 
جديدة عن العراق . في مطلع شباط/ فبراير ۲٠٠٤‏ غادر الحاكم المدني الأمريكي بول 
مر العران بشكل مفاجى عل ار ادما البيت الات له . كانت عمليات ' 
المقاومة في هذا الوقت قد بلغت مستوى رفيعاً من حيث التنسيق والتنظيم وقوة 
الهجمات . في النصف الأول من الشهر نفسه عاد بريمر من واشنطن ليعلن عن خطة 
جديدة لإدارة البلاد» تولى الإعلان عنها رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني 
عضو مجلس الحكم المؤقت آنذاك الزعيم الكردي جلال الطالباني (ما عرف بخطة 
شباط/ فبراير ')۲۰۰٤‏ . 


كانت الخطة السياسية تقوم في الأصل على التنميط ذاته للعراق : بدلاً من مجلس 
الحكم المؤقت والحكومة المؤقتة» سيقوم مجلس لويجركا عراقي . في هذا الوقت» وعلى 
وجه التحدید» جرى» أول مرة» تداول فكرة تأسيس لويجركا عراقية قوامها رجال 
وقادة القبائل» عل غراز لورکا کابول» تتولى مسؤولية إدارة البلاد؛ بينما كانت 
أسطورة القاعدة د تنتشر بكثافة في وسائل الإعلام . وفي هذا الوقتء أيضاًء انتشر 
تعبير لويجركا الأفغاني بكثافة في وسائل الإعلام الأمريكية عند وصف التطورات 
السياسية في العراق. لا شك في أن الإصرار على دور حوري لرجال القبائل 
والعشائر في العراق في السياسة؛ كان يمثل ومن منظور تاريخي» عصارة وخلاصة 
استلهام التجربة البريطانية في عراق ١108-1911‏ ريدو ان الأم كين اھا 
بشيء من الانتباه» ريماء إلى نتائج التجربة الكولونيالية البريطانية ؛ ولكن من أجل أن 
يستخدموا النموذج الأفغاني بديلا من النموذج الهندي . 


إن روايات الخارجية البريطانية عن تجارب الجيش الهندي - البريطاني» 
ومدوناتها في الهند والعراق وجدت نوعاً من أساس يصلح لرواية جديدة تنتقل 
بالاستشراق السياسي إلى ما بعد استشراق. ولذلك لا تبدو أسطورة القاعدة فى 
العراق انقطاعاً عن النموذج الهندي» أو منفصلة عما كان يدور في كواليس السياسة 


)١١(‏ طبقاً لوثائق مجلس الحكم المؤقت فقد غادر يريمر على عجل من أجل التشاور في صيغة اتفاق 
جديد مع الساسة العراقيين» انظر محضر اللقاء الخاص بهذه الزيارة في الهامش التالي. 

(11) ورد في: محاضر «مجلس الحكم الانتقالي»: إعداد أحمد الحاج هاشم الدفاعي (بيروت: دار 
الطليعةء .)۲٠٠٠‏ وعلى لسان بول بريمر عن هذا الاتفاق ما يلي: «قمنا خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر 
بتنظيم أكثر من SSS ٠‏ بار ماه اينع مايا إن هذا التصريح 
يكشف مبلغ الصعوبة التي واجهها الأمريكيون لتسويق اتفاق الطالباني - بريمر 


4 


الأمريكية. كان المعارضون العراقيون السابقون والإدارة الأمريكية على حد سواء» 
يوجهون طوال سنوات نقداً لاذعاً لسياسات الرئيس صدام حسين» الذي أعطى 
العشائر العراقية الفرص والإمكانيات للقيام بأدوار في السياسة؛ وهناك أطنان من 
الدراسات والمقالات التى كتبها يساريون وعلمانيون ليبراليون» وحتى رجال دين» 
مادتها الرئيسة نقد مساهمة العشائر في السياسة؛ وكلها تندد بخطة صدام حسين هذه 
وتنظر إليها كدليل على رجعية النظام ودرجة استهتاره وتخلفه العقلي. ولكن مع طرح 
خطة اللويجركا العراقية بعد عودة بريمر من واشنطن» أصبح نقاد هذه السياسة بين 
ليلة وضحاها من أعنف المدافعين عن مشاركة العشائر والزج بها في حقل السياسة . 
لقد عادوا إلى تمجيد الحل نفسه الذي لجأ إليه صدام حسين» وباركوا خطة بريمر 
القاضية بإعطاء دور محوري في السياسة للعشائر. 


يؤكد هذا التطور في طريقة تفكير الأمريكيين وفهمهم للموضوع العراقي» على 
وجود بُعد ثقافى حقيقى للأفغنة . كانت التجربة الكولونيالية البريطانية كما نينت 
وقائع التاريخ» تعتمد» إلى حد كبير» على استراتيجية الزج بالقبائل العراقية في الحياة 
السياسية من أجل تهميش أدوار النخب الحديثة السياسية والفكرية. وكانت محاولات 
رئيس الوزراء نوري السعيدء في الثلاثينات من القرن الماضي» المستميتة وشبه اليائسة 
لاستخدام العشائرء في تنظيم تمرد من وراء الكواليس» لغرض إحراج وإسقاط 
حكومات خصومه؛ مجرد استطراد فى الدرس الاستعماري البريطاني . في هذا السياق 
جاءت دعوة بريمر على لسان جلال الطالباني» لتؤكد التحول الدراماتيكي في 
الخطاب الأمريكي» فالاعتماد على رجال القبائل لانتخاب مثلين عنهم في لويجركا 
عراقية» على غرار اللويجركا الأفغانية» سيكون هو الحل المثالي للخروج من أزمة 
مجلس الحكم المؤقت وحكومة المحاصصة الطائفية المنبثقة عنه» و«التخلص من 
الإرهاب». بيد أن المهام الحقيقية لكل من مجلس القبائل والحكومة» لم تكن في 
حقيقتها أكثر من مهمة تغطية الاحتلال والتستر عليه» وذلك ما قاله الطالباني بشيء 
من الصراحة الممزوجة بالحرج الشخصي : ا 

«عندما تبدأ الحكومة القادمة أعمالها بعد نحو عام» ستنتهي مبررات وجود 
قوات التحالف› وهذه الحكومة هي التي ستقوم بالتفاهم على وضعية القوات التي 


سوف تصبح قوات صديقة)"' , 


وذلك ما سبق لبريمر أن كرره في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر ۲٠٠۲۳‏ : 


(17) انظر: المصدر نفسه» وفيه تفصيلات وافية تكشف عن نوع «الثقافة» السياسية التي يملكها 
المعارضون العراقيون المتواطئون مع الغزو. 


° 


«إن القوات الأمريكية ستبقى في العراق بعد نقل السلطة للعراقيين في حزيران/ يونيو 
القادم 5 .67٠١‏ ليس من دون معنى أن كولن باول» وزير الخارجية الأمريكي آنذاك» 
لم يجد ما يقوله تعليقاً على خطة إدارة بوش سوى تأكيد الأمر الصريح التالي : 

«إن إدارة بوش لم تجد في العراق مَنْ تسلمه السلطة كما فعلت في أفغانستان. 
ليس هناك حميد كرزاي في العراق»“"'. 

هذه الأفغنة المتعمدة والمقصودة للعراق» وتصويره كبلد شبيه بأفغانستان؛ 
كامتداد طبيعي وديني وعسكري وثقافي لبلد آخر ومستعمرة أخرى» وعلى غرار ما 
فعل البريطانيون من قبل » هي التي ارتكزت عليها أسطورة القاعدة. بكلام آخرهء لم 
يكن السرد الجديد لأسطورة الخوف من البدو سوى تطوير «للأفغنة. فكما أن في 
أفغانستان إرهابيين من القاعدة ولديها مجلس قبائل «لويجركا»؛ فإن العراق بما هو 
امتداد كولونيالي لأفغانستان» سيكون لديه والحال هذه» الوضع ذاته تقريباً. قبل 
تصريح باول هذا بقليل كان الرئيس الأمريكي في «زيارة دولة» إلى بريطانيا ليلقي 
خطاباً في مجلس العموم البريطاني (النصف الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر) حيث 
وقف هناك قائلاً وبالحرف الواحد: 

«إن القوات الأمريكية في العراق تحقق نجاحات متواصلة في هذا البلد. تحت 
المدارس وعادت الكهرباء والعراقيون نالوا حريتهم» . 


تخيل العراق» على هذا النحوء كبلد من دون مدارس» أو مستشفيات» أو 
كهرباء» أو جسورء وفيه فوق ذلك نساء مُضطهدات› كما سنری تالياً» هو استطراد 
رمزي لتخيل أفغانستان. إنبما بلدان ينتسبان إلى صورة نمطية واحدة؛ مُتماثلان 
للغاية» ويمكن لهما الانصهار في صورة واحدة» أيضاًء هي صورة بلد شديد 
التخلف» تتعرض فيه النساء للتمييز والاضطهاد بسبب العقيدة الإسلامية. لا 
مدارس فيه» ولا كهرباء» ولا جسورء ولا مستشفيات . هذا يعني أن البلد الذي 
كان مُذنباً وتم تجريمه كبلد منتج للسلاح النووي» ولديه زهاء خمسة عشر ألف عالم» 
إنما هو بلد وهمي لا وجود له أو هو تبخر من التاريخ» وحل محله بلد آخر من 
صنع المحررين . إنه» بحق› امتداد ثقافي نموذجي للهند القديمة» كسرة متطايرة من 
شبه القارة الهندية نفسهاء مرة يعود إلى الهند» ومرة أخرى إلى أفغانستان. لقد 
مهدت هذه الصور المتلازمة وبطابعها الاستشراقي» السبيل أمام ظهور أسطورة 
القاعدة وبن لادن» وانتصارها على ما عداها من أساطير» وربما تحولها إلى حقيقة 


.۲۰۰۴/۱۱/۱۸ انظر تصريح كولن باول يوم‎ )١5( 


57١ 


ثابتة من حقائق الواقع السياسي الججديد» فما من محلل سياسي في الصحف العربية إلا 
ووجد نفسه مُنساقاً وراء تحليل أساليب بن لادن في العراق. فجأة ظهر جيل من 
المحللين الاستراتيجيين المتخصصين بأساليب بن لاد في العراق: ومعظم هؤلاء من 
الكتاب المصريين واللبنانيين» الذين راحوا يتفننون في تمليل أساليبه القالية في 
الرمادي» وهيت» وعانة» وكركوك» وبغداد. بذلك تمت اكبر عملية سيطرة على 
سرد التاريخ» وتمكن السارد الكولونيالي الجديد من فرض روايته على الأحداث» 
وأصبح هو السارد الوحيد الذي سوف يصغي «العرب وهم يجلسون القرفصاء 
ويضعون رؤوسهم بين أيديهم» إلى روايته القديمة تعاد على أسماعهم مرة أخرى» 
وعليهم أن يقوموا بتلقيها بنفس درجة البلاهة والاستسلام . 


بيد أن الرواية.عن هذا البلد التعيس هي في النهاية» من صنع الخيال 
الأمريكي وليس الواقع؛ فليس ثمة أساس يمكن انطلاقاً منه تقديم أدلة» على 
وجود مادي وملموس للقاعدة وبن لادن. الأساس الوحيد الذي بُنيت عليه الرواية 
الزائفة بمجملهاء هو الذي اقترحه المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة باقر 
الحكيم وبعضن أفراد المليشيات الشيعية في مدينة الثورة (التي صار اسمها مدينة 
الصدرء أحد اشهر أحزمة الفقر في بغداد) في صباح التاسع من نيسان/ أبريل يوم 
سقوط بغداد؛ عندما أعلو تعن إلقاء القبض على إسلاميين من سورياء كانواء كما 
يُزعم» يطلقون النار على الأهالي. بالطبع لا يمكن مُضاهاة هذه الصورة النمطية 
للإرهابي المسلم الذي يقتل الأطفال والنساء والأبرياء» سوى بالصورة ذاتها 
للفلسطيني في المخيال الأمريكي» وفي أفلام هوليوود القبيحة عن الإرهاب في 
الشرق الأوسط. 


کانت الصور الأول للإرهابيين الإسلاميين في العراق قد بدأت بالانتشار فور 
سقوط بغداد» بفضل التنسيق بين المجلس الأعلى وقوات الاحتلال الأمريكي . وهذا 
ما يُفسر السبب الحقيقي لتبني المجلس الأعلى» بقيادة باقر الحكيم منذ الأيام الأولء 
فكرة وجود «[إسلاميين إرهابيين متسللين؟ من سوريا. في هذا الوقت نشأ تحالف 
غريب على الأرض بين خصوم مفترضين وحلفاء محتملين. كان من الواضح أن تيار 
المحافظين الجدد الذين سبق لهم التحالف مع بن لادن في أفغانستان» لطرد الاتحاد 
السوفياتي (السابق) كان لا يزال يراهن قبيل احتلال بغداد» على إمكانية تأسيس 
تحالف ممائل مع إسلاميين ف فى العراق» وكان السبيل الوحيد لذلك هو خطب ود تيار 
شيعي معتدل» شبيه و ممائل للهازارا (الشيعة الإسماعيليين) في أفغانستان؛ الذين 
أبدوا في أكثر من مناسبة» استعداداً غير مسبوق للتعاون مع الأمريكيين لإسقاط 
وطرد طالبان السنية وتحرير كابول . شعر الحلفاء الحدد؛ أي الخليط الغريب والشاذ 


۲ 


من المحافظين اليمينيين المتطرفين والإسلاميين العراقيين الشيعة المعتدلين» باقتراب 
موعد قطاف ثمرة الرهان. وتحقيق انتصار لامع شبيه بالانتصار الأفغاني» وذلك مع 
اقتراب موعد الغزو. لقد تحقق التعاون الذي كان يصبو إليه أصحاب وثيقة صحيفة 
اهار , 

كان بعض أعضاء المجلس الأعلى للثورة الإسلامية يندفعون بكل حماسة في هذه 
الأوقات» لتعقب ومطاردة الإرهابيين الإسلاميين والبعثيين وقتلهم» أو إلقاء القبض 
عليهم . ولا تزال ذاكرة الكثيرين تحتفظ بصور بشعة عن هذه المطاردات حتى اليوم» 
وبخاصة في مناطق الجنوب . جرى قتل البعض من هؤلاء وإلقاء القبض على البعض 
الآخرء فيما فر عدد قليل إلى مناطق متفرقة بحثاً عن وسيلة نجاة. قليلون فقط من 
المتطوعين العرب كتبت لهم النجاة وعادوا إلى أوطانهم بعد سقوط بغداد مباشرة» 
ليرووا لأهاليهم ولبعض وسائل الإعلام مشاهد محزنة . 

إن شهادات بعض مَنْ دخل إلى العراق» من المتطوعين العرب قبل اندلاع 
الحرب بقصد المشاركة في الجهاد» لا تزال حارة» وفيها الكثير من المرارة الإنسانية 
والشعور بخيبة الأمل. في هذا السياق تحولت صور هؤلاء إلى صور إرهابيين 
إسلاميين متسللين. ووجد جلال الطالباني في مطلع تموز/ يوليو ٠٠١7‏ فرصة 
مناسبة وثمينة ليقوم هو الآخرء بدمج صورة المتطوعين العرب بصور إسلاميين 
أكراد» كانوا يناصبون سياساته العداءء ومن أشد منافسيه في الإقليم الكردي؛ 
وذلك حين أبلغ الصحف العراقية ووكالات الأنباء عن وجود خطر اسمه منظمة 
أنصار الإسلام» وهي جماعة كردية يزعم أن لها ارتباطاً بالقاعدة وبن لادن. سارع 
الطالباني إلى تحريض الإدارة الأمريكية على تدمير مراكز الجماعة في كردستان» 
بذريعة أنها جماعة إرهابية . وبالفعل ؛ تلقف الأمريكيون الدعوة وقاموا بدلا من 
الاكتفاء بقصف وتدمير مواقع منظمة أنصار الإسلام وحدهاء بتدمير مواقع سائر 
الجماعات الإسلامية الكردية» ومن بينها المنظمة المعتدلة المعروفة باسم الجماعة 
الإسلامية؛ وشهدت كردستان اعنف قصف جوي منذ انتهاء الحرب» راح ضحيته 
العشرات من المواطتين الأيرياء . 

كان الأمريكيون وهم يقصفون الجماعات الإسلامية الكردية في جبال 
كردستان» يقومون رمزياً بقصف الجماعات الأفغانية المتخيلة في تورا بورا. في تلك 
اللحظات وحيث اشتدٌ القصف الجوي تراءت صور الأكراد العراقيين المسلمين في 


/٠١ |۲١ «مجموعة شيعية عراقية في أول حوار مع الإدارة الأمريكية: وثيقة تاريخية»؛ النهارء‎ )٠١( 
°۲ 


lA 


جبال كردستان في أعين الطيارين الأمريكيين؛ وكأنها الصور نفسها لإرهابيي القاعدة 
وكأنها جبال تورا بورا الجرداء. إنها الجبال ذاتباء وهو الإسلام ذاته. على هذا النحو 
يعود إلى الطالباني وليس لأي شخص آخرء الفضل في وضع الأحجار الأولى 
لأسطورة شبكات بن لادن في العراق. 

لكن» وحين تلاشت مؤقتاً حكاية المتطوعين العرب وتبددت في الهواء بسرعة» 
حلت صورة نموذجية من عصر ما بعد الاستشراق: إرهابيون إسلاميون يختبئون في 
تورا بورا عراقية. وابتداء من التاسع من نيسان/ أبريل» حتى 0 تموز/ يوليو ٠٠١7‏ 
حين أطلق الطالباني تصريحاته تلك» توالت القصص المروعة عن مطاردة وقتل 
وتعذيب المتطوعين العرب الذين جرى إلقاء القبض على بعضهم . وفي مطلع أيار/ 
مايو وبعد نحو أربعة أسابيع تقريبا من سقوط بغدادء توقف الحديث عن المتطوعين 
العرب وخطرهم مؤقتاء ولم يعد أحد يسمع مثل هذه القصص . لكن بعض الصحف 
العربية الصادرة في لندن (الشرق الأوسط. مثلا) كانت لا تزال تواصل نشر تحقيقات 
وأخبار مثيرة» عن صنوف العذاب التي صادفها هؤلاء ة في العراق. 


إن الفترة الزمنية القصيرة الفاصلة بين التاسع من نيسان/ أبريل وحتى مطلع 
أيار/ مايو ۲٠٠۳‏ هي فترة زمنية شديدة النموذجية بالنسبة لدارسي التاريخ . سوف 
يكتب المؤرخون» ذات يوم إن الأسابيع الأولى من سقوط بغداد كانت البداية 
الحقيقية لاضطهاد فكرة الجهاد في الإسلامء يقوم فيها الأمريكيون علناًء وبمساعدة 
مباشرة من #إسلاميين» وهو أمر لم يسبق له أن حدث في أي وقت سابق ۽ ؛ لأنه تم 
ومن دون توقع على أيدي مسلمين. 


وجد الأمريكيون وهم يدخلون بغداد» أن ثمة «إسلاميين عراقيين معتدلين» 
مثل حزب الدعوة الإسلامية الشيعي » الحزب الإسلامي العراقي السني » المجلس 
الأعلى للثورة الإسلامية» يمكن لهم أن يكونوا حلفاء على الأرض وشركاء في عمل 
واحد. كما اكتشف المحافظون الجدد أن بوسعهم عقد تحالفات جديدة مع نوع من 
الإسلاميين» وأن هؤلاء في العراق يشكلون فعلياًء القوة الطليعية الضاربة الأكثر 
استعداداً وقدرة وتأهيلاً لتحطيم فكرة الجهاد الإسلامي؛ بل وتسخيفها وتحويلها إلى 
صورة نمطية من صور الإرهاب التقليدي . وهذا حقيقي» تمامأء لأن هذه الأحزاب 
ظلت تنظر باستخفاف وتشكيك» في بياناتها وأحاديث وتصريحات قادتها في 
الفضائيات والصحف. إلى تدفق المتطوعين العرب والإسلاميين نحو العراق عشية 
الحرب؛ وكانت ترى فيهم باطراد» مجرد مرتزقة› أو عملاء ء للنظام البعثي. وبالطبع 
من دون تأمل» أو إنصاف في الحكم الشرعي على نيات هؤلاء البشرء الذين كانوا في 


٤ 


نظر كثرة . من العراقيين» شجعاناً بشكل أسطوريء غامروا بحياتهم الشخصية 
وبمصائر أسرهم التي تركوها من دون معيل» بعد أن هجروا أعمالهم وزهدوا في 
الدنيا واتجهوا صوب ساحات الموت؛ دفاعاً عما يعتقدون أنه الإسلام المهدد في عقر 
داره. 

كانت واشنطن في الواقع» تراقب عن كشب تطور نظرات ومواقف ختلف 
الجماعات الإسلامية داخل المعارضة العراقية السابقةء حيال مسألة تدفق المتطوعين 
العرب ومسائل الجهاد والقتال ضد المحتلين. وقد لس زلماي خليل زاد الأفغاني 
الأصل والممثل الأمريكي الدائم في مؤتمرات المعارضة العراقية (والذي سوف يصبح 
سفيراً في بغداد في حزيران/ يونيو )۲٠٠۵‏ بنفسه ولأكثر من مرة» شيئاً من الحماسة 
الرائجة في الوسط العراقي المعارض لتوصيف المتطوعين الإسلاميين بالمرتزقة 
والعملاء. وفي آخر مؤتمر للمعارضة عقد في لندن قبيل الغزو بقليل (تشرين الثاني/ 
نوفمبر )۲٠٠۲‏ وبينما كان المتطوعون العرب يتدفقون على بغداد» سمع خليل زاد 
صيحات إسلاميين من السنة والشيعةء في أرجاء الصالة التي جمعت المعارضين» 
وهي تندد بالمتطوعين الإسلاميين. 


ارتأى كل من بول ولفووتز وريتشارد بيرل أثناء الإعداد للحرب على العراق» 
أن على صانع القرار الأمريكي أن يلحظ مسألة تنمية وتطوير تيار شيعي معتدل داخل 
المعارضة العراقية» ورعايته والاهتمام فيه» من أجل الاعتماد عليه مستقبلاًء كأداة 
في مواجهة إيران متطرفة؛ أو حتى في مواجهة ما يُدعى بالتطرف الديني في العراق . 
والفكرة الأخيرة لا تعني أي شيء آخر سوى التصدي لوجود جماعات إسلامية» 
كانت قد تدفقت على العراق قبل نحو شهرين من موعد الحرب» وتجمعت في مراكز 
تطوع افتتحتها السلطات العراقية . مهدت هذه التصورات السبيل» هي الأخرى» 
أمام نشوء أول إطار عملي للتفاهمات السياسية بين الإيرانيين والأمريكيين من جهة» 
وبين هؤلاء وجماعات شيعية عراقية» من جهة أخرى» وتماماًء كما عرض أسسها 
وتمناها فريق لندن ورغبت فيها مؤسسة الخوئي 9" . هذه الاجتماعات التي سوف 
تُعرف أثناء الغزو» بتفاهمات جنيف السرية» قادها عن الجانب الإيراني وزير الخارجية 


كمال خرازي 3 0 


كان الشغل الشاغل للإيرانيين انتشال الأمريكيين من برائن ما بعد الاستشر 
وصوره المخادعة . انتبه الإيرانيون إلى أن محاوريهم الأمريكيين بالكاد يعرفون «النفسية 
)١1(‏ انظر: المصدر نفسه. 


(۷) انظر مقابلة صحافية مع كمال خرازي حول نفاهمات جنيف» في : القدس العري» 94/51/ .70١*‏ 


Yo 


العراقية» بحسب تعبير خرازي ؛ الذي قال في مقابلة مع صحيفة يو أس أي توداي 
الأمريكية (بره764 054) إن «أمريكا وإيران تتشاركان في نفس الأهداف والمواقف 
تجاه العراق» ومع ذلك» فإن: 


«المحادثات لم تتوصل إلى ردم الخلافات . كان الأمريكيون يغيرون مواقفهم 
بشكل دائم» ولم يلتزموا القرارات التي اتخذت في تلك الاجتماعات:!*" , 


ولأن الإيرانيين كانوا يشعرون بالضيق» حقاء من النظرة ما بعد الاستشراقية 
التي طبعت تفكير الأمريكيين وطريقة «فهمهم» للعراق ؛ فقد بادروا إلى تعليمهم شيئاً 
ما عن «النفسية العراقية؛ : 

«إيران نصحت أمريكا بمنح العراقيين السلطة. ولكن الأمريكيين كانوا 
مترددين. ثم فهموا الوضع بعد ذلك . هم يعرفون القليل عن العراق. حاولنا 
تعليمهم شيئاً عن النفسية العراقية والطريقة التي يجب أن يعاملوهم من خلالها؛ . 

ويبدو أن الملامسة الهادئة للمشكلات العالقة بين البلدين» مكنت كلا من 
الأمريكيين والإيرانيين» الذين كانوا يستمتعون بالأجواء الساحرة على ضفاف بحيرة 
جنيف» فيما دبابات أبرامز العملاقة تتجه صوب العراق؛ من إحداث تغير مهم 
للغاية في المزاج الإيراني نفسه . 


لقد أصبح الإيرانيون الآنء كما ارتأى محللون غربيون راقبوا الاجتماعات من 
كثب» في وضع يمكنهم من رؤية منافع الغزو «الذي سيؤدي إلى تغير في مزاج 
إيران. لقد أضحت حريصة على بناء علاقات مع أمريكا»”*'' كان تفكيك الصور ما 
بعد الاستشراقية في المخيال الأمريكي عشية الغزو وتبذيب «فهم؟ الأمريكيين للثقافة 
العراقية القديمة» مهمة إيرانية؛ بينما أصبح تغيير المزاج الإيراني نفسه مهمة أمريكية . 
أسفرت سلسلة الاجتماعات عن توقيع محضر ما بات يُعرف بتفاهمات جنيف 
السرية”' '2. كما تضمن اتفاقاً سرياً حول طريقة مشاركة فيلق بدر التابع للمجلس 
الأعلى في المراحل النهائية من الغزوء كما شمل «تفاهماً» على خط رحلة عودة باقر 
الحكيم رئيس المجلس» وحليف إيرانء إلى العراق عبر الكويت» فور سقوط 
العاصمة العراقية. في هذا الوقت كانت مهمة تحطيم وتدمير فكرة الجهاد المركزية 


(۸) انظر مقابلة صحافية مع كمال خرازي في : .25/9/2003 USA Today,‏ 

0( المصدر نقفسه. 

)۲١(‏ فاضل الربيعي» من أيقظ علي بابا: ظاهرة الفرهود في العراق (بيروت: رياض الريس للنشرء 
و3), 


غرف 


بشكل شديد في ثقافة الإسلام» من بين أكثر مشاغل واهتمامات أيديولوجيي الحرب 
على الإرهاب في تيار المحافظين اليميئيين المتطرفين؛ بل الأكثر جاذبية وإغراء من 
سائر الأفكار الأخرى في البنتاغون والبيت الأبيض» وإلى حد ما في وزارة 
الخارجية. ولذا وجد الأمريكيون في العرض الذي تقدم به الإيرانيون في هذه 
الاجتماعات» والخاص بتسليم مجموعة من أسرى القاعدة» نافذة جديدة لتفاهم 
الاستشراقي) لأستاذه ومعلمه الإيراني خضوعاً تامء من أجل تعليمه شيئاً عن 
«النفسية «العراقية. أبدى الإيرانيون» في هذه الاجتماعات استعداداً غير مسبوق 
للقيام بدور المعلم ولكنهم ترددوا حيال فكرة القيام بدور الشرطي: 


«لن نسلم أعضاء القاعدة لأمريكا. سلمنا السعودية عدداً منهم. ريما 
مئةء ونقلنا معلومات . إن بعض الإيرانيين المرتبطين ببؤلاء يحاكمون حالياً 0" . 


في نطاق هذه التطورات» يستطيع الباحث أن يحصل على ما يكفي من 
الدراسات والمقالات الخاصة بنظرة الأمريكيين لفكرة الجهاد في الإسلام . إنها فكرة 
سوداوية ومخيفة» شنيعة ولا عقلانية. وما ساعد في شيوع أفكار المحافظين الجدد 
وصورهم النمطية والخيالية عن الإسلام» قيام هوليود بتشجيع الكتاب على البحث 
عن قصص جديدة» موضوعها الرئيس الإرهاب الإسلامي. 


ولذاء راحت موجة جديدة من أفلام هوليود تركز» بمناسبة أو من دوتبهاء على 
إبراز صور إرهابيين إسلاميين يباجمون المدنية الأمريكية بوحشية» لا لسبب منطقي» 
وإنما لأنهم يؤمنون بالجهاد. ومنذ وقت قريب» فقطء دخلت كلمة الجهاد العربية 
في القاموس الإنكليزي» وبات استعمالها في الثقافة اليومية للأمريكيين والبريطانيين 
مرتبطاً بفكرة ساطعة في تحريفيتها للإسلام: إنه «دين الجهاد» الذي لا يعني أي شيء 
آخر سوى قتل الأبرياء من النساء والأطفال. أضحت كلمة الجهاد حين تنطق 
بالإنكليزية؛ مرادفة» تماماً» في مضمونها لكلمة إرهاب وبذلك نشأ فور احتلال 
العراق» تعارض دموي بين إسلاميين عراقيين انشطروا بدورهم إلى معتدلين 
ومتطرفين» ولتبزغ في الحال صورة غير مألوفة ومثيرة للخيال عن «أفغان جدد» 
عثروا أخيراً في بغداد» على مكان بديل عن تورا بورا ملائم لقتال الأمريكيين. 
بذلك» حققت الأسطورة انتصارها الوهمي واللامع بكل جلاء. 


(١1١؟)‏ بحسب مصادر مختلفة كان لدى إيران بعض المحتجزين من القاعدة من بينهم الكويتي سليمان أبو 
غيث وأحد أبناء أسامة بن لادن (سعد) والمصري سيف العدل. انظر: القدس العري» .٠٠٠*٠/۹/۲۱‏ 


TV 


ثانياً: مأساة «الأفغان الجدد؛ إسلام جديد ضد إسلام عتيق 


منذ نباية القرن الثامن عشر طرحت على سائر المسلمين في الشرق وبإلحاح» من 
جانب تنويريين عرب؛ فكرة الإصلاح الديني على غرار الثورة اللوثرية البروتستانتية . 
بعض هؤلاء كان من أصول أفغانية كما هو الحال مع جال الدين الأفغاني» الذي تأثر 
بشكل مذهل بأفكار المستشرقين . وما ضاعف من قيمة هذا الإلحاح» أن السلاطين 
العثمانيين الذين عرضوا أنفسهم كامتداد لسلالة الخلفاء المسلمين وكورثة شرعيين له» 
أضفوا من غير إرادتهم» ربماء من المبررات والحجج الواهية على سياساتهم ومواقفهم 
كمسلمين» ما يكفي لتحويل جزء من التناقض مع سياساتهم» إلى معارضة موجهة ضد 
استمرارهم كخلفاء يحكمون باسم الإسلام. وعند تخوم هذا التشابك المذهل في المهام 
والرؤى» اختلط الصراع ضد السلاطين العثمانيين يصراع» أو تنازع حول الإسلام . 


إن الاستشراق الكلاسيكي ممتلئ بالأدلة والوقائع عن هذا الجانب الحقيقي من 
الصراع» وذلك» حين أصبح الإسلام والإصلاح الديني جزء من تناز ثقافي آعم" 
إن فهم مغزى التنازع الجديد الذي انبثق تى أثناء غزو أفغانستان والعراق بين إسلاميين 
معتدلين وإسلاميين متطرفين» ومن منظور ما بعد الاستشراق؛ بوا وملحاً 
من أجل فهم مُتطلب. آذّى سقوط بغداد في قبضة الأمريكيين إلى تصعيدٍ مثير في 
صورة هذا النزاع» وذلك» مع تعرض المتطوعين العرب الإسلاميين الذين وجدوا 
أنفسهم» من دون توقع» في العراءء ومن دون طعام» أو مال أو مخابئ؛ إلى أسوإ 
وأبشع أنواع الاضطهاد. أصبحوا فجأة» مشردين وغرباء في قلب مدينة غريبة معادية 
لهم بينما جاءوا أصلا للدفاع عنها. اكتشف بعضهم أثناء الفوضى التي عمت البلاد 
أن جزءاً من سكانها المسلمين صار يُطاردهم» ويطلب دمهم كمجرمين. كانت صدمة 
هؤلاء عنيفة وباعثة على الشفقة» لأن مُطارديهم لم يكونوا من الكفار أو الغزاة أو 
العلمانيين؛ بل كانوا إسلاميين مثلهم . هذا التقابل المحير للإسلام مع نفسه في هذه 
اللحظة التاريخية النادرة» هو النتاج الباشر للصور التي صنعها ما بعد الاستشراق؛ 
بل هو ثمرته السامة التي انتشرت في أرجاء عالم عربي إسلامي ممزق الوجدان. مثل 
هذا التقابل احير للإسلام» لم يكن مألوفاً في التجربة الكولونيالية الكلاسيكية» 
وبالكاد جد الورخ والبائعث أي دليل غل وقرع أخداث باب . مع عصر ما بعد 
الاست ستشراق انشطر الإسلام إلى نصفين متقابلين ومتصارعين. 

كان الإسلام في الماضي موضوعاً دراسياً داخل فضاء رحب من الاجتهاد الفقهي 
والمدارس الكلامية والفلسفية» ولكنه غدا موضوعاً صراعياً وخلافياًء تحول فيه 
المسلمون إلى مُطاردين ومطارّدين» وأصبح الدين» تبعاً لذلك» دين معتدلين ودين 
متطر فين ؛ ؛ إسلام معتدل وتحرري ومناضل من أجل الديمقراطية» بحي رف ارك 


Y۸ 


وآخر متطرف لا عقلاني» جاء من أجل هدف وحيد» هو ضرب وتدمير الغرب . 

كانت الغالبية العظمى من المتطوعين العرب الذين تدفقوا على بغداد عشية 
الحرب» من الإسلاميين البسطاء والمتدينين التقليديين؛ بينما كان الإيرانيون يواصلون 
تفاهماتهم في جنيف مع الأمريكيين. هؤلاء كانوا من أهل الإسلام الشعبي القابل 
بطبيعته للانفعال بالأحداث الهلعيةء وقد استجابوا للتحديات الكبرى على نحو 
عفوي وتلقائي. لم يسبق لمعظمهم قط مغادرة بلداتهم بسبب تدهور أوضاعهم 
المعيشية والإنسانية وربما فقرهم المدقع . ولم يكونوا في أي وقت سابق من الجماعات 
الإرهابية» كما لا علاقة لهم» لا من قريب» ولا من بعيد» بالقاعدة أو بن لادن أو 
بشبكات الإرهاب . هذه هي رحلتهم الأولى خارج أوطاءهم: وقد جاءوا للموت في 
سبيل ما آمنوا أنه الإسلام المهدد في عقر داره» ولن يعودوا حتى ينتصر أو يقتلوا 
دونه . وبکل تأكيد ليس من بينهم سوى عدد ضئيل من الأفغان العرب. ومع ذلك 
جرى الفتك بهم » وتحطيم عظامهم من دون رحمة. 

إن مأساة العراقيين ا أي العرب الذين جاءوا إلى العراق للدفاع عنه ) أو 
الأفغان الجددء لتستحق أن تُروى مرات عديدة» بكل مشاهدها الإنسانية العذبة 
للوجدان؛ فهؤلاء» وعلى غرار ما حدث لإخوتهم في أفغانستان» من المتطوعين 
العرب للقتال ضد السوفيات» والذين شاءت الأقدار أن تنسى أصولهم وتتلاشى 
أسماؤهم وتتعفن جذورهم في تربة أرض غريبة» وليتحولوا نهائياً إلى عرق جديد لا 
وجود له في التاريخ. أو في شجرات الأنساب؛ أو ليتم تنسيبهم إلى جنس بشري 
منبوذ ومُطارد» سيُعرف باسم الأفغان العرب . على هذا النحو باتوا هم أيضاًء ومع 
ما يُدعى سقوط بغداد السريع والمباغت» معلقين في الهواء؛ مشردين 0 
التقدم خطوة واحدة إلى أمام من دون أن يسقطوا صرعى الرصاص . 

ولذاء أصبح صيدهم في الشوارع والأزقة سهلاً من قبل جماعات مهووسة 
عادت مع الاحتلال. صباح العاشر من نيسان/ أبريل» أي بعد يوم واحد فقط من 
الاحتلال» افتخر احد قادة المليشيات في مدينة الصدرء أنه تمكن من إلقاء القبض 
على بعض الإرهابيين. كان هذا هو الإعلان الأول عن عملية اعتقال لإرهابي 
مزعومء ومن جانب رجال المليشيات في أكثر المدن الشيعية فقراً . وخلال يومين 
تاليين وبينما كانت القوات الأمريكية تنشغل باستكمال احتلال بغداد والاستيلاء على 
أحياء جديدة» كانت واشنطن تتابع بابتهاج نجاح استراتيجية بول وولفووتز الشيعية 
القائلة» إن «حرب العراق تتطلب دعم وتطوير وتنمية تيار شيعي مستقل نسبيأة» أو 
يمكن دعم عملية تحويله إلى تيار شبه مستقل ومعتدل» كما يمكن» أو يجب» فوق 
ذلك تطوير ظروف وإمكانيات استخدامه» في مواجهة إسلام سني متطرف محتمل؛ 


۳4 


قام «معتدلون» إسلاميون بالمهمة المطلوبة : مطاردة العراقيين العرب (الأفغان الجدد) 


وقتلهم . لم يمض سوى وقت قصير فقط على ذلك» حتى أتضح أن واشنطن ليست 
مهتمة أصلاً بالصيد الثمين الذي حمله «صيادو المليشيات؟ . 


كانت هناك إستراتيجية أخرى في رؤوس المحافظين الجددء تقوم في ما تقوم 
على استغلال دنيء لقصص الاضطهاد الوحشي» وغير اللائق الذي قام فيه «بعض 
العراقيين» لإخوتهم في الدين. فجأة ومن دون سابق إنذار» بدأت تتسرب من بغداد 
نفسها مقابلات صحافية مع متطوعين قاتلوا في صفوف الجيش العراقي» يزعمون 
فيها تعرضهم لإطلاق نار في ظهورهم» بينما كانوا يتوجهون صوب الدبابات 
الأمريكية لتدميرها بقذائف آر. بي. جي . 

ترافقت هذه القصص والمقابلات الصحافية› مع نشر أساطير عن مطاردات 
تعرض لها هؤلاء و في الشوارع› وان سقرط ف فى و اللات حيث بلغ 
التعذيب حداً قلعت معه» في إحدى المرات» أسنان أحد الإسلاميين السعوديين . 
تور مر هله الت يات بسرعة اذهلف عندما تمكن عدد كبير من المتطوعين العرب 
من العودة إلى بلادهم . وخلال الأيام العشرة الأولى من سقوط بغداد» لم يلحظ أي 
مراقب سياسي» وجود أي نوع من الاهتمام الجدي بمسألة الإرهاب في العراق» من 
جانب الأمريكيين السعداء بانتصارهم اللامع . 


كانت حكاية الإرهابيين في طورها الأول» جرد حكاية من حكايات رّحالة من 
نوع جديد يجوبون الشرق بدباباتهم وقد خضعت» بطبيعة الحال» إلى الكثير من المبالغة 
والتصنيع لتأجيج المشاعر؛ ولكن ليتبين أنها مصممة من أجل استراتيجية مغايرة» 
تماماً : جعل الإسلام قابلاً للإنشطار والانقسام إلى إسلامينٌ؛ يقوم أحدهما باضطهاد 
الآخر بملاحقته وتحطيم «أفكاره الجهادية». كان لاستغلال قصص وروايات 
وشهادات المتطوعين العرب من جانب وسائل الإعلام الأمريكية والعربية» أثر مدمرء 
يفوق الوصف بالنسبة إلى سائر المسلمين . إذ بفضل استغلال هذه القصص المروعة 
جرى تشويه غير مسبوق . في هذا الوقت ظن المحافظون الجدد في واشنطن أنهم حققوا 
بالفعل انتصاراً لامعاً ونجحوا في تحطيم فكرة الجهادء وربماء اقتلاعها من جذورها 
عبر النموذج العراقي؛ ولذاء لم يتردد بعض الغاضبين من المسلمين» في اتصالات 
هاتفية مع محطة الجزيرة القطرية» وطوال أيام من البث المباشرء في التنديد بالعراقيين 
«الخونة» الذين غدروا بأخوتهم العرب والمسلمين ‏ بحسب نص التعبير المستخدم من 
. جانب المتصلين هاتفياً مع القناة- . وفي الأيام الأولى لانتشار حكايات مطاردة 
العراقيين للأفغان الجدد» حيث رويت صور مُفجعة عن التعذيب الذي لقيه هؤلاء على 
أيدي عناصر من الجماعات المسلحة؛ ترددت في أرجاء العالم العربي والإسلامي كله 


3 


الكثير من الأسئلة الممزوجة بالحيرة. لم تخلو هذه الأسئلة من أفكار تردد صداهاء في ما 
بعد هنا وهناك عن عبثية» ولا جدوى فكرة الجهاد . لقد صار للكلمة في اللغة العربية 
مضمون جديد» مماثل لمضمونها في الإنكليزية : الإرهاب”"" . 


كانت القصص والأساطير عن قوة الأفغان الجدد (المتطوعين العرب) موظفة 
توظيفاً ساخراً خالياً من أي عقلانية أو إتقان إعلامي» ولكنهاء مع ذلك لأجل غرض 
وحيد هو تدمير فكرة الجهاد» وحتى تسخيفها في نظر المسلمين أنفسهم . ويبدو أن 
الأمريكيين أحسنوا استغلال الأجواء المعادية للمتطوعين العرب» والتى أشاعها 
المعارضون القادمون مع قوات الاحتلالء فراحوا يفاقمون درجة وشدة التشويه 
والتسخيف» وذلك من خلال تشجيع الصحف العربية الخليجية واللبنانية بشكل 
خاص» على نشر المزيد من الصور والريبورتاجات والأخبار والمقابلات الصحفية مع 
المتطوعين العائدين إلى بلذانهم بعد إطلاق سراحهم ؛ حيث رويت قصص أخرى لم 
تكن مسموعة بعد . في هذا الإطار قُدم ما يمكن اعتباره تسهيلات خفية وغير 
منظورة» مكنت الصحف الباحثة عن الإثارة من الحصول عل المزيد من صور 
الاضطهادء الذي تعرض له المتطوعؤن العرب على «أيدي العراقيين؟ الذين أصبحت 
سمعتهم » في هذا الوقت» في الحضيض مع انتشار عمليات نهب تمتلكات الدولة . 
ومن بين هذه التسهيلات وأهمهاء التسريع في عملية إطلاق سراح بعض المتطوعين 
العرب» وتمكينهم من العودة إلى أوطانهم» من أجل نشر الروايات المصنوعة في 
الغالب . قليلون فقطء في العالم العربي انتبهوا إلى نقطتين جوهريتين في هذه الحكاية : 


الأولى: إن التركيز فيي وسائل الإعلام الأمريكية والعربية على قصص مطاردة 
وتعذيب أو قتل المتطوعين العرب الإسلاميينء بالتلازم والتوازي مع التركيز على 
عمليات النهب والسلب الحرق في بغداد» لم يكن عملا بريثاً تماماًء وان غرضه الحقيقي 
هو إظهار العراقيين في صورة شعب من اللصوصء. انشغل عن مقاومة الاحتلال» لأنه 
راض عنه وراغب فيه وأنه قام» وعلى طريقته الخاصة» بالتعبير عن مبجته بالاحتلال- 
كما قال وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد حرفياً في أول تعليق رسمي أمريكي 
على مشاهد الحرق والنهب والسلب التي عمت العاصمة فور سقوطها ‏ وعن امتعاضه 
وسخطه على فكرة الجهاد . هذه الصورة الأصنعة إعلامياً مشاهد السلب والنهب 
والحرق؛ والملائمة للغاية بالنسبة إلى مخيال ما بعد الاستشراق» ممصممة بدورها على 
عرض فكرة غرائبية عن عراق جديد» قرر الأمريكيون «تلفيقه» من حطام عراق قديم 
مفكك ومُخرب» وترسيخ صورته في المخيلة العربية ‏ الإسلامية» وفي ذاكرة أجيال 


(؟1) انظر مثلاً: وحيد عبد المجيدء «الوطنيون والخونة في العراق » الاتحاد. ۲٠٠٤/۹/۲‏ 


٤١ 


من العرب . إنه شعب غريب» مزيج من اللصوص والأشقياء والرعاع» الذين انعدمت 
الرحمة في قلوبهم» فراحوا يفتكون بإخوتهم من العرب المسلمين . إنهم «البدو الذين 
يقتلون الأشخاص لمجرد خطإ فى الاعتقاد أن الأزرار الصفراء هى ذهب» كما يقول 
النص الاستشراقي . إن تحقيقاتي الخاصة التي قمت بها في أكثر من بلد عرب ؛ والتقيت 
خلالها بعدد من العرب العائدين من العراق» لا تشير البتة إلى القصص والأساطير ذاتها 
التي نشرها الأمريكيون؛ ولكنها في المقابل تدعم» في جانب واحد على الأقل» وجود 
انتهاكات ومطاردات قامت فيها بعض المليشيات ضد عدد كبير من هؤلاء . 

الثانية : أما النقطة الثانية التي ل يجر الانتباه جيداً إلى ما تختزنه من دلالات» فهي 
أن التركيز على شهادات المتطوعين العرب الفارين من العراق» أو الذين أطلق 
سراحهم بعد تعرضهم للتعذيب» واستثمار تدفق رواياتهم إلى الخارج» عبر الترويج 
لها في وسائل الإعلام المختلفة؛ كان يدف في المقام الأول إلى تحطيم وتدمير فكرة 
الجهاد في الذهنية العربية ‏ الإسلامية» وإلى تعميم صورة نمطية جديدة لإسلام 
متعارض مع الجهاد أي تعقيم الإسلام من أهم فكرة وركن ديني شرعي فيه. على 
الطرف الآخر من هذه الصناعة البغيضة للصور» حرصت أجهزة الإعلام على إبراز 
الجانب المطلوب ؛ فهناك عراقيون مسلمون يقومون بإلقاء القبض على عرب مسلمين» 
أو يقومون بتعذيبهم وقتلهم. . ولعل الشهادة التي نشرتها صحيفة خليجية» تصدر 
في لندن» عن مقاتل سعودي اقتلع العراقيون أسنانه الذهبية أثناء إلقاء القبض عليه» 
كما يزعمء قد لقيت هوى خاصا في قلوب رجال البنتاغون. مثل هذا المشهد كان 
مرغوباً فيه» فهو كاف لإظهار وحشية الإسلام وعقم فكرة الجهاد في الآن ذاته , 


إن البدوي العراقي الذي يقتلع أسنان خصمه في عصر ما بعد الاستشراق› له 
شبيه ومُاثل ومُطابق» على مستوى السلوك الوحشي» يمكن استرداده من عالم 
الاستشراق الكلاسيكي» حيث البدوي يقتلع أسنان الرّحالة الأجانب بعد قتلهم . 
هؤلاء المتطوعون لم يكونوا في التاسع من نيسان/ أبريل» بالنسبة إلى الأمريكيين وحتى 
بالنسبة إلى الأحزاب العراقية العائدة برفقته؛ جرد إرهابيين متسللين دخلوا العراق 
خلسة؛ بل مرتزقة أجانب جاءوا للدفاع عن نظام صدام حسين» بحسب التعبير 
الشائع في أدبيات المعارضين . إن استخدام تعبير «مرتزقة» في وصف المجاهدين 
العرب» ينطوي على مفارقة ساخرة؛ إذ كان الأمريكيون يبرمون آلاف العقود الأمنية 
مع شركات بريطانية» مثل بلاك ووت" وشركات أمريكية مثل هاليبرتون» فضلاً 


(۲۳) تستخدم هذه الشركات أشخاصاً من حوالى ٠‏ جنسية. نالت شركة هاليبرتون (مهعدطفلاد1؟) 
حصة الأسد في هذه العقود ما يقارب 1 بليون دولار. وكذلك شركة دين كروب فضلاً عن شركة ايريئيس 
وفييل وأم. بي. . آرءأي. 


Y۲ 


عن شركات أسترالية لجلب مرتزقة أجانب لهم تجارب حقيقية في الجريمة؛ يدف 
تأمين حماية القادة السياسيين العر اقيين العائدين. وفي هذا الوة قت أيضاً نُظر إلى 
هؤلاء. في أدبيات أحزاب وتصريحات معارضين» عل آم من المخرن بم أي نُظر 
إليهم كجماعة طائشة مخدوعة ومنحرفة عن الإسلام الصحيح؛ الؤإسلام المعقم 
والنظيف ماما من فكرة الجهاد. ولكن؛ وفي منتصف أيار/ مايو بالضبطء ومع أولى 
عمليات المقاومة ضد الاحتلال حدث تحول مذهل فى التصور الأمريكى للمتطوعين 
العرب» رافقه وتلازم معه انقلاب مماثل في خطاب الجماعات المسلحة المتحالفة مع 
الأمريكيين» مثل جماعة الجلبي والحزب الشيوعي العراقي والأكراد. 


لم يعد المتطوعون العرب مجرد حفنة من المخدوعين الذين نالوا ا 
الشعب الغاضب من جهادهم» بل أصبحوا إرهابيين نموذجيين ينتسبون إلى عرق «بن 
لادن» وهم دخلوا شجرة أنسابه . لقد أصبحوا الآن جزءاً عضوياً من مشكلة مفاجئة 
اسمها العمليات أو «الهجمات غير النسقة» . وهذاهو» حرفيآاء التعبير الذي 
استخدمه الأمريكيون في وصف أولى العمليات ضد جنودهم» في إشارة استخفاف 
لا مثيل لها. وهكذا؛ مقابل وصف المتطوعين بأنهم «محدوعون» تحولوا في وقتٍ تال 
إل امتسلاءن ارجات كان هناك و مواز لاوت يرى فيها مجرد فلول وأزلام 
وبقايا جماعات مساندة للنظام السابق» وأعمالها تتسم بأنها «هجمات غير منسقة». 
وييذو أن قاد النتاغون تنيهوا بكرأ إلى أهمية الشروع قي استثمار معكوس لامادة 
نفسها . فبدلاً من استمرار النظرة إلى المتطوعين العرب على أنهم جماعة ضالة ومخدوعة 
جاءت لإسناد نظام الديكتاتور» وعاملها الشعب العراقي بما تستحق من قسوة؛ 
حلت نظرة جديدة» تقول الجمل التالية حرفياً وبالتتابع : «متسللون أجانب». 
«إرهابيون». «قتلة4. وحرص الأمريكيون مع أولى الإشارات عن إلقاء القبض على 
متطوعين عرب» يوم العاشر من نيسان/ أبريل في مدينة الثورة (الصدر) على إعادة 
إنتاج هذه الصورة والتلاعب فيها إلى النهاية . 


إذا كان هؤلاء قد ظهروا في المرة الأولى كجماعة ضالة» أو مجرد مرتزقة جاءوا 
م الديكتاتور كما قال أحمد الجلبي وجلال الطالباني وباقر الحكيم في تصريحات 
منشورة”*'' فإن المطلوب الآن ومع اشتداد المأزق العسكري وتعثر الحملة الحربية 
والسياسية والدبلوماسية ؛ إنما هو التركيز على مسؤوليتهم المباشرة عن أعمال 
المقاومة. هذا الحرص الُفرط من جانب الأمريكيين على تنسيب أعمال المقاومة إلى 
جماعات إسلامية ‏ إرهابية قادمة من الخارج › وبشكل أخص من سوريا والسعودية 


(4١)انظر:‏ السفیرء ۱۰ ۔ ۲۰۰۳/٤۲/۱۱‏ والحياق .7٠١“/4/1١١-1١‏ 


YEY 


مع استثناء الأردن والكويت؛ عبر بقوة عن جوهر استراتيجية المحافظين الجدد؛ 
مقابل التعاون مع إسلاميين شيعة؛ وإ جد هاء مع حزب سني واحد هو الحزب 
الإسلامي الإخوان المسلمون سابقاً يجب تطوير صور جديدة لإسلاميين 
إرهابيين؛ مصدرها المحيط العربي. بكلام موازء ليس ثمة أعداء للعراق الجديد 
سوى العرب . وهذا هو المضمون الحقيقي للحملة الإعلامية على ما يدعى «المتسللين 
الإرهابيين في العراق». في هذا السياق تم تطوير صورة مناسبة للعراقيين في 
وسائل الإعلام» كشعب من المبتهجين بالاحتلال والمتعاونين معه والذين لا يفكرون 
حتى جرد تفكير بنقاومته : حتى هذاء إخراتياً: ريد الشعب بأكملب» وتقدماًء من 
الحق الديني والأخلاقي والوطني في التصادم.مع قوى الاحتلال» وبالتالي نزع فكرة 
المقاومة واقتلاعها من جذورها الفكرية. وسوف نشاهد بعد نحو سيعة سبعة أشهر من 
احتلال بغدادء كيف أن الأمريكيين» وللتدليل على أن المقاومة فى العراق هى من 
تدبير إرهابيين أجانب» قامواء وأثناء حملة في تكريت ١9(‏ تشرين الثاني/ نوفمبر) 
بعرض مجسم لمركز التجارة العالمي في نيويورك» E‏ 
منزل جرت مداهمته فجراً. 


هذا المجسّم فُدم كدليل دامغ على صلة المقاومة بالإرهاب» وبأحداث الحادي 
عشر من أيلول/ سبتمبر. في هذا الوقت لم تكن أسطورة أبو مصعب الزرقاوي قد 
ظهرت بعد . ومع ذلك فقد جرى تقديم فكرة وجود الإرهاب والإرهابيين في 
العراق» غالباً» .في صورة خطر غامض ورهيب ينتشر كالوباء . ففي الثالث من كانون 
الأول/ ديسمبر قال بوش في كلمة قصيرة أمام الصحافيين في البيت الأبيض ما يلي : 


«إن.الطريقة الوحيدة لحماية الولايات المتحدة» وأمن مواطنيهاء »> هي مقاتلة 
الإرهاب في موطنه. العراق؟. 


لم يعد الخطر يتهدد اجنود الأمريكيين هناك وحسب» بل صار يتهدد الأمريكيين 
في شوارع مانهاتن. إنه وباء غامض يخرج من موطنه العراقي الجديد» لينتشر في 
العام كله. وسرعان ما نشر المحافظون الجددء وبالتعاون مع المليشيات الشيعية 
والكردية وجماعة الجلبي» أسطورة وجود إرهاب يهدد أمن العام والولايات المتحدة 
الأمريكية. إنه إرهاب له قابلية فذة» وأسطورية؛» على التمدد خارج الحدود؛ يعبر 
القارات والمحيطات بسهولة ويضرب ثم يتوارى عن الأنظار؛ جنوني وأخطبوطي » 
ويملك» فوق هذا وذاكء وسائل سرية وغامضةء تمكنه من الوصول إلى الضفة الثانية 
من الأطلسي بسهولة؟ وفي هذا الصدد يمكن تتبع جذور التحول في الخطاب 
الأمريكي على النحو التالي : 


Y٤ 


الجدول رقم (5 )١-‏ 
الإرهاب في العراق 


بداية ظهور فكرة| مطلع أيار/ مايو ٠۲٠٠۳‏ يقول الأمريكيون ما يي : «إن الهجمات التي 
«الإرهاب في العراق» يتعرض لها الجنود هي من تدبير فلول النظام السايق» . (بيانات مكتب 
الإعلام التابع للقوات الأمريكية» ١‏ أيار/ مايو )۲٠٠۴۳‏ 

من مطلع أيار/ مايو حتى الأول من تموز/ يوليو يقول الأمريكيون ما 
يلي : إن أعمال المقاومة تشتد وإن أكثر من ثلائين جندياً أمريكياً 
سقطوا فتلى» . بعد نحو شهرين من هذه الأنباء علق الجنرال يوري 
بالوييفسكي نائب رئيس هيئة أركان القوات الروسية) وفي أول تعليق 
رسمي روسي ما يلي : : إن المقاومة المسلحة للوجود الأمريكي في 
العراق ليست إرهاباً. لا قدر اللهء فقد نرى العراق تحول إلى فييتنام 
ثانية للأمريكيين». ولدى سؤاله عما إذا كان يعتقد أن هناك عناصر من 
«منظمة القاعدة»؟ قال الجنرال بالوييفسكى : «إنه يشكك فى صحة 
هذه الأنباء» . (المصدر: صحف .)٠٠٠۳/۷/۲‏ 1 

























الجدول رقم (5 - ؟) 


الخط البياني لتطور «فكرة الإرهاب» في العراق 
















0 


المقاومة العراقية ويتعهد بتحطيمها RS E‏ 
يتعلق بسقوط المزيد من الجنود الأمريكبين قتلى على يد المقاومة» ووسط قلق أمريكي محدودء ما 
يلي : «البعض يرى أن الأوضاع ملائمة هناك لمهاجمتنا. أقول لهم ملموا. إن لدينا القوة اللازمة 
للتعامل مع الوضع . على العدو أن لا يسيء الظن. سوف نتعامل بقسوة إذا استمروا في إلحاق 
الأذى بنا» . (املصدر: صحف ۳/ .)۲٠٠۳/۷‏ 









0( 
في اليوم ذاته ۳ تموز/ يوليو تصدر القيادة الوسطى بياناً تقول فيه ما يلي : «إن الذين يدبرون 
الهجمات ضد قواننا هم أولئك المسؤولون السابقون وأعضاء في حزب البعث ومسؤولون سابقون 

فدائيى صدام». (المصدر: صحف ۳| ۲۰۰۳/۷). 
فرق 
في 0 تموز/ يوليو أيضاً وبعد يومين فقط من مؤتمر بوش الصحافي» ومن بيان القيادة الأمريكية 
الوسطىء يؤكد الز عيم الكردي جلال الطالباني رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني في تصريح نشرته 
صحيفة ة الأهالي العراقية الصادرة في بغداد في التاريخ أعلاه مايلي: «إن الهجمات هي أعمال 
تخريبية من جانب أيتام التظام . لا توجد مقاومة في العراق بل بعض الأعمال التخريبية من جانب 
أيتام النظام وعناصر من مجموعة أنصار الإسلام» . (المصدر: صحف .)5١١77/9/6‏ 









الجدول رقم (~٦)‏ 
تطور صورة المقاومة 
)1( 
في ٠١‏ تموز/ يوليو يصدر حزب البعث العربي الاشتراكي أول بيان سري ويتم توزيعه في بغداد 
(مطبوعاً على الآلة الكاتبة) يعلن فيه وقوفه وراء العمليات العسكرية ويقول حرفياً: اتتعاظم 
المقاومة الباسلة التي يقودها ويديرها حزب البعث العربي الاشتراكي في القطر العراقي المحتل» . 
0( 


في ۲۲ تموز/ يوليو يقول الحاكم المدني بول بريمر لمحطة فوكس نيوز الأمريكية ما يلي : إن مَنْ 
يقومون ببذه العمليات هم قتلة محترفون يريدون إعادة تيار التاريخ إلى الوراء» . 


تطور توصيف الأمريكيين للمقاومة» وخلال ثلاثة أشهر من الاحتلال يكشف عن الحقيقة التالية : 
إن فكرة وجود القاعدة وبن لادن في العراق لم يكن لها أساس داخل الخطاب الأمريكي عن 
العراق» وإن التحول في هذا الخطاب» أو انقلابه باتجاه إعادة توصيف المقاومة كنتاج لتلاقي 
إرادات خارجية ؛ إنما حدث في اللحظة التي بدأ فيها المأزق العسكري والسياسي لقوات 
الاحتلال» . 





١‏ استنتاجات عامة 


أ- من حو العراق إلى إعادة ديجه 

الاستنتاج الأول الذي يمكن الخروج به من سائر هذه المعطيات والبيانات» 
يتصل بفكرة حو بلد ماء ثم إعادة تركيبه في إطار خريطة جديدة. ويمكن في إطار 
قراءة معمقة لمغزى ووظائف هذا السيل غير المنقطع من الصور النمطية عن الإرهاب 

في العراق الجديدء أن يُلاحظ أن نشر وتعميم أسطورة الإرهاب؛ كان متلازماً 
ومترافقاً مع نشر وتعميم الصورة النمطية الكلاسيكية للمقاومة ضد الاحتلال 
بوصفها أعمالاً إجرامية . 


إن تلازم فكرة الإرهاب» باعتباره نوعاً من الجرائم» والمقاومة بوصفها امتداداً 
للإرهاب من تدبير أجانب» يمثل» من منظور عمل ما بعد الاستشراق 00 
الميدانية» ذروة الدمج والتماهي في الصور؛ SOLS BN‏ 
الكلاسيكي كان يمثل امتداداً للهند» وعراق ما بعد الاسة O‏ 
لأفغانستان؛ فسوف تتجلى مقاومة الاحتلال الكولونيالي» كذلك» بوصفها إرهاباً. 


YE 


أما هؤلاء الأجانب الأشرار القادمين من وراء الحدودء فهم الأجانب أنفسهم الذين 
تطاردهم القوات الأمريكية في أفغانستان. إنهم العدو نفسه الذي ظل يترقب موعد 
اندلاع الحرب في العراق» بفارغ الصبرء من أجل أن يُنظم نفسه بسرعة خارقةء 
ويتسلل عبر الحدود لقاتلة العدو نفسه. 


ب المال والتضليل الإعلامي 


إذا ما وضعنا التنسيب الخيالي لعمليات المقاومة داخل إطار أعم» ونظرنا إليه 
باعتباره تنسيباً مكرساً لتضليل الرأي العام في العالم» تمامأء كما لاحظ روبرت 
فيسك والآخرونء» عندما ربطوا بين نشاط مكاتب الإعلام التابعة لقوات الاحتلال» 
وانتشار الأخبار والمعلومات المزيفة عن وضع هذه القوات في العراق؛ فسوف نلاحظ 
أنه مصمم» لا من أجل الحط من قيمة المقاومة وهيبتها وحسب؛ وإنما كذلك» من 
أجل هدف استراتيجي أكبر يتصل بتعميم النموذج الأفغاني الجديد كنموذج لحرب 
عالمية الطابع ضد شبكات الإرهاب . كل بلد في العالم العربي» طبقاً لهذا النموذج» 
قابل بسهولة للتحول تلقائياً إلى امتداد طبيعي وديني وعسكري المستعمرة» أخرى . 
لقد بلغ هذا التعميم درجته القصوى مع إقرار الكونغرس الميزانية التي طلبتها إدارة 
بوش» والبالغة نحو ۸۷ مليار دولار؛ إذ رافق الإعلان» عن هذا الرقم الفلكي من 
الأموال» ضجيج إعلامي هائل» كان يركز على فكرة واحدة مفادهاء أن بوش حصل 
على ميزانية لإعادة إعمار العراق وأفغانستان معاً. يمثل إعلان الميزانية أول مظهر 
حقيقي من مظاهر دمج العراق الجديد بأفغانستان الجديدة. وكما إن البريطانيين من 
قبل ربطوا العراق بميزانية الهند» كما ربطوا إدارة الاحتلالء كلياً. بالجيش الهندي - 
لبر يطاني» فقد أعاد الأمريكيون إنتاج التجربة الاستعمارية القديمة بوسائل جديدة 
فى العراق» لقد حيل لكثيرين في العالم» وخصوصاً البسطاء» أن سحب البارود 
الأمريكية التى كانت تزجر فى سماء العراق» يومياًء سوف تمطر ذهباً؛ بينما كانت 
الأموال تدر في الواقع على أيدي حفنة من اللصوص (فيما بعد سوف يعترف 
البنتاغون أن بريمر بدد مليارات الدولارات) . 


كانت الميزانية خيالية» والإعلان عنها مصحوباً بالضجيج عن إعادة الإعمار 
الشاملء تعطيان الانطباع بوجود سخاء غير محدود من أجل تعمير هذين البلدين 
التعيسين . وبالكاد معت هنا وهناك» أصوات تقول إن ثمة تضليلاً لا سابق له؛ 
فالمبلغ الحقيقي المرصود للإعمار لا يتجاوز ١‏ مليار دولار من أصل الميزانية ؛ وأنه 
لن يشق إلا غل هدئ أريع بنتوات يسبت تصن القران» وأن ما يمكن أن يُغدق على 
البلدين لا يستحق كل هذا الضجيج . أما بقية المبلغ فقد تم تخصيصه بالكامل 


7” 


للعمليات الحربية هناك. لم يمض وقت طويل على إقرار الميزانية» حتى سارعت 
واشنطن إلى الضغط على العديد من دول العالم» بالابتزاز والتخويف تارة» وبإصدار 
الأوامر تارة أخرى» من أجل أن تكون سخية مثلهاء وتقدم للعراقيين ما يزيد عن 
ملياراً. صدق العراقيون أن مؤتمر مدريد للمانحين سيضيف أرقاماً فلكية أخرى 
إلى مبلغ ۸۷ مليار دولار أمريكي . بيد أن يومين من الاحتفالات الاستعراضية» 
كشفت عن خطة جديدة لتكبيل العراقيين بقيود جديدة: المزيد من القروض . على 
هذا التق متحت ع اد |عمار العراق موو ما من مو رمات الأفغنةء أي 
من موضوعات الدمج الاسة ستشراقي ؛ ولعبت» > فكرة تقديم المال» في هذا الإطارء 
دورها كاملاً في خلق صورة جديدة للعراق» هي مزيج من بلد متخلف لا أثر فيه 
للمدنيةء أو العمرانن أو التقدم ؛ وبلد يطمح المحررون فيه إلى تحويله موطناً نموذجياً 
لمكافحة الإرهاب . 


يكتب كل من مارك هوزنبل (الوطهءوه11 1:ة34) وايفان توماس (Evan Thomas)‏ 
ومايكل ايزيكوف 0م19 اط" مقالاً مشتركاً ومُطولاً عن الدور التضليل 
الذي قام به «مكتب الشر» e‏ حرفياً في المقال» هو الاسم التهكمي 
لكتب نائب الرئيس ديك تشيني. إن التقارير التي أعدها تشيني طوال المراحل 
السابقة للغزو مكرسة بالکامل» 2 تقريب لإظهار الصلة 00 لادن وصدام 
حسين. كان نائب الرئيس يقوم بنفسه بتركيب الأفغنة قطعة قطعة» اتساقاً مع 
انتصارات البنتاغون في أفغانستان. 


ولذلك» تبدو صورة المقاومة العراقية فى هذا الوقت من تطور الأحداث» 
بوصفها سلسلة عمليات من تدبير بن لادن وشبكات القاعدة المتسللة من سوريا 
والسعودية؛ أي مجرد استطراد في فكرة أعم» ربطت» أصلاء بين صدام حسين 
والقاعدة. ولنتذكرء هناء أن المطلب المباشر الذي ألحت عليه واشنطن في الأيام 
الثلاثة الأولى التي أعقبت احتلال بغداد» هو أن تقوم دمشق بتسليم ما أسمته «أزلام 
النظام الفارين» ولم تكن هناك أي إشارة إلى إرهابيين ا المثير للاهتمام في هذا 
النطاق» ما كتبه روبرت فيسك في الأندبندت البريطانية a‏ . تحدث فيسك بإسهاب 
عن الدور التضليل الذي لعبه مكتب آخر من مكاتب الدعاية والتضليل فى الحرب 
هو مكتب إعلام ومعلومات التحالف في بغداد. 1 


Mark Hosenball, Michael Isikoff and Evan Thomas, «Cheney's Long Path to Warp (0) 
Newsweek (17 November 2003). 


(11) انظر روبرت فيسك» في : .21/7/2003 Independent,‏ 


لقد أخفى القائمون على نشاط هذا المكتب الحقيقة عن الجمهور ؛ وكانوا يكتبون 
تقاريرهم بلغة مزدوجة. ففي البيانات العمومية الموجهة للصحافة ووسائل الإعلام 
يجري توصيف المقاومة بجملة «عناصر مثيرة للشغب». بينما يجري تقديم توصيف 
آخر من أجل وثائق الجيش الأمريكي باستخدام كلمة «مهاجمون «أو «عراقيون». 


هذا التناقض بين الترصيفات بطابعه التضليلي الفاضح› لا يتضمن مع ذلك 
حتى في الثاني والعشرين من تموز/ يوليو ٠۲٠٠۳‏ أدنى إشارة إلى القاعدة» أو بن 
لادن» أو إلى متسللين أجانب . الإشارات الأولى تعود» بالضبط. إلى ما بعد الثاني 
والعشرين من تموز/ يوليو» عندما ربط الرئيس الأمريكي بوش في تصريح أثار 
استغراب المحللين» »> بين العمليات التي تشنها المقاومة وما يُزعم أنها عمليات لجماعة 
«أنصار الإسلام» الكردية من جهة؛ والحرب على الإرهاب من جهة أخرى. يقول 
الرئيس بوش في معرض إشارته إلى جماعة «أنصار الإسلام» التي جرى القضاء عليها 
بتحريض من الزعيم الكردي جلال الطالباني ما يلي : 

:إن الأعمال العسكرية الأمريكية اق الحراق في رمن الزن هق اهلان 
في أفغانستان» . 


في هذا الإطار فقط› برز من جديد اسم أبو مصعب الزرقاوي الذي يُزعم انه 
مرتبط بالقاعدة » وأن له علاقة بالنظام العراقي . 


ج - التلاعب بالمفاهيم التقليدية 


انطوى الغزو الأمريكي للعراق» كما لم يحدث في أي تجربة استعمارية سابقة» 
على نمط مثير من التلاعب بالمفاهيم التقليدية في مجتمع شرقي لا يزال يحتفظ بقوة 
تمنع شديدة» ال اي عارلة لتخيير فاه وتصورات وار اا ر أن 
المقاومة في عصر ما بعد الاسشتراق هي إرهاب» والاحتلال هو تحرير» والعراق 
الجديد هو امتداد لأفغانستان جديدة» فقد أصبح كل مدافع عن بلده خائناً. إن 
التلاعب بمفهوم «الخيانة» ومفهوم «الوطنية؟ بإعادة تعريف «الوطنية؛ كتجسيد 
للتعاون مع الاحتلال» وبالعكس» كل خيانة تتجسد في المواجهة معه؛ لا تعكس 
نوع التزييف الإعلامي الذي تقوم به صحف أو جماعات مهووسةء وإنما يعكس 
طبيعة نشاط وعمل العسكريين الذين يفرضون احتلالهم على الأرض . يتجلى هذا 
التلاعب في أشكالٍ وحالات لا حصر لها » مشلا : تباهى الرئيس جورج . دبليو. 
بوش ١0(‏ تشرين الأول/ أكتوبر )23٠١7‏ أي بعد بضعة أشهر من احتلال بغداد» 
وأمام جمهرة من الأمريكيين» أن قوات بلاده افتتحت في هذا اليوم جسراً في 
العاصمة العراقية . لم يلفت هذا التصريح المقتضب انتباه أحد من المراقبين السياسيين» 


۹ 


ولم يشر بطبيعة الحال أي سؤال» هل يقصد الرئيس الأمريكي أن القوات الأمريكية 
أقامت جسراً جديداً في بغداد وان الحاكم ا ماني بول بريمر قام بنفسه بافتتاح هذا 
الجسر؟ أم يقصد أن الشركات الأمريكية ية قامت بترميم جسر قديم دمرته الحرب؟ في 
الواقع» لم يكن هناك أي جسر جديدء كما لم تقم الشركات الأمريكية بترميم ا 
جسر قديم. كل ما في الأمر أن إدارة بريمرء ومن أجل البرهئة على أن كل شيء في 
العراق على ما يرام وان الإرهابيين تم تحطيمهم وهم يُزمون» وأن كل شيء في 
العراق المحتل بات هادثاً ومقبولاً من السكان؛ سمحت » أخيراًء للسيارات والمارة 
باستخدام جسر ١5‏ تموز/ يوليو المعروف باسم الجسر المعلق» المؤدي إلى المنطقة 
الخضراء. مقر قوات الاحتلال» والحكومة المؤقتةء ومجلس الحكم» بعد أن جرى 
إغلاقه» طوال الأشهر الماضية» لأسباب أمنية . هذا التصريح مثله مثل سائر الخطب 
والتصريحات والإعلانات الأمريكية المتكررة» كان له هدف مدد يندرج في سياق 
الإيحاء لجمهور واسع» أن الأمريكيين دخلوا بلاداً شبيهة تماماً بأفغانستان» لا يوجد 
فيها جسر واحدء وأنهمء ولأجل تخفيف معاناة المواطنين المحرومين الذين 
«اضطهدهم الرئيس العراقي صدام حسين» بقسوة وحرمهم من رؤية الجسور؛ قاموا 
اليوم بإنشاء جسر فوق نهر دجلة» وأن إدارة بريمر وبمشاركة أعضاء في مجلس الحكم 
المؤقت قاموا بافتتاح مهيب وكرنفالي . 

بعد ثلاثة أيام فقط من تصريح الرئيس بوش» قامت قوات الاحتلال بإعادة 
إغلاق الجسرء على أثر سلسلة من عمليات القصف بمدافع المورتر نفذتها المقاومة 
العراقية» واستهدفت مقر الحاكم الماني نفسه (ولن لا يعرفون جغرافية بغداد سنذكر 
هنا أن الجسر المعلق يؤدي إلى القصر الجمهوري الذي أصبح مقراً لبريمر) . 

في هذا الوقت» سلطت شبكة الإعلام العراقي التي تديرها قوات الاحتلال» 
الأضواء على بدء الموسم الدراسي الجديد في العراق» ونقلت صوراً لا تخلو من 
التصنيع » لأطفال عراقيين يعودون إلى مقاعد الدراسة؛ بينما راحت وسائل الإعلام 
الأمريكية تركزء من جانبهاء على الأطفال العراقيين الذين عادوا إلى مقاعد الدراسة 
بعد أن حُرموا منها. هذا التخيل المثير للعراق» بحيث ترسم له صورة شبيهة ببلد 
لا يعرف الناس فيه المدارس ولا الجسور ولا المستشفيات» هو استطراد في تخيل 
أعم . ١‏ 

لم يعد العراق هو بلد القنبلة النووية الوشيكةء ولا بلد #العلماء المتوحشين» 
الذين ينشغلون في صنع الجرائيم» ولا بلد المصانع الحربية المخيفة التي تصنع طائرات 
عملاقة» من دون طيار» تستطيع الطيران خسمئة ساعة متواصلة؛ وفوق ذلك؛ لم 
يعد العراق» بكل تأكيدء بلد المختبرات المتنقلة والصواريخ المزودة برؤوس حربية» 


0° 


والتي ستضرب قلب واشنطن ولندن خلال خمس وأربعين دقيقة. كل هذه الصور 
تبددت فجأة» وتحول العراق إلى بلد متخلف» لم يترك فيه الدكتاتور أي أثر للمدنية . 
كان «دكتاتوراً قاسياً خان شعبه». هكذا كان الرئيس بوش يختم توصيفه لصدام 
حسين في كل مرة. إن تعبير «خان شعبه؛ الذي كرره الرئيس بوش خلال الفترة 
الممتدة من أيار/ مايو وحتى تموز/ يوليوء لا يبدو مفهوماً من دون إدراجه في سياق 
الصور النمطية . الخائن لشعبه ليس هوء تماماء العائد مع قوات الغزوء وليس هو 
المتواطئ» أو المتعاون معها. إنه الآخر الذي اختار المقاومة. ويبدو أن بعض مثللى 
النخبة الثقافية العربية كانوا يدركون بعمق» مغزى هذا التعريف الجديد للخيانة؛ 
ولذاء قامواء كل من جانبه بإعادة إنتاج التعريف الأمريكي . يكتب وحيد عبد المجيد 
في الإتحاد الإماراتية (الوطنيون والخونة في العراق)"" ما يلي : 


«الوطني العراقي الحق إذاء هو الذي يعمل من أجل إنباء فوضى السلاح 
والقضاء على الإرهاب في أسرع وقت . والخائن العراقي» بالتالي» هو الذي يصر على 
تصعيد الاضطرابات وشن الهجمات المسلحة؟ . ْ 


برأي عبد المجيد «إن تصنيف الناس إلى وطنى وخائن هو من ميراث الحقبة 
الاستعمارية» وإننا «وحدنا نحن العرب الذين يضيع عندنا أهل السياسة الوقت 
والجهد في مشاحنات» وكثيراً ما يمتد الخلاف فيصل إلى اتبام أحد الطرفين للآخر 
بأنه خائن». ما يقوله هذا النص ما بعد الاستشراقي «إننا وحدنا نحن العرب» وليس 


(0) والمثير أن صحيفة الحزب الشيوعي العراقي أعادت نشر هذه المقالة باهتمام نادر. انظر: طريق 
الشعب» ۹/۷/ ٤٠٠۲ء‏ وعبد المجيد» «الوطنيون والخونة في العراق». تقول صحيفة الزمان العراقية الصادرة 
في لندن» والتي يشرف عليها الصحافي العراقي سعد البزاز» في ۲٠٠١ /۳ /٠٤‏ وفي تعليق لافت عل أنباء 
صحافية نشرتها وكالات الأنباء ما يلي : «أكدت وزارة الداخلية التشيكية أن حوالى ٠‏ عربیاً بينهم 7١‏ عراقياً 
عملوا #جواسيس» في جهاز الشرطة السرية التشيكية (أس. تي. بي) خلال الفترة التي سبقت انهيار النظام 
الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا. ومن بين هذه الأسماء العراقية من يعملون في مؤسسات مهمة ومنهم من يحمل 
مسؤولية سياسية خطيرة في أحزاب سياسية» فالسيد م. ج. (من الحزب الشيوعي العرافي) قد ورد اسمه 
كمخير لهذا الجهاز وإسمه الحركي «غوستاف؛ وكذلك السيد ح. ع. الذي عمل مذيعاً في إذاعة براغ (القسم 
العربي) وس ع. أحد قادة الجمعيات الطلابية في الخارج. إضافة إلى عدد من الأجانب والعرب مثل علي أكبر 
رضا وعلي حسين محمد وآخرين. ومع أن أغلبية الذين عملوا في جهاز أمن الدولة كمخبرين» مازالوا 
موجودين في الجمهورية التشيكية ويعملون في مهن حرة من دون أن يتعرضوا إلى مضايقات من قبل النظام 
الجديد. وعبرت وزارة الداخلية عن الأسف لعدم موافقة الهيئات العليا في الدولة التشيكية على كشف أسماء 
عرب وعراقيين آخرين» من كانوا يعملون لصالح المخابرات السوفياتية السابقة (كي. جي. بي) ويحتلون مراكز 
متقدمة في أحزاب ومؤسسات دولية معروفة وكان بعضهم ما زال يعيش في الأراضي التشيكية» المثير للاهتمام 
أن «م. ج۔ المعروف باسمه الحركي غوستاف» والمذكور في بيان الداخلية التشيكية أصبح وزيراً للثقافة في 
العراق ثلا الحزب الشيوعي العراقي بعد احتلال بغداد». 


01 


الآخر الغربي» مَنْ يستخدم تعبير تعبير الخاد ثن؟ لماذا؟ لأننا متخلفون ورجعيون بينما 
(خارج هذه التطقة بتعامل التاس بعضهم مع بعض على أساس أنهم مواطتون أي يكن 
الخلاف)”*"' . وبيئما يصر نص عبد المجيد على أن تقسيم المواطنين تحت الاحتلال هو 
E ES‏ ا ال 
يمكن أن يبدد هذا الادعاء ما بعد الاستشراقي بسهولة. بهذا المعنى يصبح تغيير 
المفاهيم التقليدية جزءاً من نشاط ما بعد الاستشراق 


د من تغيير المفاهيم إلى تغبير الثقافة 


ما يميز تجربة الاحتلال الأمريكي للعراق» ويجعل منها تخطياً بوسائل شديدة 
العنف لكل التجارب الكولونيالية الكلاسيكية السابقة» هو أنها قامت منذ اللحظات 
الأولى على أساس أنها مواجهة ة ثقافية عنيفة ضد عدو يمتلك «ثقافة شريرة» . إن 
السلوك الجنسي المشين لجنود الاحتلال في الفنُوجة والرمادي” *" والذي يبدأ 
باغتصاب النساء المحجبات داخل المساجد المهدمةء ولا ينتهي برسم شارة الصليب 
على أبواب المساجد» وفي السياق تمزيق القرآن والعبث بمحتويات الجوامع أثناء 
ادامات هو نمط غير مألوف من الاحتلال بوصفه مواجهة ثقافية شاديدة العنف 
والشراسة»› يقوم فيها طرف قوي ضد طرف آخر ضعيف . . إن إعادة تصوير صدام 
حسين في صورة رجل عار كما أظهرته صحيفة بريطانية يوم الجمعة ١4‏ أيار/ مايو 
6 بعد تصويره اكخائن لشعبه؛ بحسب قول الرئيس الأمريكي ؛ هي استطراد في 
نشاط «ثقافى» هادف إلى تدمير الشعور بالعار عند العراقيين» الذين ا 4 
ثقافة إحساس بالعار» في مجتمعات المنطقة . بينت صور الرئيس صدام حسين» بعد 
أسره» عارياً أو شبه عارٍء وفي الصفحة الأول من الصحيفة البريطانية مصحوبة 
بتعليقات ساخرة» أن الطابع القديم للحرب الاستعمارية لا يزال قوياً ومؤثراً في لندن 
كما في واشنطن» وأن هذا النمط من الانتهاك للخصوصية الشخصية؛ ليس سوى 
استكمال لانتهاك خصوصية المجتمعات الشرقية نفسها . منذ الآن» لن تعو د صورة 
الرئيس صدام حسين مزيجاً من بن لادن والملا عمر وحسب؛ بل مزيجاً ممائلاً من أمير 
شرقي وسجين «شرير» سقط في قبضة آخرين لا يعرفون متعة أفضل من متعة انتهاكه 
بالتلصص على غريته في الحمام . لقدتلاشت صورته القديمة كزعيم قوي 


(۲۸) انظر : طريق الشعب» 9/ 4/ 27٠١4‏ وعيد المجيدء «الوطنيون واللنونة في العراق». 


(۲۹) انظر: فاضل الربيعي» «نساء «أبو غريب» : بزوغ مجتمع اغتصاب نموذجي في العراق الجديد 
(إعادة بناء الرواية الناقصة عن فضيحة سجن أبو غريب):» المستقبل العريء السئة ۲۸ء العدد "١5‏ 


(حزيران/ يونيو .)5١٠١68‏ 


YoY 


وطموح”' ". كما صوره الغرب طوال أكثر من ثلاثة عقود» محاطاً بنساء عراقيات 
عالمات سماهن المعارضون العراقيون سيدات الجرائيم . إنه الآنء وكما يشتهيه 
الغرب» أمير شرقي أسير أعاد «الصليبيون""' " في جولة جديدة من حرب قديمة 
ومستمرة» أسره من أجل التلصص على «خصوصيته» والاستمتاع برؤيته عارياً . 


إن صورة «الرجل الشرقي» وهو يستحم» تنتسب بكل يقين إلى عصر 
الاستشراق الكلاسيكي ورؤاه الأيروتيكية في كتابات وفوتوغرافيات مثْليِي الجنس 
من الرحالة والمستشرقين. بيد أن استكمالها عبر رسم صورة جديدة هي خليط من 
السياسة والثقافة والإيروتيكياء يتطلب في عصر ما بعد الاستشراق» الدخول إلى 
خدع الأمير الشرقي نفسه (سجنه الشرقي) بحثاً عن متعة أخرى من متع مشاهدة 
واكتشاف العري . بيد أن أكثر ما يثير الفضول والاهتمام في صورة صدام حسين» 
بالنسبة للغرب اليوم» والاستمتاع برؤية عريته القابلة للانتهاك (خصوصيته الشخصية 


)۳١(‏ تصف وثيقة سرية بريطانية من أرشيف جهاز الاستخبارات البريطاني سياسات الرئيس صدام 
حسين (نائب الرئيس في العام الذي كتبت به الوثيقة )۱۹۷١‏ بأنها ستكون إثباتاً حقيقياً على صحة سياسات 
حزب البعث. وأن هذا النجاح سوف يغذي ثقة متعاظمة في الحزب. كما تعدد الوثيقة إنجازات الحكومة 
العراقية. تقول الوثيقة وهي عبارة عن رسالة من السفارة البريطانية في بغداد إلى دائرة الشرق الأوسط بوزارة 
الخارجية والكومنولث في لتدن ما بلي (مقتطفات): 

«(سري) 

من: السفارة البريطانية في بخداد 

إلى: أي. ماكلوني 

دائرة الشرق الأوسط 

مكتب وزارة الخارجية والكومنولث 

التاريخ : ۱۲ نيسان/ أبريل 191/6 

عزيزي إيان. 

الموضوع: الاحتفالات بالذكرى السنوية لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي 

- رفعنا إليكم تقريراً بالاحتفالات التي نُظمت بمناسبة الذكرى السنوية الثامنة والعشرين لتأسيس حزب 
البعث العربي الاشتراكي في ١7‏ نيسان/ أبريل 174 في برقيتنا رقم 1174 

- كان خطاب الرئيس اليكر (أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية) عشية السادس من نيسان/ أبريل في 
الأساس أنشودة مديح وإشادة بالجيش والحزبء ولكن في الوقت نفسه كان خطاباً صريحاً للغايةء فقد تم 
الاعتراف بخطورة التمرد الذي حدث في كردستان (.. .). وجدت الخطاب مثيراً للاهتمام. لقد ارتكب 
الفصيل الكردي وهو «سلطة قمعية واستبدادية» خطأ الاعتقاد بأن النظام الحالي غير قادر على مواجهته. النقطة 
الأخرى المثيرة للاهتمام هي الإشارات الدينية المتكررة في خطاب البكرء فهو لم يكتف بافتتاح خطابه بالبسملة 
وإنما هناك فقرة كاملة يشكر فيها الله على تحقيق النصر على الأكراد. وهذه الإشارة الدينية تتناقض مع خطب 
صدام حسين التي لم انظ فيها حتى البسملة.(..) وما لاشك فيه إذا ما تم حل المشكلة الكردية بالفعل» أن يعد 
ذلك إثباتاً على صحة سياسة حزب البعث ولاسيما سياسة صدام حسين». انظر : المدار (بغداد) (۲۸ كانون 
الثاني/ يناير 5 .)5١١‏ 

(1) استخدم الرئيس الأمريكي يوش » كما هو معلوم» تعبير «الحرب الصليبية». 


YoY 


كرئيس) ليس هوء تاماًء الفضول والاهتمام نفساهما في سبعينيات القرن الماضي . ما 
كان يثير الغرب» حقاً» أنه لا يبدأ خطبه السياسية العقائدية بالبسملة. وقد أشارت 
يثير و 
برقية صادرة عن السفارة البريطانية”"" في بغداد عام ۱۹۷١‏ موجهة إلى الخارجية 
والكومنولث»› إلى الفارق الجوهري بين خطب أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية 
وخطب نائبه صدام حسين. هذا الفارق لا يتحدد في نطاق السياسة كما قد يظن 
القارئ؛ بل في نطاق الثقافةء فأحمد حسن البكر يفضل استخدام البسملة» بينما لا 
يلحظ السفير البريطاني أن نائب الرئيس يفعل ذلك . رمزياً؛ كان البريطانيون 
يتلصصون على خصوصية صدام حسين السياسية منذ سبعينيات القرن الماضي ١»‏ ولكن 
من زاوية أخرى مختلفة» وفي إطار موضوع ثقافي مختلف» ومن دون استنتاج أي 
شيء. . كان الدين (الإسلام والبسملة على وجه الخصوص) هو موضوع التلصص› 
بينما حلت العْرية محله كموضوع أثير وجديد جدير بالتصديق. 


أما الفارق الجوهري الحقيقي بين الاستشراق القديم وما بعد الاستشراق» 
وداخل هذا الحيز من معاينة صورة الآخر؛ فإنه يكمن في نطاق مواز: فالخرب قاع 
ااي E o‏ 
واحداًء سردية أخرى فيها كل ما يلزم من الإثارة» عن رجل قوي وطموح لا بعتم 
باستخدام البسملة» كما يفعل البكر في خطبه» وهو يعاني فوق ذلك من آلام في 
ایر يمكز ا لأجل اكتشاف «الّعرية» الشرقية قية المخبأة. وكما تلاشت فى 
الاستشراق الجديد كل صور النساء العراقيات العالمات والطبيبات والمهندسات» 
وحلت محلها صور نساء مضطهدات خرمن التعليم» وكما تلاشى العراق القديم 
كمصدر لخطر علمي ‏ عسكري» فقد حلت صور أخرى تلائم هذا النوع من 
الانتهاك: نساء مغتصبات أو مضطهدات حرمهن صدام حسين من التعليم على غرار 
ما فعل ملا عمر بنساء طالبان. 


١"-رمزيّات‏ الانتهاك 
سنقوم» هناء بدراسة ثلاث أساطير «ما بعد استشراقية؛ شائعة في العراق؛ 
عمل المخياليون الأوروبيون والأمريكيون على نشرها قبل الغزو بسنوات طويلة» ومن 


(۳۲) أشارت برقية أخرى مؤرخة في ١‏ كانون الثاني/ يناير ١‏ إلى استعداد بريطاني لمعالجة نائب 


الرئيس من آلام يعاني منها في العمود الفقري. لكنه فضل» فيما بعد الاستعانة بالأطباء الكوبيين ين «عزيزي 
جيه. أيه. غراهام لا أقترح بأي شكل أن تقدم النصيحة لصدام حول توافر العلاج في المملكة المتحدة؛ فإنكم قد 


تجدون المعلومات مفيدة في تلقيكم اتصالاً من العراقيين بهذا الخصوص. المخلص: : قي. جي. . كلارك». انظر: 
المدار (۲۸ كائون الثاني/ يناير °( 


Y0 


وثيق عمليات انتهاك جنسي واسع النطاق. إن مقاربة مفهومية «لصناعة الأساطيرة 
هذه بين عصر الكولونيالية الكلاسيكية وعصر «عودة الاستعمار إلى الشرق؟ سوف 
تبين وإلى حد كبير» طبيعة الوظائف التي :مض ما بعد الاستشراق بعبثئهاء والطرق 
والأساليب التي اتبعها على مستوى صياغة موضوعات الخطاب الكولونيالي الجديدء 
وهي من دون شك طرق ووسائل اتسمت بديناميكية عالية؛ جرى خلالها استلهام 
منتظم للموضوعات الاستشراقية القديمة من أجل إنشاء واستنباط رمزيات جديدة 
من داخل الرمزيات القديمة . 
أ الأسطورة الأول : نساء طالبان العراقيات 
«منالؤكد أن أعناق ا جنس اللطيف - حتى العهد التركي -أق ل تعرضا حبال الشائق 
وسيوف ال جلادين من رقاب أزواجهن» ولذلك منت الرجال زوجاتيم حرية معتبرة في 
العمل والتصرف » وف يكثير من الأحيان يعز زا حجاب و«اليشماغ» بكل ما يافهما من 
فغموض شجاعة النساء» . 
جي . إيه . أوليفييه 


(رحلة في الإمبراطورية العشمانية) 790 


«إن لالا ف يالله من نساء العراق أميات . علينا مساعدتهن وتعليمهن وتدريبهن» . 
سو كيل 


عضو الكونغرس الأمريكي عن نيويورك بعد زيارة بغداد 7٠١7‏ 


عندما كتب أوليفييه هذا النص» قبل ما يزيد عن مئة وسبعين عاماًء من زيارة 
عضو الكونغرس الأمريكي» السيدة سو كيلي بغدادء كان عالم «ألف ليلة وليلة؛ 
يتراقص أمام عينيه وهو يتجول في أسواقإستانبول. كل امرأة محجبة بدت في نظره 
في تلك اللحظة من التأمل» موضوعاً قصصياً تخيلياً عن سيّاف أحمق سوف يستشيط 


۳ ) انظر: جودي مايروء حقائق غائية خلف الحجاب: تصورات الرحالة الغربيين عن النساء في 
الشرق الأوسط» ترجمة وتحقيق معين الإمام (دمشق: دار نون للدراسات والنشر والتوزيع » ۱۹۹۷)ء و .6.۸4 
Olivier, Voyage dan i'empire Othoman, 'ègyple et la Perse: Fait par ordre du gouvernement, pendant les six‏ 
.96 .م ,)1828 premières années de la Rèpublique ([s. 1.: s. n.],‏ 


Yo0 


غضباً ليطيح عنقها. وكل امرأة تضع النقاب» وعيناها تتلصصان من خلفه» وهي 
تمشي في الأسواق المزدحمة» بدت كما لو أنها امرأة مسكونة مباجس الخوف؛ هاربة أو 
تحاول الهرب من قدرها الذي يتربص بها . كانت قصص شهريار العراقي (الذي 
سوف تتم مائلته في ما بعد بصورة صدام حسين) تنتشر في الغرب» ويتم من خلالها 
تصعيد من نوع مرضي لصورة الرجل الشرقي الذي يضرب أعناق النساء بسيفه» 
وكانت قصص شهريار الجنسية حاضرة بقوة في الصور الاستشراقية الأولى. مع عصر 
الفتوحات الاستعمارية للشرق» بدا أن طغيان هذه الصور هو من النوع الذي لا 
يقاوم . ولكن» سرعان ما انتقلت رمزية الحجاب و«العقال البدوي؟ هذه» من حيز 
الثقافة إلى حقل السياسة دفعة واحدة. م تعد موضوعاً اثقافياً» رومانسياً؛ بل 
أصبحت جزءاً من عالم سياسي يزداد غموضاً وتعقيداً . ومعهما انتقلت محاولة فهم 
العربي» من كونها حلقة دراسية» غرضها التعرف إلى الثقافة والحياة الاجتماعية؛ إلى 
عمل لا يعوزه التصميم» ولا الرغبة المهينة #للآخر المتوحش والبدائي»» وبطبيعة 
الحال» الرغبة الفظة فى تخيله كبربري؛ وذلك قصد تعديل رمزيات الشرق» أو حتى 
إعادة تكييفها سياسياً لتتلاءم مع قيم الغرب الكبرى والحديثة . 


في هذا النطاق ساهم الاستشراق بحيوية» في الربط بين كل محاولة «لفهم 
العربي على حقيقته»» وبين التعرف على مغزى وفعالية هذه الرمزيّات في حياته؛ 
وجرى على أيدي أجيال من الكتاب والرحالةء استلهام واستنباط منظومة قيم 
افتراضيةء زعم أنها تقيد العربيء وتتغذى من إسلام راكد تتحكم تعاليمه في 
تصرفات الشرقيين وأفعالهم . ولذلك ارتبطت «أساطير الاستشراق» الأولى والمبكرة» 
بوجود فعالية استثنائية لكل فكرة وخاطرة وخيال وتصور يدور حول «عالم النساء 
المهددات على الدوام بقطع أعناقهن»» حتى من دون أن يكون هناك سبب منطقي 
واحد لفكرة «الذعر من سيوف الجلادين «الرجال» كما ارتأى نص غيه. أوليفييه 
الفرنسي . 

إن كل ما قام به ما بعد الاستشراق» في نطاق هذه الصور المطردة المشحونة 
بالخوف الغريزي؛ إنما هو قلب التصور الشائع رأساً على عقب: فالنساء الشرقيات» 
لسن في الواقع أقل تعرضاً من الرجال لخطر «الجلادين حاملي السيوف؛ بل الأكثر 
عرضة منذ العهد التركي. ولكن؛ وفي سياق عملية «أفخنة العراق» عثر الأمريكيون 
على مادة أسطورية نموذجية قابلة للتطوير في هذا الاتجاه» ويمكن من خلالهاء فضلاً 
عن ذلك كله» التعرف بدقة أكثر على ملامح «سيّاف» عراقي متنكر في ثياب الملك 
شهريار . إنه جلاد من هذا العالم الغامض وقد شخص ببصره نحو المرأة ذاتها المهددة 
بالموت . استخدم الأمريكيون هذه الصورة الخيالية» وعلى نطاق واسع؛ كأساس 


0 


صلب لادة دعائية رخيصة وديماغوجية» كان المعارضون العراقيون يروجون لهاء 
أصلاء وقاموا بتسريبها إلى كبريات الصحف قبل بضع سنوات سابقة على الغزو. 
أنشأ الأمريكيون واحدة من أكبر أساطيرهم عن هذا البلد قبيل الحرب بقليل» انطلاقاً 
من الصور الاستشراقية القديمة المعدلة المذكورة آنفاً وقبل أن يتبين لاحقاً وبجلاء» أن 
لا أساس لها في الواقع 

تقول الأسطورة كما جرى تداولها: إن صدام حسين قام بقطع أعناق عدد من 
النساء العراقيات (العاهرات) وتعليقهن فى الساحات العامة فى بغداد والجنوب. لا 
أحد بالطبع شاهد الجثث وهي تُعَلقء ولا اد راى رؤوسا يائعة حان:وقت قطافها 
حتى عندما كان «شهريار العراقي «البعثي» القومي» والذي لا يحب ابتداء خطبه 
بالسملة ؛ في أقصى درجات انفعاله وغضبه الهستيري من العاهرات» المسافرات إلى 
عمان بعد الحصار. وحتى كتابة هذه السطور» عندما مر أكثر من نصف عام على 
الاحتلال» ثم عامان ونصف حين كنت أواصل كتابة فصول الكتاب. لم تقدم 
الولايات المتحدة» أو أي جهة مستقلةء دليلا واحداً وموثقاً يدل على صحة الرواية . 
هذه المادة الدعائية كانت في صميم عمل الاستشراقيين الحدد. 


لقد انتقلوا من وصف المستشرقين الكلاسيكيين لعالم الأتراك حيث «أعناق النساء 
أقل تعرضاً لحبال المشانق وسيوف الجلادين»» إلى وصف أعناق النساء العراقيات 
المتطايرة بسيف صدام. في وقت ماء وطوال السنوات القاسية من العقوبات الدولية» 
كان هذا النوع من المواد ضرورياً للغاية بالنسبة للأمريكيين» ويلائم مزاجهم. على 
الأقل» لأجل رسم صورة أفغانية متكاملة للعراق» فالنساء هنا أيضاً أصبحن عرضة 
للاضطهاد والقتل الشنيع بواسطة السيوف . وما دام صدام حسين في المخيال 
ا ا ا ل اا وحزب البعث العربي 

شتراكي بات شبيهاً بطالبان» فمن الضروري العثور على نساء مضطهدات ت تقطع 

بهن السيوف . لا بد من نساء طالبان عراقيات يمكن العثور على صورهن المعذبة 
الي في آرت بدا نره ود حرمت من لهاب فى اشاس وجرى انها ف 
لأرواعهن وران اله . على هذا النحو بدأت تنتشر في الصحف الأمريكية 
والأوروبية والفضائيات الغربيةء وبالتلازم مع قصص الإرهابيين المسلمين» صور 
وقصص غرائبية تدور كلها حول الحكاية ذاتها؛ نساء طالبان الجديدات اللواتي يكتشف 
الغرب حجم الفاجعة في حياتهن التعيسة في أزقة بغداد. 

في هذه الأثناء» وحين كانت الأساطير تنتشرء تجباهلت وسائل الإعلام الأمريكية 
القصص الواقعية والحقيقية والحية عن النساء اللواتي كن يظهرن في التلفاز باكيات 
نائحات على منازلهن التي هدمها الجيش الأمريكي في الجباعية بفلسطين المحتلة أوفي : 


Yo¥ 


الفلوجة و«أبو غريب؛ والخالدية في العراق» أو على الحقول والمزارع التي تجرفها 
البلدوزرات الأمريكية في بعقوبة وبهرز وضواحي غرب بغداد. وتم» على الضد من 
هذاء الترويج من جديد لحكاية عاهرات بغداد مقطوعات الرؤوس . في الأول من 
كانون الأول/ ديسمبر ۲٠٠۳‏ قررت الحكومة البريطانية» على عجل» ومن دون سبب 
واضح › إرسال بعثة مؤلفة من عدة نساء بريطانيات متخصصات بحقوق الإنسان 
وقضايا المرأة إلى العراق» لا من أجل معاينة أوضاع النساء العراقيات التي أصبحت 
مخيفة تحت الاحتلال؛ بل للتفتيش عن أدلة تتعلق بجرائم النظام السابق بحق النساء . 


كان البريطانيون يفتشون عن أدلة تخص جرائم شهريار العراقي في عصر ما بعد 
الاستشراق . ومن بين هذه الجرائم» ما رُعم أنه عمليات قطع رؤوس لنساء عراقيات 
متهمات بممارسة الدعارة م الوقت كانت التقارير القادمة من بغداد إلى 
العاصمة البريطانية» لندن» ت تشير إلى استمرار وقوع عمليات قتل وحشية ضد النساء 
البعثيات؛ وتجاوزت حالات ال ٠١‏ حالة 
موثقة» عدا حالات الاغتصاب الفظيعة التي يصعب التصريح بوقوعها في مجتمع 
محافظ مثل المجتمع العراقي بحسب شهادات روابط نسائية تشكلت حديثاً في بغداد. 
جاءت الخطوة البريطانية عقب عودة وفد نسائي من الكونغرس الأمريكي يوم ۲ 
تشرين الثاني/ نوفمبر ۲٠٠۳‏ من زيارة للعراق تركزت على جولات في بغداد 
والموصل . تقول إيلينا روس ليتنن عضو الوفد ما يلي : 


«لقد التقينا نساء من مختلف الطبقات الاجتماعية. بعضهن على درجة عالية من 
الثقافة . كانت تطلعات غالبية النساء واحدة بغض النظر عن أوضاعهن الاجتماعية». 


هذا التصريح المقتضب يمكن أن ينسف من الأساس «الصورة الأفغانية» للمرأة 
العراقية كما شاءتها وسائل الإعلام الأمريكية» ذلك أن وحدة التطلعات بالنسبة إلى 
نساء من مختلف طبقات المجتمع ؟ أي مجتمع وبصرف النظر عن الدين والثقافة ودرجة 
الرقي الاجتماعي» هي دليل قاطع على أن هذا المجتمع» وفي أحلك الأوقات» مكن 
قطاعاً أساسياً منه» بقوة الثقافة والتقاليد والتعليم الحديث» على حد سواء» من تحقيق 
حضور ديناميكي لحياته الداخلية والإجتماعية؛ فهن طبيبات ماهرات ومدرسات 
ومهندسات وعالمات. ومع ذلك ظلت النظرة ما بعد الإستشراقية طاغية على الطريقة 
التي رأى فيها الوفد النسوي الأمريكي نساء العراق؛ فقد رأت السيدة سو كيل أنمن 
أميات في الغالب (نحو ١‏ في المئة) . فجأة تلاشى حضور النساء العالمات وتبدد في 


.۲٠٠۳/۱۱/۲ انظر الصحف ووكالات الأنباف يوم‎ )۳٤( 


504 


الفضاء . هذه النسبة التي تعطيها كيلي لا تنبني على أي معطى دراسي له قيمة علمية» 
كما إنها لا تستند إلى تقرير إحصائي حقيقي؛ علماً أن العراق حاز على جائزة 
اليونسكو لمحو الأمية عن السكان منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي؛ وأصبح مجتمعه 
منذ الثمانينات يعج بعدد هائل من العالمات والطبيبات والمهندسات› وهر البلد 
الشرق أوسطي الوحيد الذي تملك فيه نقابة المهندسين أكثر من مئة ألف عضر“ 
بينهم عدد كبير من النساء الشابات . إنها على وجه أدق» نسبة النساء اللواتي أمكن 
التعرف على أوضاعهن في بغداد والموصل . ولكن ما السبيل إلى تعليمهن وتدريبهن؟ 
تضيف كيل وزميلتها جنيفر دان عن ولاية واشنطن: 
«زرنا معهداً للشرطة كانت تتدرب فيه بعض النساء ليصبحن عناصر في الأمن». 
الحداثة إذاء من منظور ما بعد الاستشراق» هي تدريب النساء ليلتحقن بجهاز 
الشرطة؟ وتماماًء كما تصرف الأمريكيون مع نساء طالبان في أفغانستان» عندما عملوا 
على تركيز أبصار العالم كله على الصورة الوحيدة للمرأة الأفغانية ما بعد طالبان حيث 
تزع الشادور الأفغاني» عندئل» وجرى على وجه السرعة تدريب النساء ليلتحقن بجهاز 
البوليس الداخلى ؛ فإن نساء الكونغرس الأمريكى سوف ينظرن إلى المهمة الوحيدة 
امتروكة لنساء طالبان العراقيات ؛ تكرار النموذج النسوي الأفغاني عبر "نزع الشادور 
العراقي» والالتحاق بجهاز البوليس . على هذا النحو تلاشت صور النساء العراقيات 
المهندسات والعالمات والطبيبات» وحلت محلها صور نمطية جديدة تظهر فيها جرع 
صغيرة ذات طابع استعراضي» من اتسا اللو حومهن اقام الديكتاتوري السا 
من الالتحاق بدورات الشرطة؟ هذه الانطباعات الزائفة وما بعد الإستشراقية عن 
النساء العراقيات كانت تستمد أهميتها من كونها ذات طابع أسطوري» سوف يكرس 
صوراً خيالية قديمة . اللافت في زيارة الوفد النسوي الأمريكي انه تجنب قول كلمة 
واحدة عن النساء اللواتي كن يتعرض للاعتقال العشوائي من قبل جنود الاحتلال؛ كما 
تم تجاهل» حقيقة» أن عدا كبيراً من النساء أصبحن رهائن في سجن «أبو غريب“ 
وسجن مطار بغداد والجادرية في هذا الوقت” ''"» بعد أن القي القبض عليهن بأمل 
الضغط على أزواجهن» أو أبنائهن لإرغامهم على الاستسلام؟ تقول عضو الوفد عن 
ولاية فلوريدا تعليقاً على ما صرحت به زميلتها كيلي : اإنبن يدركن أن الولايات المتحدة 


)۴١( .‏ من إحصائية رسمية موثقة موجودة ف في أكثر من موقع على شبكة الإنترنت. 

(77) أثناء زيارة الوفد كانت هناك أرقام غير رسمية عن أكثر من ٠ ٠‏ معتقل في سجون الاحتلال» 
انظر : الربيعي» «نساء «أبو غريب»: : بزوغ مجتمع اغتصاب نموذجي في العراق الجديد (إعادة بناء الرواية 
الناقصة عن فضيحة سجن أبو غريب6)6: وعبد الجبار الكبيسي في القدس العربيء والتي أعيد نشرها في نداء 
الوطن الصادرة عن التحالف الوطني العراقي. 1 ١‏ 


54 


الأمريكية تبذل قصارى جهدها لمساعدتبن في تحقيق أهدافهن؟. ما هي هذه الأهداف؟ 
تقول زميلتها ليتين من ولاية أوهايو: «في السنوات الأخيرة لم يسمح صدام حسين لهن 
أن يتعلمن › ويُردن الآن لبناتبن مستقبلاً زاهراً؛ . 


المثير للدهشة فى هذه الانطباعات أنها تكرر الصورة الأفغانية ذاتها وتعيد نسخها 
لتطبيقها على نساء العراق : «أكدن سعادتهن بالتحاق بناتهن بالمدارس الآن». تقول 
عضو آخر في الوفد تعليقاً على انطباعات زميلتها من أوهايو. أصبح العراق في عيون 
نساء الكونغرس» فجأة» عراقاً أفغانياً بفضل أسطورة النساء «مقطوعات الرؤوس»؛ 
فالطاغية الذي لا رحمة في قلبه «منع الفتيات من الالتحاق بالمدارس». انه بالفعل 
مزيج من بن لادن والملا عمر. بالطبع يمكن مُضاهاة هذه الأسطورة عن نساء 
عراقيات سعيدات بالتحاق بناتهن بالمدارس» بالصور والإشارات الأسطورية ذاتها 
التي بزغت مع فجر كابول الجديدء عندما طوردت طالبان وهزمت وفرت إلى تورا 
بورا. ها هنا أخيراً» نساء سعيدات للغاية هنا وهناك» في بغداد كما في كابول. 


لقد أمكن أخيراء بفضل القصف الوحشي الأمريكي» إرغام الملا عمر ونسخته 
العراقية صدام حسين على الفرار» وفتحت المدارس أبوابها في بغداد أمام الفتيات؟ لا 
تستحق هذه الانطباعات الكاذبة التي خرج بها الوفد النسائي» حتى إلقاء نظرة نقدية 
عابرة لشدة سخفها وسطحيتها وابتذالها» ومع ذلك فإن إدراجها في هذا السياق قد 
يكون ضرورياًء من أجل رؤية الأثر المدمر الذي تركته هذه الأساطير. سوف يصدق 
ملايين الأمريكيين والأوروبيين هذا النوع من الصناعة ويتحول صدام حسين مرة 
أخرى إلى «مجرم نموذجي حرم الفتيات العراقيات من الذهاب إلى المدارس»؟ بينما 
نعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي نبهت العالم كله إلى خطورة نظام التعليم 
المتقدم في العراق» وإلى وجود جيش من العالمات في «الذرة» و«الجرائيم؛؟ كل ما كان 
يهم الأمريكيين والبريطانيين من حكاية النساء هذه ليس الجانب الواقعي المتعين 
والملموس؛ بل الغرائبي المشوّق والرومانسي الذي يروي ظمأ المتلقي الغربي لصورة 
أفغانية نموذجية» نمطية وسكونية إلى النهاية عن مجتمع أفغاني آخرء يكتشفه الغرب 
وقد تجلبب برداء البعث . ليس ثمة ما يمكن مُضاهاته من هذه الصور بما يماثلها في 
الاستشراق الاستعماري الكلاسيكي» سوى الصور ذاتها للنساء العراقيات والمصريات 
أيام الاحتلال الفرنسي والبريطاني: حريم شرقي شبقي متلهف جماعياً للتحرر 
والإفلات من القيود. الغريب أن البريطانيين أنفسهم هذّلوا في منتصف السبعينيات 
ومطلع الثمانينيات لنجاح العراق المذهل بقيادة صدام حسين» نائب الرئيس يومئلٍ» 
في تعليم النساء الأميات وحصول العراق على جائزة اليونسكو في محو الأمية؟ 
وهكذاء وعلى الطرف الآخر من منتجي الصور الإستشراقية؛ انشغل الحزب الشيوعي 


556 


العراقى» ومن دون جدوىء عبر منظماته النسائية» فى مساعدة الأمريكيين للعثور 
على الرؤوس المقطوعة؛ ويمكن العودة إلى مزيد من التفصيلات الموثقة» إلى صحيفة 
الحزب «طريق الشعب؛ التي عاودت الصدور فور احتلال بغدادء ولأجل الإطلاع 
على المقالات والريبورتاجات التي كتبت عن أسطورة «النساء مقطوعات الرؤوس؟. 
لقد استرد الغرب من خلال هذه الأسطورة» الشرق القديم الذي يرغب فيه مثلما 
استعاد بفضلها الصورة المشوقة والمسلية للملك الشرقى شهريار ؛ هذا المتوحش الذي 
يواصل من دون توقف ضرب أعناق «النساء الشبقات». 


من منظور تقنيات السرد؛ فإن الراوي الجديد للأسطورة يمكن أن يصبح طرفاً 
في إعادة إنشائها؛ في اللحظة التي يقوم فيها بإعادة تركيب الصور باستخدام طاقته 
ومواهبه فى التخييل» ويغدوء» مع الوقت وتطور أشكال السرد المستقبلية» مالكاً لها؛ 
ار ا وثقافى» كمحاولة لإعادة الشرق 
برمته إلى ماضيه . إنه الماضى المشوّق الذي يريد الغرب الحفاظ عليه كخزان لا ينضب 
للحكايات. وعند تخوم هذا العمل» سوف تتبدد أوهام الحداثة و«التحريرا» وسوف 
تحدث مفارقة غير قابلة للتجاوز ؛ فالسارد والأسطورة يسيران فى اتجاهين متعاكسين . 
ستذهب الأسطورة إلى الماضي وهي تعيد سرد المشاهد القديمة المتخيلة لقتل النساءء 
فيما السارد يتجه صوب المستقبل مطوراً تقنيات السرد لتلبي أغراضه السياسية 
وإشاراته ورمزياته. إن فكرة «تحرير العراقيين من الاستبداد» سوف تترنح أمام هذا 
النمط من التخيل؛ لأنه يعيد العراقيين إل الماضي ولا يدفع بهم إل المستقبل . وعلى 
الضد تماماً مما كان الأمريكيون يصرحون به؛ فقد بدت عملية «إعادة بناء أسطورةة 
قديمة وتركيبها في إطار جديدء كأكبر محاولة للخداع والغش. لم تكن هناك #رؤوس 
مقطوعة؛ ولم يكن هناك «جلاد» شرفي يذبح النساء . 


- الأسطورة الثانية : جمانة الهندية وماتيلدا الأمريكية 
«استودع في ا لرأة العرب بية ك ل تفاهات العرب النراكمة وه يتو ر في الأجيال الشابة 


1 نير رجعيا وضاراً . وهذا أم رلا نظو رآثاره كثيرا في الصحراء » حيث يعيش الرجال 
والنساء صيشة أقرب ما تكون إل البهائم. 9 . ) لقد وق ع الحظور ول يعد هناك من 


. فائدة فالعري مرتد بطبيعته»‎ 
نورمان دوغلاس‎ 
77 (ينابيع في الرمال)‎ 
Norman Douglas, Fountains in the Sand (London: Martin Secker, [1912]). (Tv) 


1 


امرارا قي ل لنا في الأسابي عالأخيرة» ربما لتلطيف مشاعرناء إن ما فعلناه في «أبو 
غريب» ليس شيا مقارنة بالإعدامات وصنوف التعذيب أيام صدام حسين» . 


جاكلين روز 


(«أبو غريب» تحت ضوء فرويدي)0*”) 


أثناء رحلته إلى الصحراء الجزائرية في القرن الماضي؛ كتب نورمان دوغلاس هذا 
النص المريع عن «تفاهات؛ المرأة العربية التي هي باقتضاب «تفاهات» العرب المستودعة 
فيها. في الواقع لا مجرؤ سوى رحالة القرنين الماضيين على كتابة هذا النوع من 
الانطباعات» التي لا تمثل فيها أحكام قاطعة من هذا النوع» مصدر مفاجأة بالنسبة إلى 
معظمء أو كل قراء النصوص الاستشراقية» ممن يعرفون جيداً وجهات نظر الرحالة 
الأجانب. بيد أن مصدر المفاجأة والإثارة على حد سواء سوف يكمنان» مع ذلك» 
خارج هذا النوع من الأحكام وخارج النص نفسه . وحين نعلم أن «التفاهات6 
المستودعة عند «المرأة العربية» نفسهاء > هي ٠‏ تماما وبالضبط مصدر وعي الغرب 
للشرق؛ فإن مصدر الفهم الشائع» والأكثر طغياناً في المؤلفات الصادرة؛ اليوم» عن 
عالم العرب» بشكل عام» وعن العراق بشكل خاص» سيغدو مفهوما . ثمة تارمخان 
لسجن «أبو غريب؛» ولكنهما يتجليان في الأسطورة التالية» بشكل ساطع» كتار ین 
متنازعين . أحدهما تاريخ مزيف أنشأه الغرب بذاته» ولذاته» بحسب تعبير ماركس(أي 
لأغراضه الخاصة ولاستعماله الخاص) والآخر تاريخ حقيقي قام الغرب أيضاً بإنشائه» 
ولكن من دون رغبة في كشفه» أو استعماله علناً . إنه تاريخ سري قد يستحيل التعرف 
على وقائعه. لقد سعى إلى التستر عليهء وحجبه بكل الوسائل» وذلك هو التاربخ الذي 
عبرت عنه فضيحة لأبو غريب» . بيد أن هذا التاريخ سرعان ما أفتضح بالرغم من كل 
تدابير السرد «السرية؟ وتطايرت شظاياه» على أثر مقالة سيمور هيرش الصاعقة في 
نيويوركر"' عن فضيحة تعذيب السجناء. وكما أن هناك تاريخين يتنازعان داخل 


(۳۸) انظر: سعدي يوسف. ««أبو غريب» تحت ضوء فرويديء ‏ الاتجاه الآخر (بغداد)» ]۲٤‏ ۷/ 

Jacqueline Rose, «In Our Preset-day وهي مقتطفات من دراسة أعدتها جاكلين روزء انظر:‎ ٤ 
White Christian Culture: Jacqueline Rose on Freud and the Rise of Zionism,» London Review of Books, 
vol. 26, no. 13 (July 2004). 

(۳۹) انظر: سيمور هيرش : القيادة الأميركية العمياء: الطريق من ١١‏ أيلول إلى سجن «أبو غريب» 
(بيروت: الدار العربية للعلوم »)3٠١6‏ و«المنطقة الرمادية: كيف انتقل برنامج سري للبنتاغون إلى «أبو 
غريب»» ' المستقبل العري. السنة ۲۷ العدد ٠٠١‏ (تموز/ يوليو 5 »)5٠١‏ نقلاً عن: New Yorker (24 May‏ 
.(2004 


1۲ 


السجن على قول الحقيقة للعالم؛ كانت هناك امرأتان أيضاً تنازعتا بشراسة على 
«التفاهات المستودعة لدى المرأة» بأكثر مما تنازعتا على قول الحقيقة . أحداهما امرأة 
شرقية هى جمانة حناء والأخرى «غربية» أمريكية تدعى ماتيلدا انجلند المجندة صاحبة 
الصورة الشهيرة. المرأتان التقتا في وقتٍ متقارب من الناحية النظرية التجريدية داخل 
المع نفس زرا ال انه نسي ؛ ؛ لكن الأولى كانت تقوم بدور السجينةء فيما 
الثانية تقوم بدور السجانء بوصفها مجندة في الجيش الأمريكي عند احتلال بغداد. 
سأروي لكم في هذا الجزء من الفصل » الأسطورة الاه بون ابو ا كنا 
رواها الغرب بصوتهء استناداً إلى ما كتبه مالكوم لاغوش وسارة سولوفيعش4”7) 
لأنبما المصدر الوحيدء تقريباًء الذي نملكه اليوم للأسطورة في نسختها الكاملة وغير 
المشذبة» والذي سأعتمد عليه مبدئياء في إعادة بناء التاريخ السري . 


كان سجن «أبو غريب» طوال سنوات من الخنصومة» والعداء المكشوف للعراق» 
وبالنسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية» م مصدر لإنشاء شرق خيالي» بتعبير إدوارد 
سعيد . هذه المرة لم يكن غرض ما بعد الا ستشراق «إنشاء شرق آخر»؛ بل على الأرجح 
إنشاء «عراق آخر يظهر فيه صدام حسين في هيئة ملك شرقي» يحتفظ بنساء عاشقات 
حميلات وحبيسات السجن الرهيب . وبينما راح الجمهور الأمريكي يتتبع بأنفاس 
مقطوعة ٠‏ أدق التفاصيل عن السجن والممارسات التي قيل له أنها «مذلة ومهينة بشكل 
لا يوصف»؛ كان جنرالات البنتاغون يضعون آخر اللمسات على عمليات التحضير 
للغزو من أجل «تحطيم الباستيل العراقي» وتحرير «النساء الشرقيات الأسيرات». في 
هذا الوقت (مطلع )7٠١7‏ كانت ماتيلدا انجلند تتأهب للالتحاق كمجئّدة بوحدتها 
العسكرية المرسلة إلى جبهة الحرب» بينما كانت جُمانة حنا العراقية تصل إلى الولايات 
المتحدة الأمريكية قادمة من بريطانياء ولتخدو بسرعة» بطلة شعبية تعم صورتها البطولية 
مدن الولايات المتحدة الأمريكية» بفضل الواشنطن بوست» التي اهتمت أكثر من 
المعتاد بنشر «أسطورتها» في سجن «أبو غريب». لم يكن هناك من هو على استعداد 
لتكذيب البطلة» أو التشكيك بروايتهاء أو «تفاهاتا المستودعة»» بحسب نص 
نورمان دوغلاس عن المرأة الشرقية التي أستودع العرب لديها كل «تفاهاتهم». لقد 
كانت الدرر والجواهر تتساقط من فم جْمانة بينما يرتفع سعرها في بورصة الإعلام» 
وتغدو غالية الثمن» ومطلوبة وضرورية مع أنها تبدو للناظر في صورة نفايات . 


على غير توقع بعد احتلال بغداد مباشرة» وحين أصبح سجن «أبو غريب» تحت 
سيطرة وإدارة الجيش الأمريكي» تداعت أركان الأسطورة» وتلاشى التاريخ الزائف 


)٤۰(‏ مالكوم لاغرش (6عناوع 1.2 3:ه8131) وسارة سولوفيتش (501001469 5353). كاتبان أمريكيان. 


1 


الذي أنشأه الغرب» كما لو كان فقاعة . لم تكن هناك رؤوس مقطوعة ولا عاشقات 
و او ولكن؛ بدلاً من الحديث عن «تفاهات؟ المرأة العربية 
كما فى عصر الاستشراق؛ فإن الغرب وإزاء قضية مفرطة الحساسية تحص ما بعد 
الاستشراق في الصميم بوصفه «علم اكتشاف العرب المسلمين» وجد نفسه مرغماً 
وهو يتحدث بشىء من الرطانة عن «تفاهات امرأة شرقيةة بعينها خدعته بأكاذيبها. 
رمزياً وبحسب منطق السرد الأسطوريء بدت المرأة كما لو أنها كانت» في تلك 
اللحظات» وحيث روت قصة موتها وبعثها من جديد» تتمثل التاريخ الكولونيالي 
برمته من التضليل والخداع والغش» وإلى الحد الذي أصبحت فيه منافساً عنيداً للغرب 
في «صناعة» الكذب والنفاق. مع اكتشاف الغرب لفضيحة ««أبو غريب» جانة»» أي 
السجن الذي قامت الضحية المزعومة بإنشائه خيالياً وتصورته» «أصبح هناك من 
ينافس الغرب بعناد وتصميم عجيبين على تأليف الأساطير «الضرورية واللازمة. 
وذلك» ما أغضب الغرب كله» وأثار حنق واستياء الأمريكيين بشكل أدق . 


كان سجن «أبو غريب» في تلك الآونة من «اختراعهم» وأساطيره من صنعهم . 
وما كان ضرورياً وجود ساردٍ منافس تعج روايته بالأخطاء والهفوات المدمرة. ثمة 
امرأة شرقية» مع ذلك من صنعه واختراعه و«خلقهة وقد خرجت إلى الملا لتنافسه على 
سرد الرواية. لم تأت الضحية الشرقية من حكايات «ألف ليلة وليلة» ولا من صحراء 
الجزائر (عندما كتب دوغلاس نصه) بل جاءت من المكان نفسه الذي تخيله الأمريكيون 
كمكان خيالي» للرعب حيث يجري تعذيب النساء في أقبية سرية . لقد جاءت من 
السجن الذي سوف تخدم فيه ماتيلدا انجلند كسجانة . قبيل الحرب على العراق كان 
السجن حاضراً بمهابة في وسائل الإعلام . وهكذا؛ لم تنل قضية تعذيب من الاهتمام 
وتسليط الأضواء المصحوب بالصخب واللغط» ما نالته قضية حمانة حنا. ولم تنل 
قضية «تفاهات مُستودعة» تقوم بها امرأة بعينهاء من السخط والاحتجاج في أوساط 
الرأي العام الأمريكي من جراء التضليل والخداع» ما نالته قضية جانة حنا أيضاً. 


' في هذا الوقت وحين كانت جمانة تتحول من بطلة شعبية إلى «بطلة فضيحة» 
تتعلق بالغش والخداع» كانت ماتيلدا انجلند تتولى سراً مسؤولية «مداعبة» السجناء 
وملاطفتهم جنسياًء وذلك بسحبهم من أعناقهم بواسطة حبال مخصصة للكلاب وهم 
عراة . لكن أحداً لم يكن ليعلم بعد بما يجري في «الباستيل الجديد» فيما فضيحة جمانة 
تدوي وتصبح ملء السمع والبصر. نالت قصة تعذيب جمانة حنا وهي فتاة عراقية 
مسيحية هاربة من «جحيم صدام حسين» من الاهتمام والضجيج الإعلامي في 
الولايات المتحدة الأمريكية مالم تنله أي قصة أخرزى» حيث مزيج الحب والرعب 
والقتل والمهانة والاغتصاب والقتل الوحشي والرغبة والفساد التام وحتى الشعور 


Y4 


بالحرية. وكما كتبت سارة سولوفيتش في مجلة ايسكواير"“ فإنها كانت بالنسبة 
للأمريكيين أشجع شاهد على «رعب صدام؟. كان الجمهور الأمريكي مستعداً 
ومتعطشاً كذلك» لكي يرمي بنفسه في مياه النبع الباردة والمنعشة دفعة واحدة» 
ليرتوي كما لم يفعل في أي وقتٍ آخرء وكان نبع الأسطورة الجديدة الشيقة والمسلية 
يتدفق فوق صفحات كبريات الصحف» وفي أمواج الأثير وفي المقابلات الحميمة 
والمثيرة التي أجراها بول وولفوويتز وبول بريمر ونقلتها شبكات التلفزيون الأمريكي 
على الهواء؛ حين كانت جُانة تتمتع بمهابة المحاربين من أجل الحرية وترتدي ثيابهم . 
وكان الجمهور الأمريكي مستعداً لتصديق كل حرف وكلمة وإشارة وحتى أي شيء 
يقال عن قسوة ووحشية «الملك الشرقي؟ الذي يضرب أعناق النساء . 


ولذلك استقبل قصة جْمانة حنا حين سربتها إليه وسائل الإعلام» بكل ما يليق 
بأكاذيب مصنوعة بقدر رفيع من الإتقان» ليعتبرها دليلاً قاطعاً على عدالة الولايات 
المتحدة الأمريكية وشرفهاء وعلى أن واجبها الأخلاقي يحتم عليها الآن وقبل الغده لا 
ضرب العراق وإنما تدميره وسحقه كذلك كما قال شوارتزكوف“ . بدأت قصة 
جُانة التي دوّنتهاء لأول مرة» صحيفة الواشنطن بوست في مطلع عام ٠٠١‏ قبيل 
احتلال بغداد» وطبقاً لما روته هي عن نفسها «عندما أرادت الزواج من شاب هندي 
يعيش في العراق؟. ولكن ذلك» بموجب «قوانين صدام الجائرة» كان مستحيلا» 
فالقانون يحرم على العراقيين الزواج من أجنبيات أو العراقيات من أجانب» كما تقول 
جمانة لكتاب الواشنطن بوست. ولم يقل أحد من الكتاب إن مثل هذا القانون لا 
وجود لهء كما لم يعلق رئيس التحرير يشيء من النشوة وهو يثني على المقالة . كانت 
حمانة» بحسب مزاعمهاء تدير متجرا صغيرا للبيع بالمفرد. وكانت زوجة صدام 
اعتادت التسوق منه. ويبدو أنها أخطأت حين اعتقدت أن مجرد وجود هذه العلاقة 
العابرة مع زوجة الرئيس» كاف للتقرب من النظام من أجل الحصول على استئناء من 
القانون. تقول حمانة عن نفسها «إنها خريجة جامعة اوكسفورد البريطانية عام ۱۹۸۲ - 
4 ., وأنها حصلت على «درجة ماجستير في المحاسبة٠»‏ وأنها ظلت تناضل من 
دون هوادة من أجل الحصول على استثناء من القانون المزعوم للزواج من حبيبها 


)61( انظر : Sara Solovitch, «The American Dream,» Esquire Magazine, vol. 143, no. 1 (January‏ 
.)2005 
انظر أيضاً مقالة مالكوم لاغوش (056لاههها 10ه!848) من ترجمة دجلة وحيدء على موقع شبكة البصرة 
العراقية فى 4/ ؟/ .5٠١8‏ 
(9) انظر: جيف سيمونزء التنكيل بالعراق: العقوبات والقانون والعدالة (بيروت: مركز دراسات 
الوحدة العربيةء 1۹۹۸)» وريتشارد هاس وميجان أوسوليفان» حرران» العسل والخل : الحوافز والعقوبات 
والسياسة الخارجية؛ ترجمة إسماعيل عبد الحكم (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشرء .)٠٠٠۲‏ 


56 


الهندي. لکن وبعد جهود مضنية تمكنت من الحصول على موعد للقاء عدي نجل 
الرئيس العراقي . تقول إنها «ذهبت إلى الموعد وانتظرت في غرفة معدّة للاجتماعات 
مدة ساعتين». بعد ذلك» وعلى غير توقع. حدث تطور دراماتيكي غيّر مجری 
الأحداث كلها في الحكاية؛ إذ ظهر فجأة «رجال عدي» المتوحشون ليضعوا غطاء 
أسود على رأسها. ثم قاموا بسحبها خارج الغرفة بقسوة. منذ تلك اللحظة قبعت في 
ا شاهدت وعاشت ت خلالها صئوفاً رهيبة من التعذيب . 
أدخلوها في «زنزانة بمتلئة بالكلاب المتوحشة التي أطلقت عليها وراحت تنهش 
جسدها» . ثم جرى اغتصابها مرات عديدة ومن دون توقف . «مارسوا معها اللواط» 
ضربت» وتعرضت لصعقات کهربائية»"“ , وخلال هذه السنوات علمت حمانة أن 
حبيبها الهندي قتل على أيدي رجال صدام . تقول وهي تروي أسطورتها إنها: 

«رأت شابات لا يتجاوز عمرهن ۱١‏ عاماً. صُعقن بالكهرباء ودفنٌ وهن في قيد 
الحياة . أما الأخريات فقد أكلتهن الكلاب بينما كان هناك نحو ٠٠١‏ سجيناً دفنوا في 

باحة الجن“ , 

بعد احتلال بخداد قابلت جْمانة الحاكم المدني للعراق السفير بول بريمر» الذي 
استقبلها في القصر الجمهوري وفي مكتب صدام حسين على وجه التحديد» وروت 
له قصة تعذيبها. ولشُد ما أثار عاطفتهاء حين رأته» وهو يذرف الدموع . كان بريمر 
يبكي كالطفل وهو يصغي إلى حكاية جمانة» بحسب رواية الواشتطن بوست. في ما 
بعل ضيحت ان امرأة مشهورة: فى الولايات المتحدة» وغدت بطلة شعبية رائعة 
من بطلات هذا الزمان. لكن سارة سولوفيتش (التي سوف يقع الاختيار عليها في ما 
بعد لكتابة مذكرات جانة حنا) كانت تبدو أكثر استعداداً للتدقيق في تفاصيل القصة 
البطولية من بريمر . بالنسبة إليها كانت هناك أشياء كثيرة غير قابلة للتصديق بالفعل 
في الترتيب الزمني للسرد والوقائع» وحتى في بعض الأرقام والمعطيات. كان لدى 
سارة القدرة والشجاعة الأدبية لكي تبدي قدراً من التحفظ عن «بطولة بطلتها»؛ حتى 


Solovitch, «The American Dream». انظر:‎ )٤۳( 
.٠٠٠۴۳ /۹/۸ وللمزيدء انظر: «أزمة تيويورك تايمز تتفاقم واستقالة محررين كبيرين» ؟ القدس العري»‎ 
في التاريخ نفسه. تكشف القالة عن‎ . < Mtp//:www.alquds.com.uk > والمقالة منشورة على موقع الصحيفة‎ 
طبيعة الأزمة التي تعرضت لها الصحيفة بعد افتضاح قيام حرر صغير بتزييف المفالات والتقارير التي كان يكتبها‎ 
من كل أنحاء أمريكا بينما كان قابعاً في غرفته. واعتذرت الصحيفة من قرائها ووعدت بتصحيح ما أسمته‎ 
«أخطاء جيسون بلير» وهو المحرر المقصود بالفضيحة. على أن أكثر القصص إثارة تلك المتعلقة بالعراق» فقد‎ 
لفق جيسون بلير الكثير من القصص عن العراق والسجون وأشكال التعذيب» كما قام بتلفيق شهادات جنود‎ 
أمريكيين يشاركون في العمليات العسكرية بعد الاحتلال.‎ 
Solovitch, Ibid. ١ (44) 


17 


وهي تغمرها بكلمات التضامن ومشاعر التعاطف . ثمة أمر ماء يبدو محيراً وغير قابل 
للتصديق في «التفاهات» التي سوف يكتشفها الأمريكيون لاحقاً. تقول سارة وهي 
تتمتم مع نفسها: جب أن تحال جُّمانة إلى الاستجواب لمعرفة الحقيقة». . رفض 
المسؤولون الأمريكيون في البداية» وتحت تأثير السحر المتعاظم لأسطورة بطلة 
الباستيل العراقيء وريا بحت شبغط الشعرر بالذغول لسماع ما يروى عل لبان 
البطلة؛ رفضاً قاطعاً ونهائياً فكرة إخضاع جانة للاستجواب كما طلبت سارة. م 
جرى في وقت لاحق» وتحت ضغط بعض الفضوليين الذين يريدون معرفة «المزيد من 
الحقيقة عن وحشية صدام حسين؟» عرضت جانة حنا على طبيب توليد» للتأكد من 
صحة الادعاء أن الجروح والندوب في جسدهاء والتي زعمت أنها ناجمة عن 
التعذيب» هي جروح وندوب حقيقية ناجمة بالفعل عن «عمل وحشي واغتصاب». 
بعد الفحص الدقيق لم يشاهد الطبيب أي علامة تدل على تعرضها للتعذيب. احتجت 
جمانة على نتاك تج التشخيض» واذعت أن الطبيب شخض جرم متنكر في الأصل» قاتل 
وشرير و«إنه الطبيب نفسه الذي كان يأمر بقتل النساء في السجن»*““. 


قالت جمانة» وهي تصر على أا رأت الطبيب هناك؛ كما أصرت عل أنها 
تعرضت للتعذيب في سجن (أبو غريب» . إثر ذلك قررت السلطات الأمريكية اعتبار 
الطبيب شخصاً غير كف وُرفضت نتائج فحوصه . في الولايات المتحدة التي تقلت 
إليهاء كررت جُمانة وهي تلتقي كبار مساعدي الرئيس بوش ونائب وزير الدفاع بول 
وولفوويتز قصتها المروعة . قام بول وولفوويتز بنفسه بإبلاغ لجنة العلاقات الخارجية 
في الكونغرس «بأن شجاعتها في الظهور العلني للإدلاء بمثل هذه المعلومات» من 
شأنه أن يساعد قوات التحالف على استئصال جذور البعثيين القتلة4. وخلال وقت 
قصير من ذيوع القصة» أضحت جُانة حنا مصدر إلهام لقوات التحالف من حيث 
شعبيتها في الولايات المتحدة الأمريكية. وعندئذٍ» وبتأثير من أصدقائها وجيرانها 
المعجبين بشجاعتهاء قررت أن تكتب كتاباً عن حياتها . 

كانت جُانة بحاجة لكاتبة قصة تحيي للغرب شخصية «شهرزاده» ولذا بحثت 

عن كاتبة تتمتع بمؤهلات خاصة لكتابة قصتها . وبعد تقليب الخيارات وافقت على 
لاون يع سارة رز یک لشي قبا ر الأول في 74 آب/ ام 104 
عندما جلست الكاتبة تبة قبالة البطلة وجهاً لوجه. وراحت تصغي بكل جوارحها إلى 
الأسطورة» وهي تروى بلسان البطلة» كانت إذ ذاك مسحورة ومستسلمة تماماً. لقد 
كان السرد شيقاً ومثيراً ويخلب الألباب . ولولا بعض المشاعر الغامضة التي انتابت 


(50) المصدر نفسه. 


TY 


سارة» بأن فى القصة كما كبيراً من التناقضات غير المفهومة. لا كان هناك شيء 
يمكن أن يفسد السردء الذي كان يترك مساحة لا بأس فيها من التحسّر والحزن على 
مصير شاب هندي تعيس زعمت أنه كان بطلها العاشق . 

ولذا رغبت سارة في استيضاح بضع نقاط ضرورية لأجل أن تكون القصة 
مقبولة اما . كان فضولها هو الدافع والمحرك الحقيقي للكشف عن معنى الالتباسات 
في الرواية الشيقة. تساءلت سارة: «ترى كيف يمكن لشخص تخرج من جامعة 
أكسفورد أن يتكلم إنكليزية رديئة إلى هذا الحده؟ ولم يكن هناك من جواب مقنع؟ 
بأنها ربما كانت «مرتبكة ومصدومة» بحيث لم يعد بوسعها تكلم الإنكليزية بطلاقة 
كما كانت تفعل في الماضي . ومع ذلك سارعت سولوفيتش إلى الاتصال بالجامعة 
البريطانية . سألت ما إذا ما كان «هناك فصل دراسي خاص بالمحاسبة؛ وما إذا كانت 
هناك ذات يوم طالبة ماجستير تحمل اسم جمانة حناه؟ تلقت سولوفيتش جواباً 
رسمياً قاطعاً بالنفي . وعندما راحت الكاتبة تبحث عن تاريخ بطلة القصة في 
العراق؛ بعدما أخفقت في العثور على أي قطعة من هذا التاريخ في بريطانياء عادت 
لتكتشف أن بطلتها لم تكن تدير متجراً للبيع بالمفرد؛ بل وكالة هجرة غير رسمية إلى 
الولايات المتحدة الأمريكيةء وأنها خدعت مثات العراقيين الراغبين بالفرار من جحيم 
العقوبات الاقتصادية» واستولت على أموالهم ثم عزمت على الفرار» كما إا لم تكن 
تحب» في الأصلء رجلاً هندياً» أو رغبت بالزواج من رجل هندي. مع الوقت 
تدفقت تفاصيل القصة وتلقفتها سارة بدهشة: أولاد عم زوج جمانة؛ أبلغوا 
سولوفيتش أنه عراقى وأنه توفى منذ وقت قصير فقط› وأن إلقاء القبض على حمانة له 
علاقة بأعمال نصب واحتيال ليس إلا. 


في هذا الوقت كان الأمريكيون ينشغلون في البحث عن المقبرة الجماعية التي 
زعمت جُمانة أنبا في باحة السجن وتضم رفات ١7١‏ سجيئاً . وفي هذا الوقت أيضاً 
كانت المجندة ماتيلدا انجلند تواصل مداعباتها #الجنسية» الشرسة للسجناء العراة في 
سجن «أبو غريب». أصبح سجن «أبو غريب» بتاريخيْه المتنازعين مرا 
اللخادعتين» تحت سيطرة وإدارة الأمريكيين المباشرة. لم يسمحواء آنئذٍء لأي منظمة 
دولية إنسانية بتفقد أوضاع السجناء. ومع هذاء لم يعثروا على أي أثر لذلك الجزء 
المروع من الأسطورة الخاص بالسجناء المدفونين في باحة السجن . لم تكن هناك عظام 
بشرية في «أبو غريب»؟ مثلما لم يكن هناك قسم للمحاسبة في اكسفورد» ومثلما لم 
يكن هناك شاب هندي في بغداد. على هذا النحو تداعت أركان الأسطورة بسرعة 
غير متوقعة . وفي الخال قررت الواشنطن بوست الاعتذار لقرائها عن تورطها في نشر 
«تفاهات مُستودعة عند امرأة شرقية» وأشياء لا قيمة لهاء عن بطلة مزيفة بِيّنت 


YA 


التحقيقات اللاحقة حقة أن بطولتها كانت من نسج الخيال. ولكن قيل للصحيفة» انعذ» 
أن مثل هذا الاعتذار سوف «يؤثر سلباً على قوات التحالف» ويظهر الأمريكيين 
بمظهر السُذّْج». وبسرعة غير متوقعة تلاشى التاريخ الزائف مثل فقاعة» وأخل 
مكانه لتاريخ حقيقي كان يُصارع بين جدران السجن لقول الحقيقة للعالم. تشوهت 
صورة البطلة وتشققت». والأسطورة تداعت حجراً بعد حجر ولكن لتحل «بطلة» 
أخرى» ستروي للغرب نفسه وبلسانه الرواية ذاتها. 

كان سجن «أبو غريب» بعد التاسع من نيسان/ أبريل 217١١1“‏ يغدو «أبو غريب 
ماتيلدا انجلندة. إنه سجنها الخاص الذي أعادت إنشاءه خيالياً» ليتلاءم مع متطلبات 
وتعليمات وظروف التسلية «بالأعضاء التناسلية» للسجناء الشرقيين العراة في الأروقة 
المظلمة . في هذا الوقت وحين تلاشى «أبو غريب جانة» أصبح «أبو غريب ماتيلدا 
انجلند» حاترا بقوة الفشنيوة الالخلافية . 0 ولكن في 
الاتجاه المضاد؛ فقد كانت هناك امرأة» من عالم ما بعد الاستشراق استرع الخرب 
لديا كل «تفاهاته». تقول ليندا في معرض تبرير تصرفاتها المشينة «نحن لا نشعرٌ أننا 
كنا نفعل أموراً كان يُفترض ألا نفعلها»"“ . لكن ما هي بالضبط هذه الأمور؟ كل 
ما فعلته المجندة صاحبة الصورة الشهيرة؛ هو أنها مارست بعض «التفاهمات» 
المستودعة لديهاء من قبيل شد الحبل المخصص للكلب من حول عنق السجين؛ ومن 
ثم سحبه عارياً على البلاطء بينما تتأهب هي وزملاؤها لالتقاط صورة تذكارية 
تتخللها بعض المشاهد «الحميمة؟. 


تكتب جاكلين روز في محاولتها قراءة وتفسير التاريخ الجديد لسجن «أبو 
غريب؟ من منظور فرويدي. بدلا من السمو بالعام إلى مراقي التمدن والحضارة» 
يبدو أن القوى الحاكمة في القرن الجديدء تجهد قدر طاقتهاء في محاولة أن ترد 
مواطنيها وأعداءها على حدٌ سواء أطفالاً قاصرين»"“ . على هذا النحو تشكل 
التاريخ الحقيقي لسجن «أبو غريب؛؛ كمزيج لزج من العنف والوحشية ومشاهد 
اس وة 2 إنه التاريخ السري للباستيل العراقي الجديد الذي أعاد 
الأمريكيون إنشاءه؛ خيالياً في المرة الأولى» وواقعياً في المرة الثانية . . في خضم 
الفوضى أنجبت الأسطورة «أسطورة» أخرى عن المكان نفسه والأبطال أنفسهم . 


Rose, «In Our Present-Day White Christian Culture: Jacqueline Rose on Freud and the rise (4 1) 
of Zionism». 


(/51) المصدر نفسه. 
(48) الربيعيء «نساء «أبو غريب»: بزوغ مجتمع اغتصاب نموذجي في العراق الجديد (إعادة بناء الرواية 
الناقصة عن فضيحة سجن أبو غريب)1. 


74 


ج - الأسطورة الثالثة : ماكينة تقطيع البشر في «أبو غريب» : 

تاريخان لسجن واحد 
اف يا حادي والعشرين من مار س/أذا ر ۰۳ ٠‏ يشت وكالة اليو. ب آي قصة صن شخص 
يدع ىكينيث جوزيف . قال جوزيف «صدمتني حكايات التعذيب البطيء فى سجن «أبو 
غريب»» جعلتن يأشعر با مرض . كانوا يضعون السجناء في ماكينات ضخمة «لفرما 
ا لتنجات البلاستيكية . وكانوا يتركون أقدا م السجناء «تفرم؛ أولا لكي يسم ع السجناء 

٠‏ صراخهم بينما «تعلك» الاكينات أجسادمم . زعم جوزيف انه كان بين الدرو ع البشرية 
هذا بين الدروع البشرية » فلم جد بينهم من سمع باسمه» . 


G0 
مالكوم لاغوش‎ 


اما يمك نقوله أن ما حدث في سجن «أبو غريب» ريما يصب حكناية فائلة للحرب على 

العراق» فا جنود الذين عذبوا السجناء في سجن «أبو غريب»» لا يمثلون ا جيش 
الأمريكيء لما ليك نأعضاء فصيل «کال» “© عام ۱۹7۸ يمثلون ا جي ش الأمريكي» . 

سکوت کو 

«أشباح فييتنام تطاردنا في «أبو غريب»٠‏ 


«واشنطن بوست» ۲۰۰٤/۹/۷‏ 


هذان النصان نموذجيان من حيث طاقتهما على إنشاء تار ين فاصلين لسجن «أبو 
غريب». أهمية النص الأول تكمن في قدرته على إحالتنا مباشرة» ومن دون وسائطء 
إلى الطرائق والأساليب التي تلجأ إليها وسائل الإعلام في إنشاء الأساطير الحديثة . لقد 
أصبحت وسائل الإعلام» أكبر منتج للأساطيرء بالفعل» وأصبح الإعلاميون 
والصحافيون ومعدو البرامج؛ هم القادة الميدانيون في هذه الصناعة التي تغدو منتجاتها 
مع الوقت» أكثر رواجاً» حتى خارج أسواقها المحلية. ما يميز هذه الصناعة 


() انظر مقالة مالكوم لاغوش عل شبكة البصرة عل الإنترنت ٩‏ شباط/ فبراير 0٠١6‏ وعجالاوك 
Magazine, vol. 143, no. 1 (January 2005).‏ 


(50) الفصيل المسؤول عن مذبحة قرية ماي لاي الفييتنامية عام .1۹٦۸‏ 
)٥۱(‏ سكوت كويرء "أشباح فيبتنام تطاردنا في أبو غريب»» الواشنطن بوست. 4/1/9 .5٠١‏ 


¥۰ 


ومنتجاتباء عن سائر الصناعات الأخرى» هو أنها الصناعة الوحيدة التي تقوم على 
اختراع و«إنتاج نوع فريد من البشر؟؛ مهمتهم الوحيدة أن يؤدواء بالنيابة عناء وظيفة 
الشاهد على وقوع هذا الحدث أو ذاك» أو على صحة وجود هذه الواقعة أو تلك . أو 
يؤدون أدواراً بطولية مثيرة يرغب المجتمع برؤيتها . كما إن هذه الصناعة تقوم على خلق 
«أبطال؟ لا وجود أي أساس موضوعي لهم› وعلى تلفيق وقائع وأحداث قد لا يكون 
لها أي سياق منطقي» أو تسلسل زمني . وهذا بالضبط ما يتجسد في فكرة «اختراع 
شاهد حي» أو «بطل» يُدعى جوزيف كينيث» الذي لا وجود له في الواقع . إنه بطل 
من صنع خيال ما بعد الاستشراق . ومع ذلك فقد كان #حاضراً؛ لتقديم شهادته عن 
صحة وجود ماكينات لتقطيع البشر» وضعها صدام حسين في سجن «أبو غريب». 


أما النص الثاني» فهوء. وفي سياق ختلف» نص يحدد على أفضل وجه» أهم 
القواعد الأخلاقية في عمل المستشرقين الجددء أي ذلك الجيش من الكتاب 
والإعلاميين والباحثين والمعلقين والسياسيين ومديري مراكز البحوث» الذين يقومون 
فجر كل يوم بإعادة إنشاء الشرق العربي المسلم وتقديمه إلى الجمهور الغربي. وهو إلى 
هذا كله» نص ينتسب بقوة إلى تقاليد ما بعد الاستشراق: «فما فعلناه فى هذا 
السجن» ليس» تماماًء ما فعلناه في قرية ماي لاي». فى هذه الحالة؛ فإن حدود 
المسؤولية عن الأفعال المرتكبة اليوم» في هذا المكان بعينه» هي مسؤولية ممائلة 
ومشاببة لمسؤوليتنا عن أعمال أخرى ارتكبها آخرون لا علاقة لنا بهم» وهي أعمال 
وقعت في الماضي ولم تقع اليوم» أي أنبا وقعت في زمن آخرء ومن تدبير آخرين 
حمقى. كما إن حدود المسؤولية الأخلاقية التضامنية؛ يمكن أن تغدو موضوعاً 
للجدال حول إمكانية رؤيتها على أنباء ومن حيث قيمتهاء «لاشي مقارنة بما فعله 
آخرون». أي أن مَنْ يحدد قيمتها وأهميتها وحتى درجة خطورتهاء ليس درجة الضرر 
الذي يُلحق أو ينجم عنها؛ بل استخدامنا لمعاييرنا الخاصة التي تحدد. وحدهاء أهمية 
أو خطورة هذا الحدث أو ذاك . 


إن المعيار الذي نستخدمه نحن الأمريكيين» وليس أي أحد آخرء هو الذي يحدد 
من الناحية الأخلاقية درجة مسؤوليتنا. ما حدث في «أبو غريب؛ من فظائع» يمكن 
إن يكون موضوعاً للمقاربة من هذه الزاوية مع مجزرة ارتكبها «أفراد؛ لا أكثر. 
وبالطبع هناك» دوما» أفراد يرتكبون جرائم مروعة وتخالفات مشينة» ولكنها ليست 
أفعالناء كما لا توجد في التاريخ جريمة ترتكب جماعياً؛ بل توجد جرائم يرتكبها 
أفراد لحسابهم أو لحساب جماعة أخرى. النصان معاء يمكن لهما والحال هذى 
أيضاًء أن يقدما فكرة ممتازة عن حقيقة أن المجتمع الحديث والمعاصر أصبح امجتمع 
إنتاج الأساطير»؛ وأن الفكرة القائلة إن المجتمعات البدائية والقديمة وحدها مجتمعات 


¥1 


«أسطورية1» لم يعد لها معنى أو دلالة؛ وهي لاتبدو صحيحة» قط › لأننا نعيش في 
عا معاصرء هو بامتياز» عالم إنشاء الأساطير. 


قبل أن يستمع العا م إلى القصص المروعة التي دارت في غوانتناموء أو يشاهد 
صور «فضيحة سجن «أبو غريب144» كان مالكوم لاغوش يعكف”"* على تأليف كتاب 
عن السجن نفسه . عاد إلى الوراء» بحثاء عن التاريخ السري الذي يجمع بين الفضيحة 
الأخلاقية و ee‏ الأكاذيب. في كتابه الحديد «المطرقة والنملة؛ (The Sledgehammer‏ 
and the Ant)‏ كد يسرد لاغوش سلسلة من «أساطير سجن «أبو غريب64 وهي أساطير 
يباه العارضول العرافيون الشابفرن في تشرهاء وتلقفها الأمريكيون لينسجوا من 
حولها حكايات وأقاويل لا ُصدق» ا ا ا 
تجري فيه على «أيدي جلاوزة» صدامء وأن الرئيس صدام حسين أضاف إلى أساليب 
التعذيب المعروفة في السجن» بعض الوسائل البشعة والجديدة. لكن أكثرها بشاعة 
كانت ماكينة تقطيع البشر وافرمهم ". بذلك أصبحت وسائل التعذيب في «أبو 
غريب» فريدة ولا مثيل لها في العالم . في ۱۸ آذار/ مارس ۲٠٠۳‏ وأثناء التحضير 
النهائي لغزو العراق. نشرت صحيفة التايمز البريطانية مقالة للنائبة العمالية آن كليود 
بعنوان «شاهد رجالا يُقطعون ثم قل إنك لن تدعم الحرب» . 


في هذا المقال زعمت كليود» التي أدلت بشهادتهاء تاليأء في مجلس العموم 
البريطاني عن هذا الموضوعء أن السجناء من الذكور في سجن «أبو غريب»» غالباً ما 
يوضعون داخل ماكينة صممت لتقطيع البلاستك» وأن بقايا هؤلاء السجناء مُقطعي 
الأوصال» كانت توضع في أكياس بلاستيكية لترمى كطعام للأسماك . تلقف رئيس 
الوزراء الأسترالي جون هيوارد الأسطورة وراح يطور تفاصيلها بخيال سقيم» من 
أجل دعم موقفه من شن الحرب. ثم وقف ليقول للجمهور الغاضب من اشتر تراك 
استراليا في غزو العراق: «إنه يشارك في الحرب من أجل إيقاف ماكينة فرم لحم البشر 
في «أبو غريب» عن العمل؟ ومن «أجل وضع حد للجرائم التي يقوم بها النظام 
الي نيهلا الوك كنت اندرو واناه نر الاي تابهر بن : إن تقرير 
شریر» بدورهم تلقف كناب فی صن البريطانية الفضائحية التي سوف تنشر صوراً 


(01) نقلاً عن مقالة مالكوم لاغوش على شبكة البصرة. 

(07) انظر: المصدر نفسهء وصور الرئيس العراقي السابق صدام حسين متوفرة على شبكة البصرة على 
الإنترنت» من ترجمة فاضل بدران» .٠٠١6 /0 /۲١‏ هذه الصور نشرت في صحيفة ذي صن (هبدى «1) 
البريطانية في 19/ / 7٠١8‏ 


¥ 


لصدام حسين في معتقله'**' تقرير كلود هذا. كما إن المحرر السياسي للصحيفة 
تريفور كافاناغ كتب قائلاً :إن معارضة بريطانيا للحرب شهدت تغيراً في العام الماضي 
بعد ما اطلعنا على تمارسات صدام حسين» حيث كان يشرف بنفسه على التعذيب 
الشنيع للعراقيين . الرأي العام الذي كان متأرجحاً من خلف توني بلير» علم أخيراً 
كيف أن صدام حسين كان يطعم ماكينة التقطيع الصناعي أقدام المعارضين قبل 
فرمهم». بعد وقت قصير من نشر هذه الأسطورة الخاصة بال ماكينة الخيالية الفظيعة؛ 
تعرضت كليود لأسئلة محرجة : من أين استقيتٍ المعلومات الخاصة بماكينة تقطيع 
السجناء؟ ردت : «قابلت رجلا عراقياً في شمال لندن وهو من أخبرني بالحكاية» . 
وعندما جرى سؤالها عن هوية العراقي قالت كليود لصحيفة سبيكتيز : «لقد سمعنا 
الحكاية من ضحية . نحن سمعناها وصدقتاها» . 


عاد بريندن أونيل الصحافي الذي أجرى المقابلة مع كليود في سبيكتيز يسأل 
عما إذا كان لديبا أي دليل» يدعم ادعاءات الضحية ضد مزاعم مضادة أخرى» تنفي 
وجود ماكينة التقطيع هذه؟ قالت كليود: #حسناً . كلاه . يفهم من هذا الجواب 
الممتبس والمرتبك أنها تنفي معرفتها بوجود أي دليل. على الفور باشر أونيل بتعقب 
خيوط القصة المثيرة» وراح يسأل العراقيين المقيمين في بريطانياء عما إذا كان لديم 
أي دليل عن الماكينة . أخيرأًء عثر أونيل على طبيب كان يعمل في سجن «أبو غريب» 
بين عامي ۱۹۹۷ - ۱۹۹۸ . 1 


قال هذا «كنا نعاين السجناء الذين يتوفون للتأكد من طبيعة وفاتهم . ثم نكتب 
شهادة الوفاة». ألم تكن هناك ماكينة تقطيع؟ سأله أونيل» واستطرد يستفهم منه ما إذا 
كان قد شاهد أو سمع» في أي وقت أي شيء» يتعلق بماكينات لتقطيع البشر داخل 
سجن أبو غريب؟ وعما إذا كان هناك أطباء فى السجن نفسه تحدثوا عن هذه الماكينات؟ 
رذ الطبيب قائلاً: «لا. لا. أبداً. طريقة قتل أو تعذيب السجناء الوحيدة المتبعة في 
السجن هي تعليق السجناء من» أيديهم وأرجلهم». في حزيران/ يونيو 7١١7‏ كتبت 
آن كليود مقالة أخرى في التايمز عن كتاب يسرد قصص وأساطير الرعب في سجن 
«أبو غريب»» والطرق الوحشية التي اتبعها النظام العراقي في تعذيب السجناء . كتبت 
تقول «إنها استقت معلوماتها من كتاب لمراسل أخبار محطة فوكس الأمريكية» جويبت 
كليود بسيل من الأسئلة بعد نشر المقالة : «قلت عن الكتاب أنه كتاب تدوين مخيف 
وبشكل دقيق. هل تعرفين مَنْ جمع مواد الكتاب:؟ ردت كليود: «كلا لا أعرف». 


(54) الصور التي يظهر فيها الرئيس بملابسه الداخلية في معتقله نشرت في ذي صن الفضائحية في 
/o f1۹‏ ۰0 


YY 


وما اسم مراسل أخبار فوكس؟ «ردّت كليود ثانية : الا اعرف . ليس لدي فكرة». ثم 
جابه كليود سؤالاً محرجاً: «سيدة كليودء هل قرأتٍ الكتاب»؟ . قالت «كلا 0 
باللغة العربية». يختتم مالكولم لاغرش هذا المقطع من كتابه الجديد «المطرقة والنمل؟ 
بالقول:إن الناطق الرسمي باسم منظمة العفو الدولية» وبعد سلسلة تدقيقات في 
حكاية ماكينات تقطيع البشرء قرر أنه وزملاءه لا يملكون أي شيء من المعلومات عن 
هذا الأمر. أما يّدْني براون من منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان هيومن رايتس 
ووتش (00هللا عن مدمسة) فقال: «لا نعرف أي شيء عن ماكينات تقطيع البشر 
في «أبو غريب»» ولم نبلغ بأي شيء عن هذا النمط من التعذيب أو القتل» . 

في النهاية كانت هناك أسطورتان عن المكان نفسه تتزاحمان في حقل الحقيقة» 
أحداهما مزيفة أنشأها الأمريكيون استناداً إلى روايات وأقاويل غير موثقة؛ ومستمدة 
في الغالب من أحاديث وتسريبات ساهم في تضخيمها سياسيون غربيون» قبيل 
الغزوء وأخرى حقيقية» قامواء هم أنفسهم» بصناعتهاء أيضاًء بمساعدة خفية » 
وغير مباشرة؛ قدّمها كتّاب ودارسون وباحثون ومفكرون كانوا يروجون لنظريات «ما 
بعد استشراقية» عتيقة وسطحية» ومؤسسة على فكرة واحدة تقريبا» تقول بوجود 
علاقة بين إحساس العربي بالعار من «الجنس؛ وبين تكوين العقل العربي/*”. 


إنه عقل خامل وغير ديناميكى يرى فى «الانتهاك الجنسي؛ عاراً؛ وأن العربي 
بفضل قوة التقاليد والثقافة الراسبة» يقاوم أي تغيير لفهوم «الشرف؛ ويشعر بالخزي 

من «أي ممارسة للجنس» يمكن أن 3 تقع بطريقة غير شرعية» أو شاذة في نطاق حياته 
الخاصة والأسرية في ااا ب ار تبددت الأسطورة الزائفة» 
وحلّت الحقيقية محلها . لم تعد هناك ماكينات في سجن «أبو غريب»» وم يعثر على أي 
أثر يصلح كدليل جنائي» مهما كان تافهاًء يمكن أن يدعم تلك المزاعم» تماماء” كما 
تلاشت أساطير الرؤوس المقطوعة . 


بعد غزو العراق» مباشرة» أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية» وجهاً لوجه 
أمام رأي عام عالمي ساخط وغاضب» من جراء الأنباء المفزعة عن أساليب انتهاك 


)٠١(‏ العقل العربي هو عنوان كتاب للمفكر اليهردي الأمريكي رافائيل باتاي (أداة اعهطام82). يعد 

الكتاب «انجيل المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة الأمريكية. يرى الكاتب أن نقطة ضعف العرب تكمن في 

Raphael Patai, The Arab find, with u foreword by Norvell 8. : «شعورهم بالعار» من «انتهاك الشر ف2. انظر‎ 

de Atkine (New York: Hatherlcigh Press, 2002). 

للمزيد من التفاصيل» انظر أيضاً: هيرشء المنطقة الرمادية : كيف انتقل برنامج سري للبنتاغون إلى 

أبو غريبء 2 والربيعي» «نساء «أبو غريب*: بزوغ مجتمع اغتصاب نموذجي في العراق الجديد (إعادة بناء 
الرواية الناقصة عن فضيحة سجن أبو غريب)». في هذه المصادر يمكن التعرّف بدقة على مضمون الفكرة. 


¥ 


السجناء على أيدي الجنود الأمريكيين؛ والتي تسربت آنئذٍ من داخل السجن نفسه؛ 
الذي لطالما نشروا القصص حوله واعتبروه رمزاً للانتهاك في عهد الرئيس السابق. 
وهكذا؛ ومع تداعي أركان أسطورة ماكينات تقطيع البشر في «أبو غريب»» حلّت 
أسطورة معاصرة» ولكن شديدة الواقعية» عن ماكينات من نوع آخر قام الأمريكيون 
بنصبها داخل السجن . إنها ماكينات الانتهاك «الجنسية التى جرى» طوال شهور. 
تشغيلها بكامل طاقتهاء من أجل مضاعفة إنتاج «الأفعال المشينة» لإرغام السجناء على 
الإدلاء بالمعلومات المطلوبة. بكلام ثانِ» أحل الأمريكيون محل الماكينة الوهمية ما بعد 
الاستشراقية» والمتخيلة لتقطيع أجساد السجناء في «أبو غريب».؛ ماكينة حقيقية 
للممارسات الجنسية الفاضحةء كما أحلواء من دون إرادتهمء ولا رغبتهم ا 
الأسطورة الواقعية والحقيقية عن سجن «أبو غريب» بوصفه مكاناً من إنشائهم؛ محل 
الأسطورة الخيالية و«المخترعة؟ عنه . 

وهكذا أيضاً جرى ومن دون أدنى تحفظ. أو مراعاة للجانب الإنساني» 
والاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تحرم انتهاك حقوق الأسرى والسجناء في 
الحروب؛ تطوير ممارسات شاذة وذات طابع غرائبي» من قبيل ممارسة لجنس 
الجماعي أمام السجناء» أو إرغامهم على ارتكاب الفاحشة» بعضهم مع بعض . في 
واحدة من الحالات الفاجعة في دلالتهاء جرى إرغام سجين معصوب العينين في 
«أبو غريب؛ على ارتكاب الفاحشة مع ابنه الذي كان معصوب العينين» أيضاًء (بعد 
إطلاق سراحه بيوم واحد فقط انتحر الأب التعيس)" . 


إن صورة ة #الماكينة الجنسية؟ التي 3 تم تشغيلها في «أبو غريب؟ لانتهاك أعراض 
السجناء والحط من كرامتهم» لن تون واضحة» أ رة عن دون رؤيتها من 
داخل المؤسسة العسكرية› حيث ترتفع باطراد نسبة الاعتداءات الجنسية التي يرتكبها 
«عسكريون أمريكيون؛ ضد «عسكريين آخرين». في «أبو غريب؛ وبوكا والحبانية 
والفلوجة والخالدية (”*» جرت على نطاق غير محدود وطوال عامي 7٠١4 7٠١‏ 


(51) يؤكد الكاتب صحة المعلومة الواردة في هذا النص والتي قدمها له مصدر موثوق يحتفظ باسمه 
لأسباب خاصة. 

(01) انظر: الربيعي؛ المصدر نفسه. ثمة معطيات مهمة في هذا الصدد؛ فقد اتضح أن الانتهاكات 
الجنسية شملت الفضاء الجغرافى للسجن حيث سلسلة من القرى والبلدات والمدن الصغيرة التى داهمها 
الأمريكيونء وقام الجنود ‏ خلال المداهمات ‏ بممارسات فاضحة؛ شملت أعمال اغتصاب وتحرش جنسي 
وإجبار النساء على التعري. كما أن عمليات اغتصاب مروّعة وقعت داخل مساجد الفلوجة. للمزيد» انظر: 
عبد الجبار الكبيسي «المقاومة الوطنية العراقية خيار سياسي موضوعيء » (كراسة صادرة عن جريدة نداء 
المقاومة الالكترونية التي يصدرها التحالف الوطني العراقي في نيسان/ أبريل 5 »)٠٠١‏ و«المرأة العراقية في 
سجون الاحتلال. » المدار (1١؟‏ أيار/ مايو .)7١١٠©‏ 


Vo 


ممارسات شاذة موازية للممارسات التى يذكرها تقرير خاص بالبنتاغون عن مثليى 
الجيش الأمريكي» وقد لاحظ العقيد جو ريتشارد المتحدث باسم البنتاغون أن هذه 
«الاعتداءات1 وخلال عامي ۲٠۰٠۳-۲‏ تتضمن فقط «الحالات التي كان فيها 
الضحية والجاني من أفراد القوات المسلحة» . إن الأرقام الواردة في التقرير» يمكن أن 
تقدم فكرة أدق عن الكيفية التي جرى فيها نقل «الاعتداء الجنسي الداخلي؛ من كونه 
ممارسة سرية» ومع هذا هي مُراقبة من فوق بصرامة؛ إلى «ممارسة خارجية». وهذا 
يعني أن الممارسات التي ارتاع لها العراقيون ولم يفهموا المقاصد والأغراض المباشرة 
منها؛ ليست ولم تكن سوى امتداد لثقافة سمح المعتنقيها؛ أن يقوموا بممارستها 
بحرية أكبر» ومن دون أن تكون هناك رقابة حقيقية . 


هذا الانفلات «للجنس القذر؛ وتحوّله إلى جزء عضوي من عقيدة القوة 
العسكرية› ينبئ بواحدة من أهم ملامح الاستعمار الجديد» فهو ليس مجرد عملية 
سيطرة على دولة» أو أرض» أو شعب آخر؛ بل هي في الصميم ومن دون 
مواربة» عملية مكشوفة ومرئية إلى أبعد حدّء لفرض قيم ثقافة «خاصة؛على «ثقافة 
عامة». الاستعمار الجديد» في نهاية المطاف ليس سوى أداة كبرى لنقل «ثقافة 
سرية» داخلية مُراقبة ومُتلصص عليها؛ إلى حيز جغرافي وأخلاقي «خارجي» غير 
مراقب . ولذا تصبح الكولونياليّات البيضاء الجديدة العائدة إلى الشرق العربي المسلم 
الذي «تشهاهة المستشرقون والرحالة من قبل» وبلغة فرويدية صافية»› نوعاً من 
عودة إلى «انتهاك تم إحباطه» من جانب ثقافات وطنية تمتلك قواعد أخلاقية 
صارمة . 


ليس ما يجمع معتقل غوانتنامو ف فى الجزيرة الكوبية النائية» وسجن ع «أبو 
غريب مجرد عام صغير مؤلف من أسلاك» وقضبان تجري تحت ظلالها الفظاعات؛ 
بل إن ما يجمع بينهما على وجه الدقة والضبطء عام مترامي الأطراف ولانبائي» 
دارت فيه فكرة ما بعد استشراقية مقيتة» عن الدواعي الأمنية الملحة لمتطلبات 
انتهاك خصوصيات «السجين الشرقي» ومعاملته كبهيمة» تماماً» كما تخيل نورمان 
دوغلاس السكان البدو في الصحراء الجزائرية . إن إخضاع السجين إلى أقسى أنواع 
التدريب على تحمل «الإهانة» وبواسطة القسوة الجسدية المسلطة عليه في كل لحظة» 
وإرغامه على قبول «ثقافة الآخر؛ والاستسلام أمامهاء ومن ثم حمله على التماهي 
مع تركيب جديد مغایرء ا إنما هو العمل الذي يتجسد فيه 
كلياً المعنى الحقيقي لا بعد الاستشر شراق. إنه العلم الجديد الذي سيحول سكان 
المستعمرات» الُعاد استغلالها أو المسيطر عليها والمهيمن على مقدراتها؛ إلى 
«حيوانات شرقية؛ داخل أقفاص رهيبة ممائلة للأقفاص النموذجية التي نشاهدها 


لف 


اليوم في غوانتناموء وتماماء كما كان الخال في فرنسا الثلاثيئيات بحسب ما روى 
(oA)‏ 
آلان جريس 0. 


أن يتبدى العام كعالم جديد من الأفكار التي صيغت بإتقان» ليبدو على درجة 
عالية من الوحشية وانعدام الرحمة؛ غير حدود» ولکن› مسيطرا عليه بنظام صارم من 
فلسفة «الإفراط في استخدام القوة1. فتلك بلا مراء هي وظيفة ما بعد الاستشراق 
وأن يتبدى العالم كعالم رخو ومُسيل وبلا حدود» أو تخوم «أو سيادات وطنية مُنتزعة 
BEE‏ ول ل CGT‏ 
مهووسين بالسيطرة؛ فتلك أيضاًء وبلا أدنى شك» من وظائف ما بعد الاستشر 
2 ا معد تصبح مهمة القوى الجديدة المهيمنة على العالم» وكما ارتأت 00 
“ إعادة E‏ إلى «طفولتهم» البشرية عراة وممزقي الوجدان بواسطة الانتهاك 
ا . وهكذا؛ وبينما كان السجانون في غوانتنامو يقومون بغارة ليلية على الأسرى 
والمعتقلين » حيث انہالوا عليهم بالضرب من دون ما سبب وقعت خمس حالات تدئيس 
للمصحف الشريف ؛ فى إحداهاء تبؤل عليه واحد من خسة جنود متهمين» قيل إنه 
هو نفسه مَنْ قام برمي المصحف في المرحاض . هذا التطوير «للممارسات الشاذة؛ في 
اتجاه آخرء بحيث تشمل انتهاك الوجدان الشخصيء وهذه هى الدلالة الرمزية الحقيقية 
للاعتداء على الرمزيات الدينية للسجين: المصحف, الصلاة» العبادات» يستلهم ترائاً 
استعمارياً ضخماً في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وعموم الشرق العربي . 


كان سجن «أبو غريب» يشهد غارة مماثلة يتكرر فيها مشهد التبوّل على 
الصحف» عندما كان سجناء غوانتناموا يقومون بإضرابهم احتجاجاً على تدنيس 
المصحف . في اليوم التالي» وبينما كانت التظاهرات تندلع في الباكستان» نشرت 
صحيفة أمريكية على صدر صفحتها الأولى «مانشيتاً» عريضاً تكمياً بصورة لا 
تصدق : (0إذزط5 واه4)'" . ما يقوله المانشيت قابل لأن يُقرأ فى صورتين «الشيعة 
المقدسة) و«الهراء المقدس» لتشابه طريقة كتابة (١ااط8)‏ (بمعنى عار» هراء» خرا). 
هذا التلاعب باللغة كان مقصوداً أيضاً. إنه نوع آخر من امتهان كرامة «الُحَرّرين». 
ولكن. وبينما كان الحديث يدور حول ماكينات تقطيع البشر في «أبو غريب» في 


- انظر : آلان جريش وطارق رمضان» حوار حول الإسلام: تفعيل واستهلال فرانسواز جرمان‎ )٥۸( 
.)۲٠٠۴ روبان» ترجة بشير السباعي (القاهرة: دار العام الثالٹ›‎ 
Rose, «n Our Present-day White Christian Culture: Jacqucline Rose on Freud and the Rise (0%) 
of Zionism». 
فضح الإعلامي المصري اللامع حافظ الميرازي في برنامجه الذي تيثه قناة الجزيرة القطرية «من‎ )50( 
.5٠١ 5/8/4 واشنطن» هذا النمط من الانتهاكات في حلقة‎ 


YY 


عهد صدام حسين؛ كانت هناك ماكينة تقطيع حقيقية يجري التحضير لتشغيلها. 

كان الأمريكيون» ومنذ اليوم الأول لاحتلال بغداد» يعدون العدة لتقطيع 
أوصال العراق . إن المقابل الرمزي لاكينة «تقطيع البشر؛ ف فى «أبو غريب»4؛ سيكون 
هذه المرة ة خطة تقسيم إداري للبلاد أي «ماكينة إدارية جديدة» تقوم «بفرم العراق» 
وتحويله إلى قطع وأجزاء صغيرة . من الأسفل» ركبا تي الاسطورة (عن ماكية 
التقطيع) يمكن البدء بقطع «أقدام» العراق وبحيث يتسنى لسكائه أن يسمعوا 
صيحات الألم؛ أما من الأعلى. فيمكن إلقاء البلد كله في «المفرمة؛ بحيث يُعْلك 
الكيان الجغرافي من دون رحمة . الخطة التي زعم أنها خلاصة مقترح تقدمت به لحنة 
مكلفة من مجلس الحكم (المنحل) لإعداد الدستور؛ نصت على تقسيم العراق إلى تسع 
ساعد ا . وحتى كتابة هذه السطور (حزيران/ يونيو )٠٠٠١‏ 
الالكترونية ا ا ا تظهر بخريطة العراق في 
شكل ثلاث مستطيلات أو مساحات لونية مميزة (۳ ولايات) كردية في الشمال وسنية 
في الوسط وشيعية في الجنوب. هنا تصور للتقسيم الإداري المقترح» بني على 
المعطيات المنشورة لخطة التقسيم الإداري ۲٠٠۴۳‏ : 


الجدول رقم (-2)6 
خطة التقسيم الإداري للعراق ۲٠۰ ٠۳‏ 


١-ولاية‏ أورء وتشمل: محافظات الناصرية | ١‏ ولاية صلاح الدين» وتشمل: كركوك 
والسماوة والديوانية . وصلاح الدين. 

"-ولاية الكوفةء وتشمل: كربلاء والنجف | ۷-ولاية نينوى» وتشمل: الموصل والرمادي. 
والحلة . -ولاية أربيل» وتشمل : أربيل ودهوك . 

۳ ولاية واسط» وتشمل: الكوت والعمارة. | 4 ولاية السليمانية. 
- ولاية البصرة . 


ه_ولاية بغداد. 


























ملاحظة بشأن ۸ و : التقسيم الجديد يعيد تقسيم «كردستان؛ العراقية عملياً إلى «دويلتين» في أربيل 
والسليمانية . 


المصدر : جريدة بغداد التي يصدرها حزب رئيس الوزراء المؤقت السابق إياد علاوي . 


()انظر: New York Times, 11/4/2005, and‏ 
: التقرير منشور على موقع «مفكرة الإسلام» على شبكة الإنترنت. 


TVA 


خلاصة 

بحسب الخطة» سيكون لكل ولاية عراقية من الولايات الثلاث» جيش خاص » 
وشرطة خاصة» وأمن خاص . ليس هذا النموذج مستوحى من صورة الولايات 
المتحدة الأمريكية؛ بل هو اقرب ما يكون إلى الشكل الراهن لأفغانستان الجديدة. إن 
استلهام نموذج الولايات الأفغانية؛ عدا أن لا شيء يُبرره في العراق» من ناحية 
الضرورات الملحة للتقسيم الإداري؛ فهو في الجوهر مُصمم من أجل استكمال 
الأفغنة» بتحويل البلاد إلى رقعة جغرافية مقطعة الأوصالء والى شبه مُنعز لات تضم 
كتلاً سكانية» يراد لها أن تفاقم من إحساسها بالتنافر الثقافي والعرقي» وبوجود 
أساس موضوعي للقطيعة. ومن الواضح طبقاً لهذا التقسيم» » أن بغداد لا ت تتمتع بأي 
امتياز كمركز إداري ا ا الخنيووه بعد 
الاستشراق» يمكن أن يتوضح بكامل أبعاده وصوره؛ من خلال النموذج الكولونيالي 
الراهن (احتلال العراق وأفغانستان) حيث جرت» باطراد» عملية ماثلة بين البلدين» 
وتخيلهما في صورة بلد واحد (من خلال ميزانية حربية واحدة ومن خلال برنامج 
مساعدات دولية واحد). وعلى الضد مما هو شائع ومتداول في وسائل الإعلام 
والمقالات والدراسات التحليلية» عن خطر التطرف الإسلامى» أو الأصولية الجديدة 
في العراق؛ يجب أن تُلاحظ الحقائق الآنية 1 


إن تدمير العلمانية وتحطيم أسسها الثقافية والفكرية» وهذا هو جوهر المشروع 
الأمريكي -الإسرائيلي الراهن في المنطقة العربية؛ قد أدىء تلقائياًء إلى حو منظم 
للدولة الوطنية؛ وإلى تفكك الادة الصمغية اللاصقة للطبقات والثقافات المحلية» التي 

تؤلف النسيج التاريخي للمجتمع العراقي . 

كما يجب أن يُلاحظ› أن تحطيم العلمانية في العراق» والانتشار الُفزع لنفوذ 
رجال الدين غير المتنورين والرجعيين والمتملقين للاحتلال في الحياة العامة والحياة 
السياسية» وما هدفان مرسومان بدقة» قد أدى إلى تفجر الحساسيات الثقافية وتشظى 
قيم الوطنية الجامعة . 1 


أفضت العملية الأولى أي تحطيم أسس العلمانية» ومن خلال حو الدولة وتمزيق 
حزب البعث» وهو اكبر حزب علماني عراقي» بصرف النظر عن كل مظاهر الخلاف 
معهء وعن النقد الموجه إلى سياساته» فهذا أمر آخر؛ إلى انفجار الظاهرة الإسلامية 
بشكل غير مسبوق؛ بينما أفضت الثانية (اتساع نفوذ رجال الدين في الحياة العامة) إلى 
انغماس المجتمع العراقي بأسره في فوضى تلقي السياسة من خلال المؤسسات 
الدينية» وتحويلها إلى مرجعية سياسية للمجتمع والدولة. 


۷⁄۹ 


إن التأمل في النتائج الواقعية التي أسفر عنها الاحتلال» على هذا الصعيد ربما 
يكشف عن الوجه الحقيقي لوظائف ما بعد الاستشراق والعلاقة الوثيقة بينه وبين 
الغزو العسكري» تماماًء كما كان الحال مع الاستشراق الكلاسيكي . يُقال إن التاريخ 
الإنساني يتكرر مرتين» مرة في صورة مأساةء ومرة أخرى في صورة مسخرة. وكان 
ينبغي أن يقال إن الإمبراطوريات» أيضاء تمتلك قابلية الظهور على النحو ذاته» وفي 
المسرح نفسه» ولكن من دون أن يكون أبطالها قادرين على اجتراح البطولة نفسهاء 


YA* 


لمق 


وثية 5 


(حديث مع ڪليدار كربلاء (السابق) 
(بتاريخ ؟؟ ایلول/سبتمبر)“ 


في اللقاء الذي جمعنى بكليدار كربلاء”''؛؟ وكان لقاء حميماً بكل تأكيد» نظراً إلى 
المودة التى ربطتنا معء عبر أحد الأصدقاء (من العراقيين الوطنيين ومن سكان محافظة 
بابل) علمت منه أنه كان متابعاً جيداً للأحداث» وأنه قرأ بعض ما كتبته في هذا 
الشأن . وعلى الرغم من أن هذا اللقاء كان الأول بيننا؛ فقد بدا لي أننا كنا نعرف 
بعضنا بعضاً بصورة مدهشة . قال لي» معلقاً على حديث دار بيننا حول التاريخ 
الحقيقي لنشأة الحوزة؛ إنه يعتقد أن هذا التاريخ يعود إلى الحقبة التي انتقل فيها المركز 
الروحي والثقافي للشيعة من النجف إلى الحلة . لقد نشأت الحوزة العلمية» كما يرى 
الكليدارء في الحلة عندما كانت ايران لا تزال على مذهب أهل السنة؛ والمعروف أن 
التشيع في إيران بدأ بالظهور مع صعود الصفويين نحو العام ١١١٠ء‏ حيث ظهر 
علماء ء كبار راحوا يطورون الفكر الشيعي» ويؤلفون الكتب القيمة . كان الشيعة 
يعتمدون» في تطويرهم للمذهب على المصادر الرئيسة التي شاعت في هذا العصر 
وما تبعه. وهي الكافي للكليني» الاستيصار والتهذيب» ومن لا يحضره الفقيه. 


(8) لأسباب خاصة يحتفظ بها المؤلف؛ فإنه يمتلع عن تحديد اسم الكليدار وتاريخ اللقاء. 
)١(‏ يندرج هذا اللقاء في إطار سلسلة لقاءات لأغراض علمية. 


A1 


وهذه المصادر الكلاسيكية تحتفظء فى نظر الشيعة» بأهمية خاصة» ولها منزلة كتب 
الصحاح عند أهل السنة . 


اعتمد الفكر الحوزوي التقليدي وبصورة مباشرة؛ على دراسة التطور الحاصل 
في المجتمع؛ ولكن بشرط عدم مخالفة هذا التطور للخط العام الذي نشأت عليه 
العلوم الفقهية» المستمدة مما وصل إليه من أحاديث وعلوم منسوبة إلى الائمة من 
آل البيت. سارت الحوزة العلمية على النهج نفسه الذي يقول بالاستنباطء وعدم 
الاعتراف بالقياس. ولظروف متعددة حلت منذ ما يقارب من 45٠0‏ عاماً (أكثر 
من أربعة قرون) انتقلت الحوزة من الحلة إلى كربلاء. من الأسباب المهمة التي 
دعت إلى انتقال الحوزة من جديد واتخاذ كربلاء مركزاً روحياً؛ هجرة الكثير من 
علماء الدين إليها وخاصة من إيران. وهؤلاء العلماء حصلوا على تشجيع من 
الملوك الصفويين في إيران للبقاء والمكوث في كربلاء» وخاصة بعد أن بدأ التشيع 
ينتشر في إيران . 

يضيف الكليدار: ونعتقد بأن العامل السياسي كان الأساس في دفع هؤلاء إلى 
المكرث في كربلاء؛ ولم تكن هناك دوافع صادقةء مثل : دافع مجاورة مرقد الإمام 
الحسين أو الحفاظ على المذهب؛ بل ببدف الحصول على مركز روحي . إن التاريخ 
يبرهن بأدلة قاطعة أن الدولة الفارسية» آنذاك» وبسبب حاجتها إلى مركز ديني تنطلق 
منه» وتستمد منه شرعيتها كما فعل الفاطميون في مصر (حيث أسسوا دولتهم 
واتخذوا مقام رأس الحسين» هناك» مركزاً من مراكز نشر العقيدة) قد وجدوا في 
كربلاء مكاناً مناسباً لتمركز رجال الدين الفرس . والملاحظ تاريخياً» أن علماء الدين 

من أهل السنة في إيران كانوا من الفرس في الغالب الأعم؛ ولكن ما أن بدأ التشيع 
في الانتشار حتى رأينا أن الفرس» هم من أخذ على عاتقه التحدث باسم المرجعية 
الفقهية » وهذا شيء غريب . ظلت المرجعية» فعلياً؛ في كربلاء بعد أن انتشرت فيها 
المدارس الحوزوية؛ وبدأت في استيعاب الكثير من طلاب العلم من الفرس . 


انمدع فر ارو ور للتغريق بين طرقة ا وهم رجال دين 
ينقسمون إلى قسمين : قسم تقليدي» منفصل معيشياً عن أية جهة رسمية كانت» أو 
انعينة ول ر ات الع ف الأهان ر عن كانت لهم زنيائيات 
مع الحكومات المتعاقبة. في بداية القرن العشرين كان هؤلاء يعرفون باسم علماء 
الحفيز (من كلمة أوفيس الإنكليزية) وهناك سبب وجيه آخرء هو أن تعبير «الحوزة» 
استخدم من أجل التفريق بين علماء أصوليين من الشيعة» وآخرين من علماء الشيعة» 
انتموا إلى تيارات تختلف في الخط » مثل الإخباريين والكشفيين (الذين لا يؤمنون أصلاً 
بالحوزة. ولكنهم يؤمنون بالمرجع الديني الذي يقود هذا الخط) . ثم انتقلت الحوزة من 


YAY 


كربلاء إلى سامراء مؤقتاًء ولفترة ة قصيرة قد لا تتجاوز ثلاثين عاماًء قبل أن تعود من 
جنديد إل كربلا :ومتها عادت نة إل التجك في زمن الشيخ الظوسي : 


أسباب الفساد المالي 

في تعليقه على ما طرحته عليه من وثائق ودراسات حول الفساد المالي «التاريخي؟ 
في الحوزة. قال: هناك جملة من الأسباب من بينها ما يلي : 1 

١‏ إن هذا الفساد يتمركز فى الحاشية؛ وهؤلاء يؤلفون طبقة تحيط› عادة» 
برجل الدين الشيعي» المرجعء وفي الغالب الأعم» فإنهم من رجال الدين الصغارء 
الذين يتولون نشر أفكار المرجع الفقهية . بيد أن هؤلاءء وبفعل ملازمتهم للمرجع 
يصبحون مع الوقت مصدر ثقته . إن معيشتهم تعتمد كلياً على هذا المرجع؛ ومتى ما 
قري تملع ی ی داه يقل ل للج للح ان ی مثال 
ذلك ما حدث للسيد أبو الحسن الأصفهاني عام ۱۹٤۹‏ عندما حدد (قيّد) صلاحيات 
هؤلاء. ومنعهم من رواتبهم نتيجة أفعالهم السلطوية باسمهء فأخذوا يشيعون بأن 
السيد أبو الحسن كبر فى السن» ووصل إلى مرحلة الخرف ؛ ولذاء راحوا يطالبون 
بعدم جواز تقليده. وفي الكثير من الأحيان؛ ويسبب ثقة المرجع» شبه التامة» بقسم 
من أفراد حاشيته هذه؛ فإنه يقوم بإيداع قسم من مال الحوزة لديهم» بحجة التصرف 
فيها بأمره» أو نيابة عنه . 


إن ثروة الحوزة تتوزع على عدد من المرجعيات» وبالأخص المرجع الأعلى الذي 
تلتف حوله النسبة العظمى من المقلدين. كان ما يرد لآية الله كاظم اليزدي في بداية 
القرن العشرين» عندما تولى المرجعية» أكثر بكثير ما يرد لغيره من المراجع الأخرى» 
نظراً إلى أعلميته . والأمر ذاته ينطبق على الشيخ شريعة الله الأصفهاني ومحمد تقي 
الشيرازي ومحسن الحكيم والخوثي وأخيراً السيستاني . ومع ذلكء لا بد لنا من أن 
نتوقف أمام نموذج رائع من علماء الدين العظام» وهو الشيخ محمد رضا الأصفهاني» 
العالم الزاهد والعظيم الذي كان مراجع الشيعة يعترفون له بالأعلمية» ولكنه كان 
بعيداً عن المرجعية ومشاكلهاء وكان يرفض قبول هذا المركز» : ثم عاش زاهداً ولم 
يتقبل فلساً واحداً من الحقوق طوال ما ت تبقی من حياته» لاعتقاده التام بعدم شرعية 
توزيع الأموال» واتعدام ثقنه بم ولون صرف الال غل الفقراء ,كان الأصفهان 
يقيم صلاة الجمعة جماعة في الصحن الحسيني» وهو الوحيد من بين المراجع» حتى 
توفي عام ۱۹۷١‏ من ظل يقيم صلاة الجمعة . وقال عنه الدكتور طه حسين : جميع 
علماء الشيعة الذين قابلتهم في النجف ومنهم الشيخ عبد الكريم الزنجاني رائد 
الوحدة الإسلامية لا يأتون بقطرة واحدة من علم هذا الرجل 


YAY 


١‏ - سيطرة أبناء المراجع على مصادر المال: غالباً ما يفرض أبناء المراجع الكبار 
سيطرتهم عل المال الذي يتدفق على المرجع الديني باسم الحوزة (مثلاً السيد أبو 
القاسم الخوئي). لقد كان لأبناء الخوئي اليد الطولى في التأثير على موضوع صرف 
الحقوق؛ ونعتقد جازمين بأن المرجع الديني كان على علم كامل بما يقوم به أولادهء 
وتظل النقطة الغامضة» والأكثر حساسية في هذا النطاق» هي عدم المحاسبة. لقد 
استولى أبناء الخوئي على مثات الملايين من الدولارات التي كانت تدخل إلى مؤسسة 
ا لخوئي . هذه المؤسسة تنخرط اليوم كما بالأمس في أعمال تجارية» ونشاطات نفعية 

لا رقابة عليها. ثم اتضح أن كثيراً من هذه النشاطات التجارية كانت وهمية. وكل ما 
أقيم» من قبل هذه المؤسسة من مشاريع خيرية» لا يتناسب مع حجم الأموال التي 
راحت تتدفق إلى مؤسسة الخوئي . وبالطبع يفترض أن توزع الأرباح» أصلاًء على 
الفقراء» لكن شيئاً من ذلك لم يحدث . 

إن العامل الحقيقي الذي شجع أولاد المراجع الدينية على الاستمرار في تلاعبهم 
بالأموال» والغوص في هذا الفساد المالي» هو تعاونهم الوثيق مع الحاشية (وهؤلاء 
كانوا يحصلون على نصيب وافر من المال لقاء تعاونهم وارتباطهم بأبناء المراجع 
وتسترهم على الفساد) 

- عدم تقرغ المرجع . أو اهتمامه بتكليف مختص في تدقيق البيانات الخاصة 
بالأموال» وبحجة اهتمامه وتفرغه للدرس الديني. 

٤‏ التناقضات والمنازعات بين رجال الدين الكبار(المراجعم الدينية) في ما بينهم 
حول الأعلمية 

5 فساد طبقة الوكلاء الوسطاء الذين يجبون الأموال أو يحصلون عليها من 
الرعايا (نظام الخمس) 

من ملاحظاتي التي دونتهاء يضيف الكليدار» أرى أن من أصعب الأمور على 
المستحق لهذه الأموال الوصول إلى المرجع(هناك زجرء ضرب» إهانات) ومما يزيد 
الطين بلة جهل الغالبية العظمى من وكلاء المرجع الديني وأنانيتهم . ولا ننسى في 
هذا الإطار طرق الاحتيال» وتقليد ختم المراجع من قبل بعض رجال الدين» بزعم 
أنهم وكلاء للمرجع الأعلى . 


YA 


کتب 

ابن دريد» أبو بكر محمد بن الحسن . الاشتقاق . 

أرسلان» شكيب . لاذا تأخر المسلمون؟ ولاذا تقدم غيرهم؟ . [القاهرة]: عيسى البابي 
الحلبى» [۱۹۳۹]. 

الأصفهاني» علي بن الحسين أبو فرج . كتاب الأغاني. 

باروت» محمد جال . حركة التنوير العربية في القرن التاسع (حلقة حلب). دمشق: 
وزارة الثقافة » 65 . (قضايا وحوارات النهضة العربية ؛ ¥( 

بشارة » عزمي . طروحات عن النهضة المعاقة . بيروت : رياض الريس› ۳ 
جرمان-رويان. ترجمة بشير السباعي ‏ القاهرة: دار العالم الثالث» ال 

الجواهري» عماد أحمد. تاريخ مشكلة الأراضي في العراق ۱۹۳۲-٠۹١١‏ : دراسة 
في التطورات العامة. بغداد: وزارة الثقافة» ۱۹۷۸ . 

حسن» محمد سلمان. التطور الاقتصادي في العراق: التجارة الخارجية والتطوز 
الاقتصادي» ۱۹١۸-1۸٠٦١‏ . صيدا: المكتبة العصرية» ١950‏ . 
جا: 1۹0۸-1۸4 . 

حقي » تمدوح. معروف الرصافي: دراسة وتحليل. بيروت: منشورات دار اليقظة 
العربية للتأليف والترجمة والنشر» [د. ت.]. 

حمادة» حسين عمر . الماسونية والماسونيون في الوطن العربي. دمشق : دار الوثائق› 
06 . 


ه523 


دراسات حول كربلاء ودورها الحضاري: وقائع ندوة علمية عقدت في لندن. 
الكويت: مؤسسة الزهراء» ۱۹۹٩‏ . 

الربيعي» فاضل . الجماهيريات العنيفة ونهاية الدولة الكاريزمية في العراق. دمشق : 
دار الأهاليء ٠٠٠٠‏ . 

. الخوذة والعمامة: الاحتلال الأمريكي وموقف المرجعية الدينية في العراق . 
دمشق: دار الفرقد» ۲٠٠٠٦‏ . 

. قصة حب في أورشليم: ترجمة جديدة عن النص العبري لنشيد الإنشاد. 
دمشق: دار الفرقده ۲٠٠٠۵‏ . : 

. من أيقظ علي بابا: ظاهرة الفرهود في العراق . بيروت : رياض الريس للنشرء 
0 

رؤوف» عادل . عراق بلا قيادة: قراءة في أزمة القيادة الإسلامية الشيعية في العراق 
الحديث . دمشق: المركز العراقي للإعلام والدراسات» ۲٠٠۲‏ . 

زبيدة») سامى. الإسلام-الدولة والمجتمع . ترحة عبد الإله النعيمي . دمشق : دار 
المدى ۱۹۹۰١‏ . 

سعيد» ادوارد. الاستشراق: المعرفة» السلطةء الإنشاء. نقله إلى العربية كمال أبو 
ديب . ط ٤‏ . بيروت : مؤسسة الأبحاث العربية» ٠۹۹۵‏ . 

. الثقافة والإمبريالية . نقله إلى العربية كمال أبو ديب . بيروت: دار الآداب» 
۷ . 

سیمونز» جيف . التنكيل بالعراق: العقوبات والقانون والعدالة. بيروت: مركز 
دراسات الوحدة العربية» ٠۹۹۸‏ . 

الشابندر» موسى . مذكرات موسى الشابندر. بيروت: دار رياض الريس للكتب 
والنشرء ۱۹۹۲ . 

الشهبندر»ء عبد الرحمن . مذكرات وخطب [الأعمال الكاملة]. تحقيق وتقديم محمد 
كامل الخنطيب . دمشق: وزارة الثقافة» ٠۹۹۳‏ . 

شوفينمان» جان بيير. حرب الخليج دفعتئي للاستقالة. ترجمة أحمد عبد الكريم . 
دمشق : دار الأهالي» ٠۹۹۲‏ . 

صاغية » حازم . وداع العروبة . لندن: دار ساقي للطباعة والنشر» ١999‏ . 

صالح» زكي . بريطانيا والعراق حتى عام 19154 : دراسة في التاريخ الدولي والتوسع 
الاستعماري . بغداد : مطبعة العاني» 1974 . 


YA“ 


صفوة» نجدة فتحى . الماسونية فى الوطن العربي. لندن: مركز الدراسات العربية» 
. (أوراق عربية؛ رقم ٤‏ . سلسلة البحوث؛ )٤‏ 

الصليبى» كمال . التوراة جاءت من جزيرة العرب . ترجمة عفيف الرزاز. بيروت: 
مؤسسة الأبحاث العربية» ۱۹۸۰٩‏ . 

طالب» محمد سعيد . الحداثة العربية : مواقف وأفكار : (الفكر العربي بين وعي الذات 
وهيمنة الآخر). دمشق : الأهالي للنشر» ۲٠٠٠۳‏ . 

العراق في رسائل المس بيل (۱۹۱۷ - .)۱١۹۲١‏ ترجمة وتعليق جعفر الخياط ؛ تقديم 
عبد الحميد العلوجى . بيروت: الدار العربية للموسوعات» ۳ 

عر الدين» يوسف . الزهاوي الشاعر القلق . بغداد: [د. ن.» د.ا ت.]. 

العظم» رفيق . البيان في التمدن وأسباب العمران. 

عليوي» هادي حسن . فيصل بن الحسين: مؤسس ال حكم العربي في سوريا والعراق» 
1988-188٠‏ . بيروت: دار رياض الريس للكتب والنشرف ۲٠٠۴۳‏ . 

العمري» موفق . الماسونية والبهائية . يغداد: مطبعة الحوادث» ١915‏ . 

عوضء لويس . مقدمة فى فقه اللغة العربية. ط ؟ . القاهرة : دار سيناء ۱۹۹۳ . 

الغلاييني » مصطفى . الإسلام روح المدنية : أو الدين الإسلامي واللورد كرومر. 

فرومكين» دافيد. سلام ما بعده سلام ولادة الشرق الأوسط› 64 ¬-۱1۹۲۲. 
بيروت: دار رياض الريس للكتب والنشر» ۲ -. 

القصاب. عبد العزيز . من ذكرياتي. بيروت: منشورات عويدات» .]١937[‏ 

كرد علي محمد . الإسلام والحضارة العربية. القاهرة: مطبعة دار الكتب المصريةء 
۱۹۳1-۳۴ . 'ج. 

لوريمرء ج. ج. دليل الخليج . ترجمة مكتب الترجمة بديوان حاكم قطر . بيروت: دار 
العربية » 9-1 .١‏ 
ج ٤‏ : القسم التاريخي . 

لونكريك» ستيفن هيمسلي . أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث. ترجمة جعفر 
الخياط . بغداد : دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع › € 

مايرو» جودي. حقائق غائبة خلف الحجاب : تصورات الرحالة الغربيين عن النساء 
في الشرق الأوسط. ترجمة وتحقيق معين الإمام. دمشق: دار نون للدراسات 
والنشر والتوزيع › 4¥ . 


YAY 


المبردء أبو العباس محمد بن يزيد . الكامل فى اللغة والأدب. 
محاضر «مجلس الحكم الانتقالي». إعداد أحمد الحاج هاشم الدفاعي . بيروت: دار 
الطليعة» ۲٠٠۵‏ . 


محمود» مي عبد الكريم : تالهون في صحراء اسا صورة الصحراء العربية في 
كتابات الرحالة والمستشرقين الفرنسيين. دمشق : الأهالي للطباعة والنشر» 
۳ 

:1419 -۰ د‎ RE 
0 للدرامات وان‎ 

مراش» فرنسيس . رحلة باريس . بيروت : المطبعة الشرقية› AY‏ . 

مر العرب والإفرنج. [د. م. : د. ن.» /ا19؟]. 

المغربي» عبد القادر. الإصلاح الإسلامي . 

المفصل في تاريخ العراق المعاصر . بغداد: بيت الحكمة» ۴ 

نقاش» إسحق . شيعة العراق . ترجمة عبد الإله النعيمي . دمشق: منشورات المدى» 
1 .-. 

نوّارء عبد العزيز سليمان. تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا إلى حكم 
مدحت باشا. القاهرة: دار الكاتب العربي للطباعة والنشرء ۱۹١۸‏ . (المكتبة 
العربية) 


الهلالي» عبد الرزاق . تاريخ التعليم في العراق في عهد الاحتلال البريطاني» -١9154‏ 
1 . بغداد: مطبعة المعارف» ١919/8‏ . 


—~. دراسات وتراجم عراقية . بیروت ٠‏ مكتبة النهضة» 7/ا9١].‏ 

هيرش» سيمور. القيادة الأمير كية العمياء : الطريق من ١١‏ أيلول إلى سجن «أبو 
غریب . بیروت : الدار العربية للعلوم› 0 

الوائل» إبراهيم . ثورة العشرين فى الشعر العراقى . بغداد : مطبعة الإيمان» ۱۹٩۹۸‏ . 

وجدي» محمد فريد. المدنية والإسلام . [القاهرة]: المطبعة ال رحمانية» ۱۹۳۳ . 

الوردي› علي . لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث . ط ۲. لندن: دار كوفان» 
۲ -. 1 ج. 


584 


دوريات 


أمين» سمير . #جيوسياسة الإمبريالية المعاصرة. ‏ المستقبل العربي: السنة ۲۷ العدد 
۳ أيار/ مايو 5 .7٠١‏ 


بني» أكرم . تإغمء مهما قيل» يحسدون العراقيين على الطريقة ة التي جرت فيها 
انتخاباتهم . » الحياة: ۲۰۰۵/۲/۱۳ . 


بولك» وليام. «الواقع والخيارات في حرب العراق ٠.‏ المستقبل العربي: السنة ۲۷» 
العدد ١1ء‏ كانون الثاني/ يناير ۲٠٠۵‏ . 

بينيس» فيليس» مجموعة العمل الخاصة بالعراق في «معهد دراسات السياسة» ومركز 
«السياسة الخارجية في بؤرة الاهتمام؛. ««انتقال» فاشل للسلطة: النفقات 
المتصاعدة لحرب العراق ٠.‏ المستقبل العربي: السنة ۲۷ العدد ۳٠۹‏ (تشرين 
الثاني/ نوفمبر 5 .)5١١‏ 

حدان. حال . «حول وحدة الرافدين والنيل . » الفكر المعاصر (القاهرة) : العدد ١١ء‏ 
شباط/ فبراير ۱۹٦٩‏ . 

°0 Vg (Y0 [o NV +° |1 الحياة: ۱° 2۱۱| ا‎ 

الديمقراطي العربي (حزب العمال الثوري العربي» سوريا): العددان ۸-۷. أيار/ مايو 
€ 

الربيعي» فاضل. «من أيقظ علي بابا: ظاهرة الفرهود في العراق والاحتلال 
الأمريكي .2 القدس العربي: أيلول/ سبتمبر ۲٠٠۳‏ . 

_. انساء «آبو رجاه ی اغتصاب نموذجي في 6 الجديد (إعادم 


E ۳٠١ العدد‎ 


السفير: ۲۰۰۲/۸/۲۳ و۱۰۔- ۲٠۹۳/٤/۱۱‏ 


سيكوباه» عمر . «السيستاني والتحدي الدستوري في العراق : مقاربة لتقرير مجموعة 
الأزمات الدولية ٠.‏ المعارج : العدد 235 ٠٠٠٠۵‏ . 


شرارة» وضاح. «إصابة العراق بالشقاوة وداء العصابة الثورية جعلت منه أرض سباء 
يحكمها عنف مرسل ٠.‏ الحياة: 4/ 5/ ۲۰٠۰۴‏ . 

الشرق الأوسط: ۲٠٠۲/٦/۲۳‏ 

طريق الشعب: ۲٠٠٤/۹/۷‏ . 


1۸4 


عبد المجيدء وحيد . «الوطنيون والخونة في العراق. ؛ الاتحاد: ۲٠٠٤/۹/۲‏ . 

العراق: ۱۹۲۰/۱۱/۱۲ . 

عزيزي» يوسف . «الخطاب الإيراني والشيعة في العراق ٠.‏ الوفاق (العراق): كانون 
الثاني/ يناير ۲٠٠٠١‏ . 

فریدمان» توماس . «قواعد حماة. ؛ الاتحاد (الإمارات): ۱۸| ۲/ ۲٠٠۵‏ . 

فندي» مأمون . «الإسلامويون أقلية . » الشرق الأوسط: /1/1/ 5 .7٠١‏ 

القدس العربي: 7؟4/5/ ۲٠٠۳‏ . 

الكبيسي. عبد الجبار . «المقاومة الوطنية العراقية خيار سياسي موضوعي ٠.‏ (كراسة 
صادرة عن جريدة نداء المقاومة الالكترونية التي يصدرها التحالف الوطني العراقي 
في نيسان/ أبريل .)75١١5‏ 

كوبر» سكوت. «أشباح فييتنام تطاردنا في أبو غريب ٠.‏ الواشنطن بوست: /٦/۷‏ 
۳ 

«مجموعة شيعية عراقية في أول حوار مع الإدارة الأمريكية : وثيقة تاريخية ٠.‏ النهار : 
TNA‏ 

المدار (بغداد) : ۲۸ كانون الثاني/ يناير ۰۲۰۰۶٤‏ و۲۸ كانون الثاني/ يناير ۲٠٠٠‏ . 

«المرأة العراقية في سجون الاحتلال .» المدار: ۲۱ أيار/ مايو 7٠١8‏ . 

مراش» فرنسيس . «سياحة العقل ٠.‏ الجنان : نيسان/ أبريل 1817/١‏ . 

مروةء كريم. «المعادون للإمبريالية ومستقبل العراق ٠.‏ طريق الشعب (بغداد) : ۷/ 
4,., 

ملحق هآرتس : ٩‏ كانون الأول/ ديسمبر 5 .7١١‏ 

.7٠١7“ /5/١7 المؤتمر:‎ 

النابلسي » شاكر . «العراق شبكة أمان العرب .» الصباح (يغداد): .53٠١8/1١/١‏ 

.. «الليبراليون السوريون الجدد ينهضون.» (موقع رزكار الكردي على شبكة 
الانترنت» .)59٠١5*/4/1١5‏ 

هيرش» سيمور. «المنطقة الرمادية: كيف انتقل برنامج سري للبنتاغون إلى «أبو 
غريب ٠.‏ المستقبل العربي: السنة لا » العدد 2708 تموز/ يوليو ٠٠٠٤‏ . 

يوسف» سعدي . بو غریب» تحت ضوء فرويدي . ؛ الاتجاه الآخر (بغداد): 5 7/ 
YEN‏ 


14۰ 


ندوة 
احتلال العراق وتداعياته عربياً وإقليمياً ودولياً: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية 
التى نظمها مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت: المركز» .7١١4‏ 


۲ الأجنبية 


e 


Books 


Blunt, Ann. Bedouin Tribes of the Euphrates. Edited with a Preface and Some 
Account of the Arabs and their Horses by W. S. Blunt. London: Cass, 1968. 
2 vols. (Islam and the Muslim World; no. 7) 


Douglas, Norman. Fountains in the Sand. London: Martin Secker, [1912]. 


Feldman, Noah. After Jihad: America and the Struggle for Islamic Democracy. 
New York: Farrar, Straus and Giroux, 2003. 


Geary, Grattan. Through Asiatic Turkey: Narrative of a Journey from Bombay 
to the Bosphorus. London: S. Low, Marston, Searle and Rivington, 1878. 
2 vols. 


Kepel, Gilles. Les Banlieues de Islam: Naissance d'une religion en France. Paris: 
Editions du Seuil, 1987. (L’Epreuve des faits) 


. The Prophet and Pharaoh: Muslim Extremism in Egypt. Translated by 
Jon Rothschild. London: Al Saqi Books, 1985. 


Olivier, G. A. Voyage dan l'empire Othoman, L'Egypte et la Perse: Fait par ordre 
du gouvernenient, pendant les six premiêres années de la Rêpublique. [s.1.: s. 
n.], 1828. 


Patai, Raphael. The Arab Mind. With a new foreword by Norvell B. de Atkine. 
Rev. ed. New York: Hatherleigh Press, 2002. 


Periodicals 
Ajami, Fouad. «The End of Pan-arabism.» Foreign Affairs: Winter 1978-1979. 


«Ces zoos humains de la république coloniale.» Le Monde diplomatique: août 
2000. 


Friedman, Thomas L. «Hama Rules.» New York Times: 17/2/2005. 


Hosenball, Mark, Michael Isikoff and Evan Thomas. «Cheney’s Long Path to 
War.» Newsweek: 17 November 2003. 


Independent: 21/7/2003. 


Lewis, Bernard. «The Roots of Muslim Rage.» A1lantic Monthly: September 
1990. 


۲۹۱ 


New Yorker: 24 May 2004. 
New York Times: 11/4/2005. 


Rose, Jacqueline. «In Our Present-day White Christian Culture: Jacqueline 
Rose on Freud and the Rise of Zionism.» London Review of Books: vol. 26, 
no. 13, July 2004. 


Solovitch, Sara. «The American Dream.» Esquire Magazine: vol. 143, no. 1, 
January 2005. 


USA Today: 25/9/2003. 


4۲ 


فهمرس 


ا 
الآريون الجدد: ٤۹‏ 
إبراهيم› سعد الدين : 05 IT‏ 


ابن لادن» أسامة: 211-1١‏ 1۳ ١1ء‏ . 


ةل ال FFT‏ "ال الات 
1۲ ككل الاك 0595-7755 
:"الث 75# 55ل 
2554-48 5دكل 715٠١ (Yo¥‏ 

أبو طبيخ » حسن : 84لا ۲71 

أبو غيث» سليمان: 7١5‏ 

الاحتلال الأمريكى للعراق: 4» ول لاك 
لكل ع مم لتك كت كلاء قف 
اق هلال أاكلء CIAY CIVA‏ 
ا-للاءكال الالال الال cT‏ 
TE‏ 8خ555-7”5؟. cT co‏ 
TYA cc TI1—TO TY‏ 

أحداث ١١‏ أیلول/سبتمبر ٠٠٠١۱‏ 
(الولايات المتحدة): ٣۳‏ 

الإخوان المسلمون: 2157 ۲٤٤‏ 

الإرهاب: 0156 194-18 ۲٤ c۲۱‏ ۳۳ 
2245-١‏ مص لاك cl00 AIFF‏ 
٠6ل‏ 658أاككلء IVY‏ 
كما- لاما لحك 09-79 
ا ال هلاال 


۹۳ 


TTY لضي‎ f*4 
Yo¥ «01-E £ غك‎ ١-14 

الإرهاب الإسلامي: 1A‏ الاك YY‏ 

الإرهاب الدولي : ۰۸A‏ 

الاستبداد الديني: ٠١5‏ 

» ٤۳-۲۹ ۰۲۷-۱٤ ۱۲-۷ الاستشراف:‎ 
CTY «Of-oOF «(0° «¥7 
AV عمدلا‎ VT-—T¥Y «10-1 
°° 41-40 4-4 ا‎ 
IIY=1°¥۷ (101° °۲ 
“ITA I11 لآل‎ «414-۷ 
55 AFY ATF °۹۹ 
10-16۹4 ل‎ ة5-١55‎ ل١‎ 
-\ 1° COA 21 --5ه‎ 
AV1114 (IVT 0174 
c14A-14۲ C1A4-1A1 ¥۸ 
25١5-5904 oY Oof 
TYA ااا اه‎ 
€1 الال :"م78‎ 4 
هلال‎ CTEA 5ت‎ "7 
ه/؟-‎ c¥¥\ «14 «۲11-۲ 
YTA‘—TV4 ف‎ 


الاستشراق الأدبي في العراق: ٠٤١‏ 
الاستشراق الإنكليزي: ٠١8 ٠41١‏ 


الاستشراق الجديد: ۹ 215 ۲۹ -1١844‏ 
مام 0701 Yol‏ 

ء٤١‎ ۳۹ 01١ الاستشراق السیاسی:‎ 
5م‎ (۲ K2 CIA «11-11 
4 

الاستشراق العالمى الجديد: ٣۳‏ 

-١4 ۱-۹ الاستشراق الکلاسیکی : ۷ء‎ 
o YY على‎ A-1 وك‎ 
"هم‎ EY) FATTY $ (OV 


IV دهعم‎ (N° 0f 
ككل‎ IEE cVE° لكل‎ “۷*71 
IATA IVT #لاكف‎ NTE 
دلاول‎ ا١و1ه‎ 0144 (1۸۷-1۸40 
TYE oY ا‎ YF °1 
cYoft=Yor oT oY A 
A-4 

1۸٥ ء۲٣ الاستشراقيونالجدد: ۷ء‎ 
YoY 


الاستعمار الأوروبي: 8 o"‏ 

الاستعمار البريطاني: ٠٤‏ 

الاستعمار البريطاني لفلسطين : AY‏ 

۹ ۸ : الاستعمار البريطاني للعراق‎ 
CAS VY VT AY 2019-5 
EV Ifo NII <14 CAY 
Y\1=41° (100 ”ادل‎ (10° 

الاستعمار البريطاني للهند: ۸۷ 

الاستعمار التركى: 515 

۲۷١ 21837 1١-9 الاستعمار الجديد:‎ 

cAI TT «1-4 الاستعمار القديم : لا‎ 
١14١ (1A۲ 

الاستيطان الأوروبي: 5١‏ 

الإسلام: لا 4 لمكا دقل آل هل 
f° FT‏ 260-55 لاص V4 VT‏ 
الم ۳ ۷-7 -١1١5‏ 


4٤ 


-١ 5١ لال‎ ATT IYE كلك‎ 
CII CME تقل‎ ۲ 
ال‎ CIAT—\IAY IVT VE 
“Yo cI "ات‎ oT O° 
cYéo-YTY "ه١‎ (7 


YAY TV4 YO (۹ 

الإسلام السياسي : ٠٠٤‏ 

الإسلام الشرقي: ٣۳‏ 

الإسلام المتطرف: 1١81‏ 

أسلحة التدمير الشامل: 24 ٣۳ء‏ ١۷١۱ء‏ 
لامك 140« Y1 cT°A‏ 

اسماعيل الصفوي (شاه إيران): ۳٤ء ٤١‏ 

أشتن (الكابتن): ٠٠١‏ 

١17/4 الأشكيناز:‎ 

الأصفهاني» أبو الحسن: »۹٩‏ ۲۸۳ 

الإصلاح الاجتماعي : ٠١۹‏ 

الإصلاح الديمقراطي : ٠١١‏ 

YA I7 ٠٤١ : الإصلاح الديني‎ 

الإصلاح السياسي : ۳4 

A۷١ 11-1١۹۳ الأصولية: “الا‎ 
TV4 T° 1A 

الأصولية الإسلامية: 155 155 ١۱۷٠ء‏ 


30 
الإعلام الأمريكي: 201 ٤۲ء‏ ۳۸ء ده 
TY OYE‏ ال To‏ 

Yo-Yo 

الأفغان العرب: ۲۳۹ 


216-155 03٠ الأفغاني» جمال الدين:‎ 
-#5١١ كتقل‎ CV مقس‎ 2.5٠ oY 
fo IFT شكس‎ 11 
TV4 Y1 —YOA YEY (TTA 

الأفغنة: 1١‏ دك ا YT‏ ال 
TITY ofl o0€‏ 
Y0 YEA TF 1-°‏ 74 


أفغنةالعراق: ۰۲۲ ۸۱ء -1١6 87١45‏ 
مض مين 

اقتحام مدينة الفلوجة (5 :)5٠١‏ 1485 

۳ ۲۱۲ ۳۰١ الأکراد: ۳۳ا‎ 
Er 

ألفييري» فيكتور: ١54‏ 

١/٠ 149 28٠ أللنبى (الجترال):‎ 

الإمبرياليات الأوروبية: ٤۸‏ 

الإمبريالية: ° لق اهم 27١9 CAV‏ 
۲۸ 

الإمبريالية الروسية: ٠٦‏ 

الأمن القومى الأمريكى: ٠١۸‏ 

أمين » سمير: 0164-18 ۱۸۲ 

٠۹۰ :)۲۰۰٤( الانتخابات العراقية‎ 

إنجلند» ماتیلدا: 3754-1757 1194-1774 

انبيار الاتحاد السوفياتي: ١٥۱۷ء‏ 1۱۷۷ء 1١84‏ 

أورمسبى » ه. : 0۵۷ 

أولاسکی» مارفن: ١84‏ 

وله خن( 00 

أونيل» بريندن: ۲۷۳ 

الائتلاف العراقى الموحد: ١7/8‏ 

أير لاند» فيليب دايلارد: 045 

إيزيكوفء مايكل: ۲٤۸‏ 

ب 

۲١۲ ۰۲۰٠ البارزاني» مسعود:‎ 

باروت» محمد جال : 203141 ۱٤٤-۱٤۳‏ 

باول» كولن: ۲۳۱ 

بايبس. دانییل : ۰۱۳ ١٥٦۱ء‏ ۰۱۸۱ ۱۸۵- 
1۸٦‏ 

بحر العلوم» علي : 110 

-١14 21١5-1١10 بحر العلوم» حمد:‎ 
١514 ۲۵ 


البراك» سلمان: ٩۷‏ 


براون» يذْنى: ۲۷٤‏ 
البروتستانتية : بول 755 
بريمر» بول: CAY‏ عق لق «IA‏ 


TTT TIT o94 oY 
115-756 cY0° ا‎ 1/1 
۳١ البزاز» سعد:‎ 


بشارة» عزمي : ۱٥۷‏ » ۱۷۳ 

بطرس الأكبر (قيصر روسيا): 05 

البعثات التبشيرية : ۷۳ 

البغدادي, أحمد الحسني: -1١١6 23١‏ 
ال 

البكر» أحمد حسن : Yok‏ 

بلانت» آن: ٥۳-٥۲‏ 

بلانش» و. س.: ٥۳۲-۵۲‏ 

يلفور (الكابتن): ۷١‏ 


بلير» توني: ۲۷۳ 

-۲١۷ عل‎ 241١-5٠ 10 البنتاغون:‎ 
CYTYY الل‎ oYIT-1 °4۹ 
0713-5515 الالال‎ oYYTA-Y 


8-7 ا تت TV1‏ 

البني» أكرم: ٠۹١‏ 

بوش (الأب)» جورج: 0156 0149 1914 

بوش (الابن)› جورج : oT o1‏ اق 
6ل مهل معكك IAQ‏ 111“ 
لال (YE0‏ 14لا 

بولك. ريتشارد: ١51١‏ 

البويبيونث: 45 

بيرل» ريتشارد: 17. 21180 ۲۳۵١‏ 

بيريس »› شمعون: ۲۰۲ 

بیکر» جيمس : ۱۹۹ 

بيكو (وزير الخارجية الفرنسي): 5١‏ 

بيل» غروترود لوشيان: ۱۳ء ٩۷ ٩٤‏ 
«A4 8‏ دق 4V‏ 


14۵ 


ت 
التاريخ الاستشراقي: ٠١7‏ 
تایلور» جيمس : لاه 
التبشير المسيحي : V€‏ 
التتريك : ٥١-٠١‏ مه 
التخيل الاستشراقي: ۰۱۰ ۳۹» ١۷١-٠۱۷١‏ 
تشيزينى؛ رودن: لاه 
تشینی» ديك: ۲٤۸‏ 
التطرف الإسلامى: "3177 017515 ۲۷۹ 
التفريس : ١‏ مه 
تفريس العراق: .0١‏ هه 
تقاليد الريف العراقي: ۷١‏ 
التنافس البريطاني ‏ الفرنسي حول اليهود: 


V٤ 

التنافس الروسي - البريطاني على العراق : 
كم لام 

تنظيم القاعدة: ۰۱۱-۰ 17 ان سي 
YA WY‏ اكت cYIo-TIE‏ 
«f-1۲‏ اك 1 
(YT‏ لالت “YEA TET eT‏ 
3 


تبنيدالعراق: ١١-٠١١‏ ۷۲-۷۱ ۹- 
\o¥ (1o0 <۹7‏ 
تبويد بغداد: ۸۲ 
تبويد العراق: ۸۰ 
تبويد فلسطين: ١59‏ 
توطين الهنود فى الريف العراقى: 55 
توماسء إيفان: 144 ۰ 
تويدى و.: 0١#“ 245-95١‏ 56د 
۱۱1-6٥‏ 
تيلورء روبرت : لاه 
ات 


الثقافات الوطنية: 4١‏ 


ثقافة الآخر: 146 7171 

الثقافة الاستعمارية: ٠١١‏ 

الثقافة الأمريكية المعاصرة: ۱۸۷ 

ثقافة العرق الآري: 49 

الثقافة الفارسية: ٠٠-٤۹‏ 

ثقافة ما بعد الاستشراق: ٠۹۲‏ 

ثقافة الموت: ٠۹۷‏ 

ثورة ۱۹۲۰ (العراق): 1۳ 23582250 
اللاو 10*۰« Jo‏ 1۰ 

الثورة الإسلامية فى إيران (۱۹۷۹): ۹٤ء‏ 
1° 704 

ثورة مايس ۱۹٤١‏ (العراق): ۷٠‏ 

الثررة المشروطية العثمانية(905١-‏ 
:)١ 4‏ 100 

ثورة النجف المسلحة ٠٠١١ :)1١9١5(‏ 


جح - 

الجريان» عداي: ٩۷‏ 

جریش › آلان: وفنا 

جعفر الصادق (الإمام): 40 

الجعفري» ابراهيم: ۰۲۰۱ ۲۱۳ 

الجلبىء أجد: ۱۷۸ ۱۹۲ ۲۰۹- ۷١۲۰ء‏ 
tr‏ 

الجماعة الإسلامية (العراق): ۲٣۳‏ 

حال الدين» مصطفى : 4۹4 

جمعية اتفاق إسرائيل فى بغداد: ۸۲ 

جمعية الإسكان اليهودية : ۷۸ 

الجمعية الكنسية التبشيرية: ۷۸ 

جنجز (العقيد): 1١79‏ 

الجواهريء عماد أحمد: ١1ء ٦۷‏ 

جونز» هارفورد (المقيم البريطاني في 
بغداد): ۵۷-۵٩‏ 

جيري (الرحالة البريطاني): ٩٦ ٥٤-٥۲‏ 

جيش الشيانة : 45 


50 


دح - 

الحاج سعدون» عمران: ٩۷‏ | 

الخاج سكرء عبد الواحد: ١٦ء‏ 1۷ 

الحبوبي» محمد سعيد: ۱٤۸‏ 

الحرب الأمريكية ‏ البريطانية على العراق 
CAY (°°)‏ ساكل IF‏ 
كلل IY 5-51٠ oY CO‏ 
مل CIA CAY‏ “قل TT‏ 
CTI f°‏ ككل الك TTA‏ 
YVE (YY ۹‏ 

الحرب الأمريكية على أفغانستان :)7١١١(‏ 
CY CTY °‏ ا YTA‏ 

حرب الخليج (۱۹۹۰ - ۱۹۹۱) : ۰۲ 

1894/8٠(ةيناريإلا_ةيقارعلا الحرب‎ 
°° 494 (AAA 

الحرب عل الإرهاب: ۱۹-۱۸ء لال 
CITT ,.:5-١‏ 110-1(« °4« 
oYYTI-YYO0 CTT «(14‏ الالال 
714-48 

الحرب الفارسية ‏ البريطانية (/ل4601١): ١78‏ 

الحر كة الصهيونية : ۷۸-۷۷ ۸۲ 

۱۹۷ 1۷ ۲٠-۲۳ حركة طالبان:‎ 
of 5ت‎ “TTA <c¥10 1۲ 
104 «YOV «Yoo 

حركة المؤتمر الوطنى العراقی: 1۱۹۲ء ٠٠١‏ 

الحريات العامة: 141 ٠‏ 


الحريات المدنية: ٠١١‏ 

حرية المرأة: ٣۲‏ 

حزب الاتحاد الوطني الكردستاني: ٠٠٠٠‏ 
4 

الحزب الإسلامي العراقي : 21575 ۲٤٤‏ 

حزب البعث العربي الاشتراكي (العراق): 
of oY‏ لاد YY‏ 6ك 


4¥ 


V۹ لز‎ 15-76 (TYA 
۲٣۳٤ ء1۱۷١ حزب الدعوة الإسلامية:‎ 
YET °7 : الحزب الشيوعي العراقي‎ 
۱ 
١57 حزب العمال الثوري (سوريا):‎ 
°۲ : حرب العمل (إسرائيل)‎ 
۲٠۷ حزب الليبرالية العراقية الحديدة:‎ 
15 الحسين بن على (شريف مكة):‎ 
حسين» صدام: 1¥ الاك ل‎ 


-١9ا/ل‎ 192-١9 CAS 1Y 
مهل ا °4( ال‎ 
TEA YEY كاك ل‎ “f10 
ككل‎ cYoOoV=¥07 1505-6 
-17/١ 0 تلت‎ 5-5 

YYA الشف‎ 


الحضارة العربية- الإسلامية: 1١85‏ 

حق تقرير المصير: 8057١غ؛‏ ۱۷۷ 

حق العودة: ۱۷۳ 

20514 ۱0۹-۱0۸ ۲٤ حقوق الإنسان:‎ 
YVE (TOA (Y° E هلال‎ 

الحكيم» محمد باقر : ۰۲۰۰ ۲۰٦‏ ۲۱۳ 
شف YET YF‏ 

حلف بغداد :)۱۹٥٥(‏ ۲۰۲ ۲۱۱ 

حمادة» حسين عمر : هلا 


o0 


حناء حمانة: ۲1٤-۲۹۳‏ ۲۹۸-۲۹۷ 
حوراني» لبرت : ٠٤٤‏ 
i e‏ 
خاتمى. محمد: 7١5‏ 
الخالصى. جواد: 1۱۳ TY‏ 


الخالصى» محمد مهدي : ۰۱۰۹-۸ 
1Y 11۳-۹‏ 


خرازي» كمال: 7170 

الخراساني؛ محمد كاظم (آية الله): 176- 
١ 1۷‏ 

خزعل (شيخ المحمرة): ۷١‏ 

ا لخصوصية الثقافية: 15 ۲٠١ ٩۱‏ 

خطاب الاستشراق: 1Y‏ 

الخطاب الاستعماري الكلاسيكى: 1۲ 

الخطاب الإيراني المعاصر: 48 

٩۱ » ٤۳ : خطاب الحرية‎ 

خطاب ما بعد الاستشراق: ٦۷‏ 

خليل زاد» زلماي: ۲۳٣‏ 

الخمينى (آية الله): ٤۹‏ 

الخنوئي» أبو القاسم (آية الله): ۷١۲٠ء‏ 
YA 0٠١-14‏ 

الخوثي» عباس: ۱۲۷ 

الخوثي» عبد المجيد: ۰۱۲۸ ٠۹۹‏ 

ات 

دان» جنيفر: ۲۵۹ 

داود باشا: 0۲ 0۸-0۷ لا 

دجيرجيانء إدوارد: 1١99‏ 

الدراسات الاستشراقية: ۳۸ ۸٠‏ 

دراور (الليدي): ۱۹۷-۱۹٤‏ 

الدمج الإمبريالي الحديد: ٤۲‏ 

دوبس» هنري کونوي: 0ك ۰1۸-٩۷‏ 
45 

دوغلاس» نورمان: 617 2514-7531 
V1 34‏ 

دوندس » هنري : ٥١‏ 

٠٤-١۳ : الديكتاتورية‎ 

ديلاوي» توماس : ١84‏ 

۷١ ٦۳ : ديل (الميجر)‎ 

الديمقراطية: 14-17 ۲۱-۲۰ ١٠ء‏ 
الال AF‏ 40-84غ. 161 6ه1- 


الاكل الاك AIVTI=V0 IVT‏ 
۷A‏ كلل 141-14۰ AAT‏ 
YA (۹°‏ ل ارا 
الديمقراطية العربية : ٠١١‏ 
الديمقراطية فى العراق: ٠١١‏ 
الديمقراطية الليبرالية : ١1۱۷ء ٠۷۸‏ 
ديولافوي» جان: ۱۲۲-۱۲۱ 
از = 
رامسفيلد» دوتالد: ۰۲۰۷ ۲٤۱‏ 
الربيعى» موفق: ٠۹۹‏ 
الرصاقى؛ معروف: ۱۳ 217448 
1١14-4‏ 


' رضابهلوي (شاه إیران) : ٤۹‏ 


الرفيعى» هادي: ۱۱۳-۱۱۲ ۱۳۲ 
رمزية الحجاب والعقال البدوي: ۲۲ء 707 
روزء جاكلين: ۰۲٦۲‏ ۹۹٦۲ء‏ ۲۷۷ 
رۋوف» غادل: 1۹۴ 1١5-1١86‏ 
ریتشارد» جو: 7175 
ات 
زبيدة» سامى: ۸۰ 
الزرادشتية : ٤٤‏ 
زرارة بن عدس التميمى: ٤٤‏ 
الورقاوق» أبوعتصعي: 1۹21۸5١‏ 
YYT-YYo FF‏ 11140744 
الزهاوي. جميل صدقي: ۱۳ء 244 ۱۳۷- 
AEA AMEY AEE ATA‏ 
1V0 (0010¥ (0°‏ 


= اس - 
سالم» محمد زكي: ۷٥‏ 
ساندمان» روبرت : 548 
سایکس مارك : 25٠0‏ ۷۳-۷۲ 


سبئسر » هربرت: ۸۷ 


14۹۸ 


سجن أبو غريب: ۰۱۷ لا/ا1. 21694 
4-1 1 ”ا 


سجن غوانتنامو: ١غ‏ 
السعدونء عبد المحسن: ۸۲» 14-48 
سعينذهادوارد: 8.7٠١ 6.١5‏ 21589 


AACA «(1¥ «(111-06۵ 
TIT OYYA YY 

سعيد باشا: ۷٤‏ 

السفارديم : تن 


السلاح النووي: ۰۱۳ 0371 571 
السلام الشامل مع إسرائيل: ١74‏ 
سلمان» محمد حسن: ٩۷ ۰۷٦‏ 
سليمان باشا (الوالي المملوكي) : ٥۸-٥۷‏ 
السليمان» علي : ۹۷ ١‏ 
سوتر (الكايتن): ٠لا‏ 
سولوفيتش» سارة: 2751 7708-1750 
سوليفان» أندرو: ۲۷۲ 
سياسة التعجيم : 0۰ 
السياسة الخارجية الأمريكية: 2156 ۱۸۳ 
السيستان» على (آية الله): 2175-1176 
YAT 141‏ 

سیکوباه» عمر: 184 . 
سيل» باتريك: ١68‏ 

- ش - 
الشابندرء عزت: ٠۹۹‏ 
الشابندرء موسى: ۷۹ 
شاتوبريان» فرانسوا رينيه دو: ۲۲۰ 
شارون» أرييل: ١74‏ 
شامبليون: ۱۳۹ 
الشامندر» محمد سعيد: ۷١‏ 


الشبيبىء محمد باقر : ۴۷ ۲٤ء‏ ۲ - 
1o0‏ 


شرارة» وضاح : ١97‏ 

الشرق الأوسط الأكبر: ٠۸۸‏ 

-۲٠۲ ۱٦۳ الشرق الأوسط الكبير:‎ 
YN Y4 Y0 fF 

شركة بيت لنج : 7 

شركة عبد العلي أخوان: ۷۷ 

شركة كري مکنزي : ۷٤‏ 

شركة الهند الشرقية_الإنكليزية: ›۵١‏ 
8ه Vo-VE‏ 

الشقيري» أحمد: ۱۷١‏ 

الشهبندرء عبد الر حمن: ۷۲ 

شوارتزكوف» نورمان: 516 

شوقينمانء جان بيير: ۱۸۱ 

الشيرازي» محمد تقي (آية الله): ٠١۷‏ 
YAT IIT 411‏ 

الشيعة العراقيون: 20١.١‏ 97, ۹۷- 


للم ANT‏ اولس" لل 
CIIA-II¥Y 1°‏ كل TY‏ 
AYY ATI-1¥Y MF‏ 146“ 
ا 14۷ 1°11« cT‏ 
YTYT-TTY ofIY (Y°¥-°0‏ 
YAT-YAY VY (Fo‏ 

۲٠٤ الشيوعية:‎ 

- ل ص‎ ٠ 
1١95 الصابئة:‎ 


صاغية» حازم : ۱1۹۳ء ۱۹۷ 
الصراع العثماتي ‏ الإيراني: ٠١۸‏ 


صفوة» نجدة فتحى : ۷١‏ 

الصفوية : 15-6 

الصفویون: 255-560 ۲۸۲-۲۸۱ 
صليبي » كمال: ۱۷۱ 

صموئیل› هربرت : ۱٤۹‏ 

۱1۸٤ ۸۳-۸۲ ۷۸-۷۷ : الصهيونية‎ 


۲۹4 


الصور الاستشراقية: 1١‏ ۲۳-۲۲ء ۷٤ء‏ 
«oF‏ الى "الو 1ك YE‏ الل 
كاه 1° 

الصور ما بعد الاستشراقية: 2١١‏ 2155 
° 508" 


طت 
الطالباني» جلال: “T4 T1 70١5‏ 
YET "5" (T°‏ وق 
۲۹ 


الطاهرء عبد الجليل: ٦٦‏ 

الطائفة السنية: ٠١١‏ 

الطائفة الشيعية: لا ٠١‏ 

الطائفة اليهردية : ۷۳ء ۸۲ 

الطائفية: ۰۱۲۸ء ۱۷۸-۱۷۷ ۹۰ 
1۳ ° 

الطياطيائى» جعفر: ٠١۲١‏ 

الطباطبائي» سيد عبد القاسم (ميرزا): 
110 

الطباطبائي» كاظم كاشف الغطاء: ٠١۲‏ 

الطباطبائي» محمد باقر: 117 ٠۲۹‏ 

داظ د 
الظواهري» أيمن: ۲٠٤‏ 
-ع- 

عبد الحميد الثاني (السلطان العثماني) : 15 » 
١ 000‏ 

عبد المجيدء وحيد: ٠٠۱‏ 

عبد التاصر» جمال: ١14‏ 

العبطان» سليمان: ١76‏ 

العبطان»ء محمد: ٠٠١‏ 

»0۷ 6565-65 ء٤۸‎ ء٤٦ العشمانيون:‎ 
CIA «1°۰0 «A1 AF AY (YF 
الالال‎ 1-114 «1-1 


هال E1‏ 56 
«(1Y1 10۹‏ 78 
عجمى فۋاد: 17› ٠ه‏ 1۸6-1۸۳ 

1۹۳ 1A۸ 
747 ۰۱۸۸ عراق ما بعد الاستشراق:‎ 
۲٠۰ ۱۹۷-۱۹۴٤ عرب الأهوار:‎ 
۲۰١ : العرب السئّة‎ 
°1 191-16 : العرب الشيعة‎ 
1١514 عرفات» ياسر:‎ 
49 عزيزي» يوسف:‎ 
۲۲۸ عفلق» ميشال:‎ 
٠٤١ العقد الاجتماعى:‎ 
العقوبات الدولية المفروضة على العراق‎ 
YoV لالاى‎ :(** ۳-144۰) 
۲۷۸ ۲۰۷-۲۰۰٩ علاوي» إیاد:‎ 
۲۷۹ ۰۱۷٤ العلمانية:‎ 
٩٩ علي أوخان بہادر رستم:‎ 
”د‎ YYTA CTT عمرالملا):‎ 
1° «YoY 
۷١ العمري» موفق:‎ 
۲۲۲ عمليات الاستشهاد:‎ 
۲٤۸ عملية إعادة إعمار العراق:‎ 
7١7 :)١498( عملية ثعلب الصحراء‎ 
-ع-‎ 


غارنر» جى: ۹۸ ¥ 


106-1 


غريغسون (المقدم): 40 

غرين هاوس » ف. س. : 95-١‏ 
غلنرء إرنست : :148 
غورو(الجنرال): ۳۸ 

غیرتز › كليفورد: :18 

EEE 
1۳ : فاث» دوغلاس‎ 
٤۷ : فارانت (الليوتنات كولونيل)‎ 


o 


1١85 الفاشية:‎ 

فايز أياد» راجا باقر حسين: ١١5‏ 

فريدة (مطربة المقام العراقي): /ا١-258‏ 
° ااا c10‏ لوقك TVY‏ 

فريدمان» توماس: 218-١15‏ ۲۳ ۱۸۳- 
Af‏ فق 

الفساد ال الى : € ° 1-1 ا 1°۹4( I14‏ 
YAE-YAY «1۲73 «11۷-116‏ 

فضيحة سجن أبو غريب: 1۷» ۰۱۷۷ 
YVY YE TY‏ 

فكرةالجهاد في الإسلام: 2774 -۲۳١‏ 
خرف ل ارلا 

فندي» مأمون: ۱١١‏ 

فوغویه» أوجين مليشيور دو: ۲۲۰ 

فولتير» فرانسوا ماري أرويه: ۱۸۳ 

فونتانييه (القنصل الفرنسي): ۷٤‏ 

الفياض» عبد الله : ٤۲‏ 

فيسك» روبرت: ۲٤۸-۲٤۷‏ 

فيش (الكابتن): ٠٠١‏ 

فيصل الأول (ملك العراق): /ا248-9 
1° لض o1‏ 

فيلدمان» نوح : 1A4‏ 

اقبت 

القاجاريون: 55. ۸٤ء‏ مه 

قبائل البشتون الأفغانية : ۲٠۳‏ 

قبيلة بني تميم: ٤٤‏ 

القصاب› عبد العزيز: ٤٣‏ 

قورش الأخينى (الملك): 54 

القوميون الفرس : 0-۹ 

اك 

۷٤ : الكاثوليكية‎ 

كافاناغ» تريفور: ۲۷۴۳ 

كاننغ (السفير البريطاني في الاستانة): ٤۷‏ 


كراين» تشارلز: لالا, ۱٥۳-۱٥۲‏ 

كرزاي» حميد: ۰۲۰۹ ۲۳۱ 

الكرمل» أنستانس (الأب): ۸۹ء 1١6١‏ 

الكشميري ١‏ حسن : 66 

الكشميري» محمد مهدي: ١١١‏ 

كلينتونء بيل: ١14‏ 

كليود» آن: ۲۷۳-۲۷۲ 

كمبول (الملازم): ٠٠۸-٠١۷‏ 

الکواكبي» عبد الرحمن: 1۱۳۹ء -١41‏ 
10 

كوبر» سكوت: ۲۷۰ 

»۷۹-۷۸ 38580 كوكس» برسى:‎ 
١64 AA ۹1 

الكولونياليات الكلاسيكية: ۰۲۱ ۳۹ء 
Yoo (YoY (TA‏ 

CTI CTI AFT 1° الكولونيالية:‎ 
عق 5ق‎ CAA (VFT «04 EF 4 
IVT c<O0A هذل‎ ITT °۸ 
“T4 off 7-5١ AY 
هه"‎ (YoY TTA (° 

الكولونيالية الأوروبية: ٠۸۷‏ 

الكولونيالية البريطانية: ١٠ء ٠۲۰‏ الاء 
TTT YE YY °4 4E‏ 

کیبل» جيل : ۱۸٤‏ 

الکیلاني» رشيد عالي: ۷۹ 

كيلء جون: ۱۹۹ 

كيل سو: 5.5686 ۲۵۸ 

ال 

لآين (الكابتن) : 0/6 

اللاجئون العراقيون: ٠٠-۲۸‏ 

لاغوش»› مالكوم: 2577 (TY‏ لل 
YY‏ 

لامارتين» ألفونس دو : 1A۳‏ 


۳۰١ 


لائحة الوفاق الوطنى العراقية: ۲٠۷‏ 

٠١١۷ ٠٠-٤٩ اللغة الفارسية:‎ 

لنكولن؛ أبراهام : ١۷۷‏ 

لورنسء ت . ي . (لوزنس العرب): 1٦‏ 

لوريمر» ج. ج.: 257 2115 ۱۲۳ 

لونكريك» ستيفن هيمسلي : 218 ۰۵۸ 
114 

اللويجركا الأفغانية: ۰۲۰ ۰۲۱۹ ۲۲۹- 
۰ 

لويدء جورج: ۰۷۷ ۸۰ 

۱۸٤ ۰۱٦١ لویس»› برنار:‎ 

الليبراليات الجديدة: ٠١١‏ 

الليبرالية: 4015ل "الل ٤٠-1۳۷‏ 
7 مهلل لهل 104-100« 
AU‏ لاتلل مكلك الاك “IVE‏ 
حال AA IAF 141 IAT‏ 
؟ 

الليبرالية العراقية: 1861 0115 -5١05‏ 
۹۷ 

الليبرالية الغربية: ۰۱۸۳ ٠۹۱‏ 

الليبراليون الجدد: 2168 ١١۱١ء‏ 1۱۷۷ء 
۲۰٦‏ 

الليبراليون العراقيون: ۳١٥۱ء‏ 10۹٠ء‏ ۱۷۷ 

ليتئن» إيلينا روس: ۲٥۸‏ 

ليدين» مايكل: ۱۸٤‏ 

يفى شتراوس» كلود: 2١06‏ ۲۲۲ 

0 

ما بعد الاستشراق السياسى: ۰۳٤‏ ۱۸۲ 

-٠١ ۱۲-۷ ما بعد الاستعمار القديم:‎ 
0 ارك‎ Fo عد‎ 
A‘ VY لاف كف هلل‎ «0° cE 
AYY-10 AY o0 AY 
A1 CNOA كلملل‎ AMET APF 


IAI IVA AYE «1۷-C 
«14۸-1417 14-1۹1 4 
= Yo اكولاسلا‎ (f+ 
cTYo-=¥14 CTIV-117 18€ 
“Y1 85لا‎ «4-۸ 
~01 T4 TEV ۲ 
55-5575 «¥040 (f07 
كوك الال :لولاا‎ (171 

58-68 


مارکس» كارل: 557 
الماسونية : \EA < 1671 < ¥1-¥o‏ 


مالکول (الجترال): 58 


مالكين» ميشيل : ۱۸۷ 
مان (الكابتن): ۷۰ 
المانوية: ٤٤‏ 


مايرزء ريتشارد: ۲۰۸ 

مبادرة روجرز: ١14‏ 

مبدأ الملكية الصغيرة للأراضى: 515 

المتقفون التقليديون العراقيون: 78 

المجتمع العشائري : 317 

ء٠١‎ :)7٠١6( مجزرة جسر الأئمة (بغداد)‎ 
cY°*° AAA IFAT 48ل‎ 
YA°* «۳4-۸ 

المجلس الأعلى للثورة الإسلامية (العراق): 
1Y7‏ لل ري YTE-TTY‏ 

المجوسية: 45 

215511١59 ء٠٠١١ المحافظون الجدد:‎ 
5١7 TE IAA ىك‎ AVY 
5٠ الكل لل للا‎ (1۲ 
Y٤ 

المحافل الماسونية فى البصرة: ۷١‏ 

محمد رضا بهلوي (شاه إيران): 54 

محمد الصيهود (أمير ربيعة): ۹٩۷‏ 

محمد علي الكبير (والي مصر) : ٥۷‏ 


a 


محمود الثاني (السلطان العثماني) : ٥۷‏ 

المخيال الاستعماري البريطاني: ٠٤‏ 

المخيال الأمريكى الغربي: ٠۸١‏ 

المخيال السياسى الأمريكى المعاصر: ٠٤‏ 

الخيال السياسي والشقافي مابعد 
الاستشراقي : ۲۲۲ : 

مخيف آل شخير : ٦۳‏ 

مذبحة كريلاء :)۱۸۸٤(‏ ۱۰۷ 

المذهب الجعفري: ٤٥-٤٤‏ 

المذهب الشيعى: ۳٤ء ٤4‏ 

المذهب الشيعي الصفوي: ٤٣‏ 45 

المرأة الاستعمارية : ٩۷‏ 

المرأة الأفغانية: ۲٠۹‏ 

المرأة الإنكليزية: ۹٩۷‏ 

المرأة الشرقية : ۰۲۷ 279 ۲٣۳‏ 

المرأة العراقية: 5 27 ۲١۸‏ 

المرأة العربية: 275757-751 5114 

مراش» فرنسيس: ١55-١5٠‏ 

المركزية الأوروبية: ١87‏ 

٤٤ المزدكية:‎ 

المستشرقون الاستعماريون: ١7‏ 

المستشرقون الجدد: ۱۳ء 1۸-1۷ 1۸۳ 
V1 +‏ 

مسجد الاستشراق الكلاسيكى: ۱۸١‏ 

مسجد ما بعد الاستشراق: ۱۸1 

مسؤدة الدستور الدائم للعراق الجديد: 
۱۸٤‏ 

المسيحية الصهيونية: ٠۸٤‏ 

مشروع الشرق الأوسط الجديد: ٠۸۹‏ 


مصطلح الإصلاح: ۱۳ء ۸٩‏ 
مصطلح الحداثة: ۱۳ء 44 
مصطلح الحرية: ۱۳ » ۸٩‏ 


المعارضة العراقية : ۱1۸۸ء ۲٠١ 27٠١‏ 


معاهدة سايكس - بيكو y۲ :)١915(‏ 
مفهوم التحرير من الاستبداد: 1۳ 


مفهوم المواطنة : ٠١١‏ 

١١١ ۲١۸ 1۷ المققاومة العراقية:‎ 
5760ل‎ CTE ofIE 11 
Yo EA 


مكف رسون (النقيب) : 045 

منظمة أنصار الإسلام: ۲۳۳ ۲٤١‏ 11494 

منظمة الأيباك اليهودية : ۲۰۷ 

منظمة التحرير الفلسطينية : ٠۷١‏ 

منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان (هيومن 
رايتس ووتش): ۲۷٤‏ 

منظمة العفو الدولية: ۲۷٤‏ 

منظمة كاهانا حيّ (أمناء جيل الهيكل): 
Y1 14‏ 

المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط 
(۱۹۹۱: مدريد): ۲۰۲ 

مؤتّر سان ريمو (۱۹۲۰): ۱۳۳-۱۳۲ 

مؤتمر مدريد للمانحين ۲٤۸ :)٠١١7(‏ 

مؤتمر المعارضة العراقية (1997: صلاح 
الدين): 7١6‏ 
-(5005: لندن): ۲۱۲ ۳۵ 

-04 214-17 مودء ف. س . (الجئرال):‎ 
AQ cAI لكل شك 14 الاحؤلال‎ 
IFA ITT «11۲ «4£ 675-0١ 
\V° IOV لهل‎ «(10° MEA 

مؤسسة شاؤول حيوليم حسقيل: ۷١‏ 

مؤسسة صباح سلمان ساسون وشركاه: ۷١‏ 

مؤسسة عبودي جزري أخوان : ۷٦‏ 

موند ألفريد: ۷۸» ۸۲ 

کا 
النابلسی» شاکر: ۱۹۲-۱۹۱ ۲۲١‏ 
تانليون وات 01-00« 4ه 


۳ 


النائيني» حسين (الميرزا): ۹٩‏ 

النجفى» محمود الهندي: ١١١‏ 

النجفي» هاشم الهندي: ١١١‏ 

النخب الثقافية التقليدية: ٤۲‏ 

النخب الدينية الشيعية: ١919‏ 

النخب السياسية والعسكرية الأمريكية: 
۱A۳‏ 

۳۲-۴١ النخب العراقية: ۱۳ء ۱۹ء‎ 
I1۳4 (FY (IFT CA CA 
\or-10۲ ١58-١1 
YTA-TYY 

النخب الليبرالية العربية: ۰۱٦‏ ۱۹۳ 

النخبة الثقافية العربية: ١٠ء 1۷-١١‏ 
۹ ۳ 1-1 014° 14۲“ 
14۳ 01 

النخبة العراقية الحدائوية : ۳۸ 

-۲١۷ 275684 ۲٥-۲۳ : النساء العراقیات‎ 
1۰ 

نظام دعاوى العشائر (۱۹۱۸): c1٩‏ ¥ 
A‏ 


١6 


نقاش» اسحق: ۸۰ 
النقيب» طالب: ٠٠‏ 
النموذج الكولونيالي البريطاني: ٦۷‏ » 1۸۷ 
النوابء مظفر: 1١١5‏ 
نوار» عبد العزيز سليمان: ۷٤ء‏ ٤۷ء ۱١۸‏ 
نيو مارش (العقید): 2378-11 ۱۱۷ 
اه - 
هاردنج » أ.: ۱۱۸-1۷ 
الهازارا (الشيعة الإسماعيليين) في 
أفغانستان: ۲۳۲ 
هالدن (الجنرال): ١لا‏ 


الهذالء فهد: ٩۷‏ 

هرتزل» ثيودور: ۷۷ 

الهلاليء عبد الرزاق: ١67‏ 

هوزنبل » مارك : ۲٤۸‏ 

هیوارد» جون: ۲۷۲ 

= - 

الوائلي» إبراهيم: ١6١‏ 

۳۸ 255 وسائل الإعلام الأمريكية: ۱۷ء‎ 
0V f0 511-71-١ 4 
Yo0A۸ 

وسائل الإعلام الأوروبية: ۳۸ 

وعد بلفور :)١915(‏ ۱٦ء‏ ۱۷۱ 

وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية 1 ©) 

۲۰۷ :A) 

ولاية الفقيه: ٠۹۹‏ 

ولسن» أرنولد: ۰٩۸‏ 15-46 

ولسن (الضابط): ١654‏ 

ولسن (الكابتن) : 58 

الوهابيون: ۳۳ء ۲۲۱ 

الوهابيون الجدد: ۲۲۱ 

وولفوويتز» بول: ۰۲۰۷ ۰۲۳۵ 2574 
YY 26‏ 

ويب (الكابتن) : ٠٠١‏ 

ويلدافسكىء أرون: 1١85‏ 

و 6 107« 1¥ 

وينغت (الکابتن): ٤۳‏ 

- ي = 

اليزدي» كاظم (آية الله): ١۳١١ء -٠١١‏ 
YAT 1V‏ 

۷١ ۷٤ اليهود العراقيون:‎